قال شيخنا غفر الله له وفتح الله عليه من بركاته :
طالب الحقّ يجب أن يستحضر الإخلاص ،ومعلومٌ أن طالب الحق ،يجب عليه أن يقضيّ على أمرين حتّى يتمكّن من الإخلاص ،وكلّ منهما دنيويّ
ومتعلّقٌ بالبشر.
الأمر الأوّل :
طلب مدح النّاس فيما هو عليه ،وهذا يصرفه عن الإخلاص لله ـ عزّ وجلّ ـ و عن تَحَمُّل الإبتلاء في سبيل الله ،لأنه يطلب مدح النّاس
إنما عليه أن يُدرك أن المدح الذي يزين و الذمّ الذي يشين هو مدح الله وذمه سبحانه وتعالى ولهذا لما قال الأعرابيّ في الحديث الذي رواه الترمذيّ
"مدحي يزين وذمّي يشين" قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم:"ذاك هو الله" فطالب الحقّ لا يلتفتُ إلى مدح النّاس،وإن حصل بغير قصدٍ،فذاك عاجل بشرى المؤمن
و هذا من فضل الله على عبده..
الأمر الثاني:
الطمع فيما عند النّاس ،وهذا من الصوارف عن الحقّ ،فإن الذي يطمع فيما عند النّاس يترك الحقّ و أخلد إلى الدّنيا،و إن كان لابدّ أن يطمعَ ،فعليه بصرف طمعه إلى من خزائن السموات والأرض في يديه و هو القائل سبحانه عز وجلّ {و إن من شيئ إلا عندنا خزائنه و ما ننزّله إلا بقدر معلوم} فالطمع يكون في الغني الحميد لا في البشر و لذلك قال الله تبارك وتعالى مبينا غناه عن الناس و افتقار الناس إليه:{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} وقال سبحانه:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق}.ولذلك قال المعلّميّ رحمه الله:"يفكر في نسبة نعيم الدّنيا إلى رضوان ربّ العالمين و نعيم الآخرة
ونسبة بؤس الدّنيا إلى سخط ربّ العالمين و عذاب الآخرة ويتدبّر قول الله عزّ وجلّ :{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضهم درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا و رحمة ربك خير مما يجمعون}..."يعني على ال‘نسان أن يتفكّر دوما و أبدا و يتدبّر ولهذا يحث الله عز وجل عباده على التفكر،وهو ما ذكرناه سابقا إعمال التدبّر و العقل {افلا يتفكرون} و {أفلا يبصرون} و {أفلا يتذكّرون} ...وهذه كلها تدل على أن من أراد الآخرة أن يعيش على الدوام دائم التفكّر والتدبّر ،لأن هذا يجعله مستعملا ما أنعم الله به من عقل (مع الشرع) فيجعل الأمور في مكانها و يضعها في نصابها فيرجح ما هو راجح ،ويترك ما هو مرجوح،فاللذة من حيث هي مطلوبة لكنها تترك لأمرين اثنين لتفويتها للذة أخرى أعظم منها أو لما يعقبها من ألم و حسرة ـ أو كما قال ابن القيم رحمه الله ـ ولهذا العاقل ينظر إلى العواقب ،ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم [حفّت الجنة بالمكاره،وحفّت النار بالشهوات]
فصاحب الشهوات يسارع إليها و صاحب العقل الناضج يعلم ان المكروه في سبيل الغاية المحمودة يتحمّل ،فما عليه إلا أن يصبر ليصل إلى بر الأمان ،وتأمّل كلمة "مكاره" معناها أن تتحملّ مع كره ،
كما يشرب المريض الدواء المرّ،فلكونه بشربه يُشفى يشربه على مضضٍ،لأنه ينظر إلى العاقبة ..
لا يتم الزهد في الدّنيا إلا بنظرين صحيحين:
النظر الأول :النظر إلى الدنيا و خسّتها وخسّة ما فيها (فطالبها) لا يزال في نغص ونكد.
النظر الثاني:إلى الآخرة و دوامها ودوام ما فيها..
فهذه الدنيا متاع لا تعبأ بها،واعلم أن دار البقاء هي الدار الآخرة و أن إرضاء الناس ،فيا طالب الحقّ ما يحصل لك من مكروه وشدّة ذلك أمر يسير مقارنة بما ستناله من لذّة ونعيم.(اهـ)
[المصدر(مقطع من) :المخرج من الفتنة بالتمسك بالحقّ ـ ش/3]