شكرا لصاحبة الموضوع
وابن تيمية يقرأ أحسن من منظور نقدي فكري تاريخي حضاري
وسيجد قارئه أن الرجل تتبع بالنقد المؤثرات الهلنستية التي غزت الثقافة العربية الإسلامية، وإن لم يستعمل مصطلحات اليوم، مثل تأثير نظرية الفيض الأفلوطينية، التي أثرت على عقائد المسلمين الفطرية، وصاغتها كما صيغ الكيان (اليهودي ـ المسيحي) الذي أغرق أوربا القرون الوسطى في الظلام الحالك، ولاشك أنه توقف في الكثير من كتبه أمام الفكر الصابئي (الحراني المندائي) وتناول فلاسفته ومفكريه مدعي أبدية العالم وأزليته كأمثال الفارابي الذي فضل الفلسفة على النبوة في كتابه الحروف وتلميذه ابن سينا الذي نفى المعاد الجسماني وشك في قدرة الله في رسالته المضنون بها على غير أهلها (رسالة أضحوية في أمر المعاد)، بل كان متتبعا لبقايا الهلنستية كالمنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية، وتتبع صداها منذ الفارابي إلى ابن رشد القائل بدوره بأبدية العالم وأزليته، مرورا بنقد الغزالي الكلامي لهم ونقد علم الكلام الذي أنتجه المنطق الحدي للخوارج وأخذه عنهم الشيعة وطوره الجعد بن درهم وجهم بن صفوان ثم طوره المعتزلة والمتكلمون، أرهقوا به العقل وخربوا به النقل، وكيف تمزقت الأمة بعدما تم تخريب عقائدها (أصول الدين) بفلسفتها وفق الثقافة الهلنستية الوثنية ومن ثم تحنطت فروع الدين، وصارت مجرد شروح على الشروح ومختصرات على المختصرات وتهذيبات على التهذيبات، غير مرتبطة بالنص، بل مرتبطة بملخصات المذهب وحواشيه التي اتخذت شاهدا يقاس عليها، ومن ثم ينبغي أن تعاد قراءة شيخ الإسلام قراءة جديدة، تعيد له سبقه في نقد المنطق والفلسفة اليونانية وفلسفة أرسطو بخاصة، التي ماانطلق الغرب وتطور إلا بنقدها وتجاوزها، بعدما ظلت عقبة كأداء في القرون الوسطى، وقد كان ابن تيمية سباقا قبل هيوم وبيكون وغيرهم، ولكن العقل الاسلامي لم يتابع مسيرة شيخ الإسلام، بل توقف عندها مجتزئا منتقيا، نتفا في العقيدة ونتفا في الفقه، ونتفا من الردود، دون موقعة الرجل كأكبر عقل نقدي عرى ركام تاريخي هائل من التداخلات الثقافية والتأثيرات التي قلبت الثقافة الاسلامية والعقل الراشد رأسا على عقب، أخذت مجزأة ولم تأخذ ككل، ولو تم ذلك لأمكن للأمة أن تتخلص من العقائد الفاسدة والأفكار المريضة المعدية والمؤذنة بالهلاك والعاهات المستديمة، التي كبلتها وقيدت حركتها، بل جعلتها فريسة سهلة للغازي الأجنبي، منذ حملات التتار1258م حتى الاستعمار الحديث في القرنين: التاسع عشر والعشرين، بل ما تزال تتخبط مع روافد الفكر الغربي كما كان الحال أول الأمر مع الصابئة والنصارى الفيضيين والمانويين والمزدكيين وغيرهم، والشيء الوحيد الذي تغير هو المصطلحات، والجامعات والمدارس بدل المناظرات والمناقشات، بينما الجوهر وطبيعة المثاقفة وطريقتها فما تزال مستمرة، ولن تخرج هذه الأمة من عقالها وانحدارها مالم تقرأ تراثها بروح نقدية كما فعل شيخ الاسلام فكريا وخاصة في الأصول، وكما فعل الشيخ الألباني مع الفروع، بالعودة إلى المنابع الصافية وترك المصبات الآسنة وبفصل الخرافات والترهات واللامعقول عن لب التراث ومادته الحقيقية، وإلا فالانحدار سيبقى مستمرا ومنحنى السقوط متواصلا.
رحم الله ابن تيمية الذي لم يعرف المسلمون ثورته على الانحراف ويقدروها على حقيقتها، حتى في الجامعات العربية والاسلامية التي تدرس الفلسفة الغربية لا يتاح للنقد الأركيولوجي والجينيالوجي التيمي للتراث الإسلامي التواجد، بل أفكار شيخ الإسلام السباقة في النقد والهدم والتفكيك غير مرحب بها، وتغزى عقول الطلبة بنفايات فلاسفة أوربا، بل مايزال كأمثال السقاف الأشعري والعرفانيين الباطنية من شيعة وصوفية يكيلون له العداء، وجل عقائدهم مستمدة من المنابع التي خاصمها شيخ الإسلام، وهي منابع تتعارض مع طبيعة الفكر الإسلامي الصافي، بل ماتزال المتصوفة المحسوبة على السنة إلى اليوم تتعاطى السحر المندائي بكل جداوله وأسماءه الهرمسية وكواكبه المعبودة، وتنتحل عقائد وحدة الوجود والاتحاد والحلول ووثنية القبور فلسفة المدرسة الاسكندرانية الفيضية، التي طورت مقولاتها استجابة لتحدي المسيحية فحرفتها وكذلك فعلت مع الفرق الضالة بدءا من الخوارج فالشيعة فالجهمية فالمعتزلة ثم الأشعرية ناهيك عن فرق الشيعة وخاصة الاسماعيلية بفروعها البهرية والأغاخانية والدرزية، بل ثمة كثير من المسلمين لا يعرفون أن عقيدة الدروز ـ صنيعة الحاكم الاسماعيلي مدعي الألهية ـ تقول عن سيد الخلق أنه إبليس وأن مكة مأوى الشياطين، قطع الله ألسنتهم الشانئة.
والرحمة الواسعة على شيخ الإسلام سيف الحق المسلول على أوكار الباطل