طرح الإشكالية : إن الإنسان كائن مدني و اجتماعي بطبعه لا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الآخرين فهو يعيش دائما ضمن جماعة معينة و يقتضي ذلك تشكيل نسيج من العلاقات التي يحكمها مبدأ التأثير و التأثر سواء كان هذا التعايش في تكامل و انسجام أم كان في تنافر و صراع فكل إنسان يسعى للتعبير عن ذاته من أجل اثبات وجوده ولقد حدث جدل بين الفلاسفة حول السبيل المؤدي الى ادراك الذات فبعضهم يعتقد ان الامر يتوقف على الوعي بها فقط فالأنا يتشكل بمفرده عبر الشعور ، بينما البعض الآخر يصر على ان ادراكها يحتاج لوجود الغير فمشاركة الاخر اصبحت امر ضروري لذا نتساءل : هل إدراك الفرد لذاته يكون بانسجامه مع الغير أم بانفصاله عنه ؟ و بعبارة أخرى : هل معرفة الذات تتوقف على الوعي أم على الغير ؟
محاولة حل الإشكالية :
الموقف الأول :
يرى بعض الفلاسفة ان معرفة الذات تتوقف على وجود الوعي و الأنا ، لذلك قال سقراط " اعرف نفسك بنفسـك " و الدليل على ذلك أن الوعي باعتباره حدس نفسي يمكن المرء من إدراك ذاته و أفعاله و أحواله النفسية إدراكا مباشرا دون واسطة خارجية كأن نشعر بالوحدة أو الخوف أو الفرح و غيره ، و بواسطته يدرك المرء أن له ذات مستقلة و متميزة عن الآخرين يقول مان ديبران " إن الشعور يستند إلي التمييز بين الذات الشاعرة والموضوع الذي نشعر به "
الأنا هو شعور الذات بذاتها و الكائن الشاعر بذاته هو من يعرف أنه موجود و أنه يدرك ذاته بواسطة التفكير فلقد شك ديكارت في وجود الغير و في وجود العالم على أساس أن الحواس مصدر غير موثوق في المعرفة و أن معرفتنا السابقة بالأشياء غير دقيقة و غير يقينية لكنه يعتبر ان ما دام الشك موجود فلا بد من وجود الذات التي تشك و ما دام الشك ضرب من ضروب التفكير فقد قال في هذا الصدد " أنا أفكر اذن أنا موجود " وبالتالي برهن ديكارت على وجود ذاته من خلال التفكير الممنهج دون الاعتماد على أحكام الغير وذلك بواسطة الكوجيتو حيث يرى بأن كل ذات تعتبر ذاتها حقيقة مكتفية بذاتها وتملك يقين وجودها بشكل فردي عبر آلية التفكير فالإنسان يعي ذاته بذاته دون الحاجة إلى الغير حتى ولو كان هذا الغير مشابها للذات ، نفس الفكرة تبناها جورجياس و بروتاغوراس قديما عندما قالوا " الإنسان مقياس كل شيء فما يراه خير فهو خير و ما يراه شر فهو شر " أي أن المعرفة تابعة للذات و ليست مرتبطة بأمور خارجية .
و يري مونتاني أن المعرفة الذاتية تتم فقط بالوعي لأنها معرفة يقينية غير مزيفة ولان الغير لا يستطيعون إدراك ما يدور في كياننا الباطني وهذا ما عبر عنه بقوله : "لا احد يعرف هل أنت جبان أم طاغية إلا أنت فالآخرون لا يرونك أبدا " ، وعليه فان الوعي هو الذي يحدد معرفة الذات
النقد: لقد وفق أصحاب هذا الطرح في عرضهم هذا خاصة وأنهم بيّنوا لنا كيف أن الذات تستطيع التعرف على ذاتها من خلال وعيها وشعورها بأناها ، لكن ما يعاب عليهم أنهم بالغو كثيرا فيما ذهبوا إليه خاصة وأنهم اختزلوا دور الأخر ، هذا و إن الأحكام الذاتية غالبا ما تكون مبالغا فيها ، و وعي الذات لذاتها ليس بمنهج علمي لأنه لا يوصلنا الى نتائج موضوعية في حين أن الذات لا يمكن أن تشاهد ذاتها بذاتها فالفرد لا يمكن أن يتأمل ذاته و هو في حالة غضب أو فزع لهذا يقول أوغست كونت "الذات التي تستبطن ذاتها كالعين التي تريد أن ترى نفسها بنفسها" ويقول أفلاطون أيضا : " إن ما يقدمه لنا الوعي ما هو إلا ظلال وخلفه تختبئ حقيقتنا كموجودات " و يرى فرويد أن معطيات الشعور ناقصة جدا و أن الكثير من الأفعال تصدر عنا و لا نعي أسبابها مثل الأحلام و النسيان و فلتات اللسان ، فالحياة النفسية تبقى غير مفهومة لأن الحالة اللاشعوريـــة لا يمكن فهمها.
الموقف الثاني:
و يرى البعض الاخر من الفلاسفة ان الغير هو الذي يحدد معرفة الذات و المقصود بالغير الطرف المقابل ، المخالف و المعارض، وما يؤكد ذلك أن المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد و التفاعل الذي يحصل بينه و بين الآخرين هو الذي يمكنه من إدراك نفسه و اختلافه عن الآخرين ، هذا الغير الذي يواجهنا يصدر أحكاما حول ذواتنا مما يدفعنا الى التفكير في أنفسنا ، يقول سارتر "وجود الآخر شرط لوجودي ,وشرط لمعرفتي لنفسي" فبالقياس الى الغير ندرك نقائصنا و عيوبنا أو محاسننا ، و أحسن مثال على ذلك أن التلميذ يعرف مستواه من خلال تقييم الأستاذ له ،كما أن وجوده مع غيره يحد من حريته فعندما يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية وما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها، هكذا يصبح الغير جحيما وهو ما تعبر عنه مقولة سارتر الشهيرة "الجحيم هو الآخرون" ولذلك يعتبر سارتر أن وجود الغير شرط ضروري لوجود الأنا و وعيه بذاته.
كما يؤكد هيغل أن الشعور بالأنا يعتمد على التناقض بينه وبين الغير ولولا وجود الغير لما قال الانسان عن نفسه انا ومادامت العلاقة بين كل متناقضين هي علاقة صراع فان علاقة الانا بغيره تتأسس على هذا الصراع حيث نجد الانسان يسعى الى التغلب على غيره ليثبت ذاته لذلك يقول "إن الانسان مستعد لأن يخاطر بحياته ليقضي بالتالي على حياة الآخر كي ينال اعترافه و يفرض نفسه "وهذا ما يوضحه هيغل في جدليته الشهيرة المعبرة عن علاقة التناقض التي تجمع السيد و العبد ، فكل انسان يحاول إثبات ذاته على حساب الآخر الذي يعتبره منافس و منازع يسعى لتحطيمه.
كما أن للمجتمع دور فعال في تنظيم نشاط الفرد و تربيته و تنشئته منذ الوهلة الأولى لذلك يقول واطسن" الطفل مجرد عجينة يصنع منها المجتمع ما يشاء" وذلك من خلال الوسائل التي يوفرها ، فكلما كان الوسط الاجتماعي أرقى و أوسع كانت الذات أنمى و أكثر اكتمالا ، و عليه يمكن التمييز بين الأفراد من خلال البيئة التي يعيشون فيها ،فمن غير الممكن إذن أن يتعرف على نفسه إلا من خلال اندماجه في المجتمع و احتكاكه بالغير ، فنحن نتعرف على الأناني مثلا من خلال تعامله مع الغير ، كذلك الأمر بالنسبة للفضولي و العنيد ...الخ ، و لو عاش المرء منعزلا في جزيرة بعيدة لما علم عن نفسه شيئ، لذلك يقول مارتن "الانسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الاخرين "
إضافة إلى أن التواصل مع الغير هو الأساس الأنسب لمعرفة الذات ، كما يرى ماكس أن التعاطف هو الطريق المعبر عن التواصل الحقيقي بالغير، لأن التعاطف أو المشاركة العاطفية عمل قصدي يتجه نحو الغير مثل: الألم الذي يشترك فيه الأب و الأم عند وفاة ابنهما، و مثل مشاركة الغير أفراحه و أحزانه، لذالك يعتبر الاخر مقوما اساسيا لمعرفة الذات و على هذا الاساس يقول سارتر"ان الاخر ليس شرطا لوجودي فقط بل هو ايضا شرط للمعرفة التي اكونها عن نفسي "، اذن الغير ضروري لإدراك الذات .
النقد: صحيح أن الفرد يعيش مع الغير و يتواصل معه ، لكن هذا الغير لا يدرك منا إلا المظاهر الخارجية التي لا تعكس حقيقة ما يجري بداخلنا من نزوات خفية و ميول و رغبات ، و هذه المظاهر بإمكاننا اصطناعها و التظاهر بها ، كالممثل السينمائي الذي يصطنع الانفعالات . كما أن أحكام الغير تتم باللغة و اللغة كما يرى برغسون عاجزة عن وصف العواطف وصفا حيا ، إضافة إلى أن العلاقات الإنسانية لا تكون دائما في صورة تواصل و لا تناحر و بالتالي فمبدأ التناقض و الصراع لا أساس له من الصحة و لا يؤدي إلى معرفة الذات.
التركيب:
إن معرفة الذات لا تتوقف على أساس التواصل وحده ، ولا شك ان حضور الغير ضروري لكن قد يكون الغير عائقا ، لذا يمكن القول بأن الذات تتكون من خلال التفاعل القائم بين الأنا والآخر وهذا ما أكد عليه غابريال مارسال عن طريق التفكير في الذات دون العزلة عن الغير "الانا توجد بوجود الغير . و الغير لا وجود له إلا بالأنا " أي تشكيل تكامل بين الأنا والأنا الجماعي ، لذالك نجد الانسان يلاحظ غيره ويحاول فهم ذواتهم وفي نفس الوقت يسعى الى المقارنة بينه وبينهم ومن ثم يعمل جاهدا على تصحيح نظرتهم السلبية لذاته ومن الامثلة على ذلك ان الانسان يعي بأنه يتميز بالذكاء اللازم ولذا نجده يسعى الى اثبات ذلك للغير من خلال تصرفاته فالإنسان يعتمد على وعيه بذاته بالدرجة الاولى ولكنه لا يلغي الاخر فهو يعترف بفضله عليه فلا يوجد شخص ينكر دور الاهل في بناء ذاته وصقلها ولا يوجد انسان عاقل يرى انه مجرد تابع للآخرين، و بتالي فان الوعي والغير شرطان ضروريان لمعرفة حقيقة الانا .
حل الإشكالية:
إن إدراك المرء لذاته يستلزم وجود الوعي و الغير في نفس الوقت ، لأن الإنسان في تعامله مع الآخرين من أفراد مجتمعه يتصرف بوعي و يوفق بين ما يقوله الآخرون عنه و ما يعتقده في نفسه وإلا سوف يكون عرضة للاستغلال فتنشأ علاقة صراع و تنافر بينهما فالشخصية التي تمثل الأنا تتكامل فيها الجوانب الذاتية والموضوعية ،و خير ما نستشهد به ان التشريع الاسلامي قضى على هذا الصراع بين الانا و الغير عندما حدّد حرية الانا و الاطار الذي يتحرك فيه الغير ، اذن شرط الغير لا يكفي لمعرفة الانا و الشعور بالذات فلابد من حضور الوعي وشعور الانسان بذاته متوقف على ثقافة التعايش والاحترام ومبدأ التعادل بين الانا و الاخر.