رحلة الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي رحمه الله (ت ه 276) في طلب العلم
نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله: سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد, وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل.
وهذه الرحلة يحدثنا بها صاحب كتاب (سير أعلام النبلاء) فيقول: قال: فلما قربت بلغتني المحنة, وأنه ممنوع, فاغتممت غما شديدا, فاحتللت بغداد, واكتريت بيتا في فندق, ثم أتيت الجامع, وأنا أريد أن أجلس إلى الناس, فدفعت إلى حلقة نبيلة , فإذا برجل يتكلم في الرجال, فقيل لي: هذا يحيى بن معين, ففرجت لي فرجة, فقمت إليه, فقلت: يا أبا زكريا رحمك الله رجل غريب, ناء عن وطنه, أردت السؤال فلا تستخفني.
فقال: قل. فسألت عن بعض من لقيته فبعضا زكى, وبعضا جرح, فسألته عن هشام بن عمار, فقال لي أبو الوليد: صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة, لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدا كبرا ما ضره شيئا لخيره وفضله.
فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك رحمك الله غيرك له سؤال.
فقلت: وأنا واقف على قدم اكشف عن رجل واحد أحمد بن حنبل.
فنظر إلي كالمتعجب فقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن أحمد, ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.
فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل, فدللت عليه, فقرعت بابه فخرج إلي فقلت: يا أبا عبد الله, رجل غريب, نائي الدار, هذا أول دخولي هذا البلد, وأنا طالب حديث, ومقيد سنة, ولم تكن رحلتي إلا إليك.
فقال: ادخل الأسطوان يعني به الممر إلى داخل الدار ولا يقع عليك عين. فدخلت فقال لي: وأين موضعك?! قلت: المغرب الأقصى. فقال لي: إفريقية قلت:? أبعد من إفريقية, أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية بلدي الأندلس.
قال: إن موضعك لبعيد, وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه, غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك.
فقلت: بلى قد بلغني, وأنا قريب من بلدك, مقبل نحوك.
فقلت له: يا أبا عبد الله, هذا أول دخولي, وأنا مجهول العين عندكم, فان أذنت لي أن آتي كل يوم زي السؤال, فأقول عند الباب ما يقولونه, فتخرج إلى هذا الموضع, فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية.
فقال لي: نعم على شرط أن لا تظهر في الحلق, ولا عند المحدثين.
فقلت: لك شرطك.
فكنت آخذ عصا بيدي, وألف رأسي بخرقة, وأجعل ورقي ودواتي في كمي, ثم آتي بابه, فأصيح: الأجر رحمك الله والسؤال هناك كذلك, فيخرج إلي ويغلق باب الدار, ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر, فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له, وولي بعده من كان على مذهب السنة, فظهر أحمد, وعلت إمامته, وكانت تضرب إليه آباط الإبل, فكان يعرف لي حق صبري, فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي, ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه, فكان يناولني الحديث مناولة, ويقرؤه علي, وأقرؤه عليه.
وروى هذه الرحلة صاحب كتاب صفحات من صبر العلماء.
فالله أكبرُ ! هكذا الصبر على العلم.
منقول.