[align=center]--------------------------------------------------------------------------------
بقلم الكاتب الكبير: يحيى جابر(صاحب كتاب كلمات سيئة السمعة )
عزيزي بيل غيتس حين قررت الدخول إلى مغارتك الإلكترونية ، كنت مثقفا يدويا ، ولا حزب يأويني وسط هذه العاصفة المعلوماتية الكونية التي هبت علي فجأة وأنا عار تماما . حتى كنزة القصيدة الصوفية لم تدفئني ، وكذلك شال المقال ، ولا قبعة الصحافي ، ولا معطف الرواية . عاصفة قوية وبرد قارس وقلبي يرتجف ولا فراش فكريا يضمني ويحميني . . ثم وقعت في مغارتك في الجوار .
وقعت في حضن الكومبيوتر ، أكبس الأزرار وأبتهج بجهلي ، والإنسان عدو ما يجهل . كرهته في البداية لكن الزمن نفد مني ، فتواضعت ، وانحنيت واستسلمت لاختراعك كفأر ، كهذه الـ (ماوس) بين أصابعي. أيها الملاكم بيل ، يا صاحب الوزن الثقيل ، يا صاحب الضربة القاضية ، يا من تترنح على حلبتك دول ، وتسقط جمهوريات على حبالك الضوئية ، لك الجولات كلها ، لك الممالك تهوي في سطل عند زاوية التاريخ ، ولا أحد يضمد جراح المصارعين البلهاء .
ها أنذا أرفع رايتي البيضاء لك ، وأفتح هذه الويندوزات ، هذه الشبابيك المطلة على المجهول والهاوية والفراغ.
كنت أحمق في عدائي لك ، فسامحني ، وصحتين على قلبك المئة مليار دولار ، وتستحق كل (سنت) يسقط في جارورك .
لك خزانة العالم ، من (الين) حتى (الزلوطي) ، ومن الريال حتى الليرة .
صحتين على قلبك هذا العصر ، إذ انك من جيلي ، ومن عمري تقريبا ، لكنك سبقتني إلى امتلاك الكرة الأرضية .
أنا الذي كان ينافسك من الجهة الأخرى للعالم ، من الجهة الأخرى للمعنى ، من الجهة الأخرى للفكرة ، أقول لك مبروك من كل قلبي وعقلي وأعصابي ، مبروك لك هذه الأرض برؤوسها وعيونها !! ولكن يا عزيزي بيل ، أستحلفك بحياة ابنتك الوحيدة ، لماذا هذا الكومبيوتر بلا قلب ؟ أشعر أحيانا أنه بارد ، مثلج . يستحق هذا العالم قليلا من الرومانسية الإلكترونية . ولو . .
عزيزي (بيلو) يا وحش الشاشة
من مرآة الحمام إلى مرآة غرفة النوم ، ومن مرآة السيارة إلى مرآة المصعد ، كل المرايا تقول لي إنني في الطريق إلى صلعة رائعة . . وأخيرا سأصبح ذكيا ، لذلك دخلت مرآة الانترنت مستعينا بذكائي المتواضع نسبيا وبلغتي الانجليزية الركيكة التي تنمو يوما بعد يوم، حيث أتحاور مع أشخاص مجهولين بأسماء مستعارة ، فأستجيب لهم وأسألهم عن أخبارهم ، لكنني اكتشفت في النهاية أن هذا الجهاز سيقودنا إلى الوحدة أكثر فأكثر ، وأنا الذي ظننت أنني سأكسر عزلتي ويصبح العالم قرية بين يدي . لماذا لا أدق باب جارنا وأقول له أنا فلان ؟ لماذا لا نوقف إحداهن في الشارع ونسألها عن اسمها ونبوح لها بحرية ؟ لماذا نستعير أسماء وألقابا ونتوارى ونتخفى ونكذب في حواراتنا الإلكترونية ونقضي ساعات نفتش عن أصدقاء وهم إلى جانبنا ؟
إنها العزلة الإلكترونية ، والحياة مفتوحة على مصراعيها ، ونخجل من الدخول إلى عوالم الآخرين ونعرّف بأنفسنا ، وبفضائحنا . هذا الضجر الكوني ، نقتله بحوارات مجهولة مع أناس مجهولين في قضايا ومشاعر واضحة .
كوكب في حالة سأم وملل ، لذا قررت إقفال جهازي وبريدي الإلكتروني ، وأطفأت شاشته ، وانطلقت بأقصى سرعة في الهواء الطلق ، وطفقت أحيي كل المارة من لحم ودم نكاية بك وباختراعك الذي أصابني بمرض لم اشعر به سابقا. إنه فيروس العزلة ، حيث فقدت مناعتي ، لذا سأستعيد توازني بسرعة وأعالج نفسي وأتمدد على السرير أتلقى مصلا من حروف كتاب على الرف ، أعيش على هذا الغبار الطازج بين الأوراق ، وأتنفس من هذا الأكسجين الطبيعي من كتاب مغلق أتلمسه ، أتحسسه وأقفل كل الشاشات من حولي .
مستر غيتس
أذكر أشياء من علاقاتي مع الشاشات حين استبدلت شاشة البحر بشاشة التلفزيون ، الذي كان من اختراع معلمك ابن ولاياتك المتحدة السيد إديسون "رحمه الله".
وقد حدث مرة عندما كنت في الصالون أتفرج على السيد تلفزيون أن خرج أحدهم فجأة من الشاشة ، خرج من فيلم السهرة ونزل إلى غرفتي وبدأ بطلب النجدة حيث كان مطاردا ، قلت له ماذا أفعل بك ، يا بطل السهرة ؟ اتركني في همي وعد إلى الفيلم . أريد أن أرى نهايتك . وفجأة انتبهت إلى ان الناس في التلفزيون كانوا يتفرجون عليّ . إذن أنا المطارد ، وحياتي كانت مسلسلا تلفزيونيا ، تتخللها إعلانات سياسية وعاطفية . إنهم يتفرجون عليّ ، وينتظرون ، أهل وأقارب ، أصدقاء وأعداء . لذلك أقفلت شاشتي الداخلية ونمت وقرأت الفاتحة للفقيد الغالي إديسون .
أما حكايتي مع شاشة الكومبيوتر ، فتقول إنه في ليلة ليلاء خرجت جيوش من النساء من بين الذرات ، وكنت وحدي وأعزل ، نصبن لي حواجز بين الملفات ، وكن يدققن في هويتي وملامحي ، وأنا كل ما أريده امرأة واحدة أقول لها سامحيني واغفري لي ، وأدمع كصديقة بين يديها .
كل المشتركين حول الكرة الأرضية معلّقون في حب هذا القلب الإلكتروني الذي يضخ وردا بلاستيكيا ونبضات من جيلاتين ، وفاكهة من نايلون .
لا شيء ينبض سوى الخوف . العالم كله بحاجة إلى حنان . كل الحوارات لا تؤدي سوى إلى كلمة حب واحدة . الكرة الأرضية محشوة بديناميت من العواطف ولا تنفجر سوى في فراغ هائل داخل شاشة .
وهكذا يا سيد بيل غيتس قررت أن أنسحب من حلبتك فابتهج بنصرك ، واتركني بلا معارك أو معارف ، بلا أحداث ولا أحاديث ، اتركني كأنني جهاز كومبيوتر معطل . يطلق إشارات مبهمة وش . . وش . . وش . . وش[/align]