الحمد لله و صلى الله على نبينا محمد و سلم
الإخوة الكرام, إن الله سبحانه و تعالى قد بعث نبيه الأمين عليه الصلاة و السلام بالهدى و دين
الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. و هذا الدين العظيم قال عنه الله تعالى ( قل إن هدى
الله هو الهدى) 120 البقرة. ففيه حصر للحق في دين الله وهو الذي جاء به محمد عليه الصلاة و
السلام, و إبطال كل ما سوى ذلك.
و اعلم أخي أن هذا الدين وسط لا إفراط و لا غلو فيه من جهة و لا تفريط أو إخلال من جهة
أخرى, ومن الأمور التي بينها الإسلام و ضبطها حاجة الإنسان إلى إصلاح أموره الدنيوية
وسد حاجاته المادية في هذه الأرض التي استخلف فيها فكان حكم الإسلام في ذلك وسط, فلا
هو داع إلى التصوف و الرهبنة و لا هو آمر بالمادية المحضة و أن تُجعل هم الإنسان الأكبر
و مقياس النجاح و الفشل, و لنعرض للدلالة على ذلك قصتين عظيمتين من قصص القرآن
العظيم كلاهما لرجلين كانا ناجحين غاية النجاح الدنيوي, لكن أحدهما كان مؤمنا و الآخر كافر
فلننظر إلى حكم الله على كل واحد منهما وكيف كانت عاقبة المؤمن و كيف كان مآل الكافر.
أولا : قارون
لقد كان قارون رجلا من بني إسرائيل و كان تاجرا متفوقا فاق أقرانه من التجار في دولة مصر
فصار له نفوذ كبير في البلاط الفرعوني رغم ان بني إسرائيل كانوا مضطهدين في تلك البلاد
فحصل ثروة هائلة من الأموال و المتاع و العبيد ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ( 76 ) القصص* لكنه جحد حق الله في عبوديته و كفر بالإله الحق الخالق العظيم
(قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78) )
فهل نفعه ذلك النجاح الدنيوي مع كفره بالله تعالى ؟
قال تعالى : فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿79﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العلمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿80﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ﴿81﴾ . فالله العادل الحكيم حكم على عمله بالبطلان و الإحباط
وجعله في أسفل سافلين و يوم القيامة له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. و كل من لم يوجه
ماله أو علمه أو مخترعاته أو ذكائه لغرض توحيد الله تعالى في عبادته فعمله باطل فاسد و إن
انتفع به فيما يظهر لنا من انتفع لأن هذا العمل قد خلا من نية الإخلاص لله فصار لا قيمة له.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴿103﴾ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴿104﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴿105﴾ الكهف*
عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم
ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين
*صحيح مسلم*
ثانيا : سليمان عليه السلام
إن سليمان عليه السلام حقق نجاحا باهرا في دنياه فقد كان ملكا عظيما استطاع ضبط أمور
مملكته و تنظيم شؤونها و إصلاح أحوالها السياسية و الإقتصادية و الاجتماعية. جمع بين
الصرامة و الحكمة وكان يحكم الإنس و الجن و الرياح و الدواب و بلغ من تفوقه أن توصل
بعض رجاله إلى تقنية تمكن من تحويل الأجسام من المسافات البعيدة في ثوان معدودة
(قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴿38﴾ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴿39﴾ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) النمل * و هنا يظهر الفارق بين الموحد و الكافر فنبي الله عليه السلام
لم يغتر بهذا النجاح و لم يعجب به (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴿40﴾ فجعل الأمر معلقا بشكر الله و هو عبادته بالمقال والفعال على التوحيد.
فكانت عاقبته أن أدام الله ملكه حتى بعد موته
(فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) 14سبأ *
و في الآخرة هو من الفائزين المقربين عليه و على نبينا الصلاة و السلام.
فيتبين لنا من خلال القصتين أن النجاح الدنيويي ليس غاية في حد ذاته و لا هو أسمى أهداف
المسلم بل النجاح الحق هو الأخذ بهذا العلم الدنيوي و تسخيره لأجل عبادة الله و العمل به عبادة
بشرط أن يكون خالصا لله ووفق شريعة رسول الله و لغرض إعمار الأرض وفق دين الله.
ولذلك قال رسول الله الصلاة و السلام في الدعاء: *... ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا ولا مبْلغ عِلْمِنا* حسنه الألباني.
و قال الله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ (30) النجم*
و عليه فمهما رأى البعض منا أن الغرب بنهضتهم الإقتصادية و تفوقهم الصناعي
و العسكري و التجاري قد حققوا المطلوب ووصلوا للغاية المثلى من وجودهم في هذا الكون
مهما رأى ذلك من رأى فهو واهم جاهل لم يعرف حق الله على خلقه, ومن يسوي أولئك الكفار
بالمسلمين أو يفضلهم عليهم أو يرى أن كفرهم أمر ثانوي لا نحتاج معرفته أو الحذر منه فهو
جاهل بحق ربه عليه. قال تعالى : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ( 21 )) الجاثية
و السلام عليكم و رحمة الله