قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
قاعدةٌ نافعةٌ في وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيانِ أنَّ السعادةَ والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ الضّلالَ والشّقاءَ في مخالفته، وأنَّ كلَّ خيرٍ في الوجودِ؛ إمّا عامّ، وإما خاصّ فمنشأُهُ من جهة الرّسول، وأنّ كل شرّ في العالم مختصٌّ بالعبدِ فسببُه مخالفةُ الرّسول، أو الجهلُ بما جاء به، وأنّ سعادةَ العباد في مَعاشِهم ومَعادهم باتّباع الرسالة.
والرسالةُ ضروريّة للعبادِ، لابُدّ لهُم منها، وحاجتُهم إليها فوقَ حاجَتَهِم إلى كلّ شيءٍ، والرسالة روحُ العالَم ونورُه وحياتُه، فأيُّ صلاحٍ للعالَم إذا عُدِم الرُّوحُ والحياةُ والنورُ؟ والدُّنيا مظلِمةٌ ملعونةٌ إلا ما طلَعت عليه شمسُ الرّسالة، وكذلك العبدُ ما لم تُشرِقْ في قلبِه شمسُ الرسالةِ وينالُه من حياتِها وروحها فهو في ظُلمة، وهو منَ الأموات، قال الله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام:122]،فهذا وصفُ المؤمنِ كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله برُوح الرسالة ونورِ الإيمان، وجَعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات. وسَمّى الله تعالى رسالته روحًا، والروح إذا عُدِم فقد فُقِدَت الحياة، قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشوري:52]، فذَكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور. فالروح الحياة، والنور النور.
وحاجةُ العبدِ إلى الرسالةِ أعظمُ بكثيرٍ من حاجة المريضِ إلى الطّبِّ؛ فإنّ آخِرَ ما يقدَّر بعَدَمِ الطّبيب : موتُ الأبدان، وأمّا إذا لمْ يَحصُل للعبدِ نورُ الرّسالة وحياتُها ماتَ قلبُه موتًا لا تُرْجَى الحياةُ معهُ أبدًا، أو شَقِيَ شقاوةً لا سعادةَ معها أبدًا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فإن الله خصّ بالفلاحِ أتباعَهُ المؤمنين وأنصارَه، كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] أي: لا مُفلح إلا هم، كما قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، فَخَصَّ هؤلاء بالفلاحِ، كما خصَّ المتّقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويُنفقون مما رَزَقَهُمْ، ويُؤمنون بما أنزِل إلى رسوله، وما أنزِل من قبله، ويُوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح، فعُلِم بذلك أنّ الهدى والفلاح دائر حول رُبُع الرّسالة وُجودًا وعَدمًا ".
مجموع الفتاوى (19/93).
نقلا من كتاب دعائم منهاج النبوة للشيخ الفاضل محمد بن سعيد رسلان حفظه الله تعالى ص 339.