السلام عليكــم ورحمـة الله وبركاتــه ،،
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما أن بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا إذ كان في ثياب مرقعة بالية وهو فتى قريش المدلل الذي عاش في النعيم والرخاء طول حياته.
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون: "كان أعطر أهل مكة"..
ولد في النعمة، وغذّي بها، ولم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه مثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
إسلامه
ما إن سمع الفتى عن الدين الجديد وسمع أن الرسول ومن آمن معه يجتمعون في دار "الأرقم بن أبي الأرقم" حتى عزم وما تردد، عزم على إراحة قلبه وتبين الحق من الباطل، ومضى ذات ليلة نحو دار الأرقم؛ ليسمع من محمد هذا الذي شغل مكة كلها بدعوته الجديدة، وما إن جلس مصعب أمام النبي، واستمع إلى ما تلاه على مسامعه من آيات بينات، حتى أشرقت روحه واهتز جنانه، وانطلقت من قلبه قبل شفتيه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..
أسلم مصعب والمسلمون في وضع عصيب شديد من العذاب والنكال الذي تصبه قريش على رأس من أسلم، لكن مصعبا لم يكن يخشى شيئا من ذلك فليس على ظهر الأرض قوة ترهبه سوى أمه "خنّاس بنت مالك" التي كانت تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت لها هيبة تصل لحد الرهبة.. وأمامها أعلن مصعب أنه آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، ومضى يتلو على أسماع عشيرته وأشراف مكة مجتمعين القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به نورا وحكمة.
فما كان من أمه إلا أن حبسته في ركن في دارها، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين إلى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه، وغافل أمه وحراسه، ومضى إلى الحبشة مهاجرا تاركا نعيم الدنيا كلها خلفه، لم تنازعه نفسه إلى الرفاهية ولا الحلل الزاهية بل إلى جنة عالية قطوفها دانية، فلم يطل به التفكير في الاختيار بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة..
أول سفير في الإسلام
وبعد عودته من الحبشة اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره إلى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدعو غيرهم للدخول في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم.
وهكذا أصبحت حياة مصعب الخير هجرة من بلد إلى بلد، لا يستقر في موطنه بل صار سفيرا للإسلام، الذي وهب نفسه من أجله، ولم يعد لنفسه من نفسه شيء، وبحق حمل مصعب أمانة رسول الله إلى أهل المدينة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه وإخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا، وهيأ مصعب المدينة لاستقبال رسول الله وصحابته لتكون عاصمة الإسلام وموطن رسول الله صلى الله عليه وسلم..
استشهاده
يجاهد مصعب بن عمير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرج معه للجهاد لرفع راية الإسلام، وهانحن في غزوة أحد، وها هو القتال يحتدم، وها هم الرماة يخالفون أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وها هو مصعب بن عمير يدرك الخطر، فيرفع اللواء عاليا، ويطلق تكبيرة كالزئير، ويمضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء إليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، فجاءه أحد المشركين فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه في صدره، فوقع مصعب، وسقط اللواء..
ما بعد الشهادة
ثم لا يترك مصعب حتى بعد موته إلا أن يؤكد الفداء ويذكّر الناس وإلى يوم الدين أنه ضحّى بكل شيء في سبيل الله، ضاربا أروع الأمثلة في تجاهل غرور الدنيا، وتفضيل ما عند الله على متاعها الزائل..
يروي هذا الموقف خباب بن الأرت رضي الله عنه فيقول: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة (عباءة).. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر"..
ثم وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه"..
ثم ألقى نظرة على بردته التي كفِّن بها وقال: لقد رأيتك بمكة، وما بها أرقّ حُلة، ولا أحسن لمّة منك. ثم هاأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
"إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة"