محاضرة ألقاها الشيخ عبد الحليم توميات بمسجد الغزالي حي بوفريزي
يوم الاثنين 22 رجب 1428 موافق 6 أوت 2007
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله،
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» [آل عمران:102] «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» [النساء:1] « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) » [الأحـزاب]..
ألا إنّ أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدى محمّد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، أمّا بعد:
فإنّ الحديث عن الشّباب يعني الحديثَ عن الحياة ..
إنّ الحديث عن الشّباب إنّما هو حديث عن الّذين إذا صلحوا سعدت بهم أمّتهم، وقرّت بهم أعين آبائهم وأمّهاتهم، وامتدّ نفعهم وحسنت عاقبتهم.
وإنّ الّذي يُلقي نظرةً على ديننا ليجده أولى هذه المرحلة منزلة من أرقى المنازل، وذلك من نواحٍ كثيرة، نذكر بعضها:
النّاحية الأولى: فالعناية بالنّشء مسلك من مسالك الأخيار، وطريق من طرق الأبرار .. ولا تفسد الأمّة مع الفاسدين، ولا تهلك في الهالكين، إلاّ حين تفسد أجيالها. وما نال أعداء الدّين، من أمّة الصطفى الأمين، إلاّ حين نالوا من شبابها وصغارها، لذلك تجد في كتاب الله أخبار أنبياء الله حين توجّهوا إلى ربّهم، ومالك أمرهم، إليه وحده يتضرّعون، ويسألونه ويُلحّون، يسألونه صلاح ذريّاتهم، من قبل وجودهم ومن بعد مجيئهم ..
فمن دعاء زكريّا:عليه السلام « رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء» [آل عمران:38]. ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة، ويقول إبراهيم: عليه السلام «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ» [إبراهيم: من الآية35]، وقال عليه السلام: « رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ» [إبراهيم:40].. وكلّ صالح من عباد الله، رزقه الله خشيته وتقواه، يبتهل إلى ربّه ومولاه:« وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ» [الأحقاف:15]..وفـي صفات عباد الرّحمن:« وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» [الفرقان:74].
النّاحية الثّانية: تخصيص هذه الفئة بالنّداء ..
فما أكثر ما حثّ الإسلام على اغتنام فرصة الشباب في الإكثار من العمل الصالح، فقد روى الحاكم وابن أبي الدّنيا بإسناد حسن عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: (( اِغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ )).
فالشّباب طاقة إن لم تسخّر للخير والعمل الصّالح انقلبت إلى شرّ، خاصة إذا توافرت لها عوامل أخرى كالفراغ والمال، قال الشّاعر:
إنّ الشبابَ والفراغَ والجِده مفسدةٌ للــمرءِ أيُّ مفسده
ولْيَعلم المسلم أنّه سيقدّم لربّه يوم القيامة حسابين اثنين: حسابا عامّا عن حياته كلّها، وحسابا خاصّا عن طور الشّباب وحده، وإن أردت دليلا على ذلك، فتأمّل ما رواه التّرمذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ قَالَ صلى الله عليه وسلم : (( لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ؟)).
والحظ معي أمورا ثلاثة في هذا الحديث:
1-رفع الله تعالى لهمّة الشّباب:
فهو يصوّر لك هذه المرحلة من العُمُر مرحلة جدّ وكدّ وعمل، لا مرحلة لهو ولغو وكسل.. يصوّر لك الشّاب أنّه واقف بين يدي الله مسؤول، لا أنّه مراهق طائش مخبول .. لذلك نرى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّث الشّباب الّذين بين يديه حديث الكبار، لذلك كانوا من الشّباب الأطهار والعاملين الأخيار .. انظروا إليه صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث ابن عبّاس تلك الأيّام وهو في أوّل مراحل شبابه: (( يَا غُلاَمُ ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ )) [رواه التّرمذي].
أتـرون أين يضع النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات النيّرات .. يضعها في قلب شابّ وهو في فورته وطموحه وتكامل قوّته، ليكون قويّ العزيمة عالي الهمّة.
ولقد أنبتت هذه الكلمات شجرة مباركة مورقة لم تنقطع ثمارها، ولم تذبل أوراقها، شجرة تدعى بابن عبّاس ترجمان القرآن، وبحر وحبر الأمّة..
2-أنّ الشّباب نعمة من أجلّ نعم الله على العبد، لذلك خصّه بالذّكر بعد العمر، وكلّما عظُمت النّعمة عظُم السّؤال عنها، والحساب عليها .. ألا ترى إلى أولئك الثّلاثة ( العالم والمنفق والمجاهد ) كيف عظّم الله عليهم الحساب، وجعلهم أولى النّاس بالعذاب ؟! ألا ترى كيف خاطب الله نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:« يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)» [الأحزاب] ؟ فكذلك المرء في مرحلة الشّباب له من القوّة والحماس ما لا يجده في مراحله الأخرى، فإن صرف هذه النّعمة في طاعة الله كان من السّابقين، وإن صرفها في معصية الله كان من الخائبين.
3-أنّ الشّباب عنوان العمر، فغالبا يكون من عاش في شبابه على أمر وطّن نفسه عليه، ودام عليه، لذلك كان من حكم العرب: " مَنْ شَبَّ عَلَى شَيْءٍ شَابَ عَلَيْهِ ".
لذلك فإنّ الحديث عن الشّباب لا يخُصّ الشّباب فحسب .. نعم .. هو يعنيهم قبل كلّ أحد، ليستدركوا ما قد فاتهم، ويجمعوا أشلاءهم ورُفاتهم .. ولكنّه يخصّ أيضا أولئك الصّبية الصّغار، فهم سيسلكون هذا المشوار .. ويخصّ أيضا أولياء الأمور، لأنّهم مسؤولون عنهم أمام العزيز الغفور ..
فأضع بين يديك هذه الوصايا سائلا المولى تبارك وتعالى أن تكون نافعة، وللخير جامعة.
1-تذكّر الغاية الّتي من أجلها خلقت ..
فقد قال جلّ وعلا:« وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» [الذّاريات: 56].
هذه هي الغاية التي خلق الله لها الخلق، فما خلقنا الله لنُضيع الأعمار أمام المسلسلات، وأمام المباريات، وأمام الأفلام، وأمام هذا العبث واللّهو الّذي تحوّل في حياة هذه الأمّة المسكينة إلى جِدّ؟!.
فغاية الشبّاب هي هوايتهم، وهوايتهم هي غايتهم، وكانت هواية شباب الإسلام قطع الفيافي والقفار لجمع الأحاديث والآثار، وسنّة النبيّ المختار ..
كانت هوايتهم إعلاء كلمة الواحد القهّار، وضرب أعناق الكفّار ..
كانت هوايتهم صيام النّهار والقيام للعليّ الغفّار ..
وإذا سألت أحدهم اليوم عن هوايته، قال دون خجل أو ندم: جمع الطّوابع، والغناء وكرة القدم!!
ومن أجمل ما قيل في قول الله تعالى في حقّ نبيّ الله يحيى عليه السلام: « وَآتينَاهُ الحكْمَ صَبِياً» [مريم:12]: قال جمهور المفسّرين: أي آتاه الله الحكمة وهو طفل صغير، فذهب إليه يوماً بعض أترابه من زملائه قبل أن يُوحَى إليه بالنبوّة فقالوا: يا يحيى ! هيّا بنا لنلعب ! فقال يحيى عليه السلام: والله ما للّعب خلقنا .. والله ما للّهو والعبث خلقنا.
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ )).
2-احذر التّسويف:
فقد جاء عن أبي الجوزاء رحمه الله قال في قوله تعالى:« وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً»: قال:" تسويفا ".
وعن أبي إسحاق قال: " قيل لرجل من عبد القيس: أوصِ، قال: احذروا سوف ".
وعن قتادة عن أبي الجلد قال: " قرأت في بعض الكتب: إنّ ( سَوْفَ ) جندٌ من جندِ إبليس ".
يوسف بن أسباط قال: " كتب إليّ محمّد بن سمرة السّائح بهذه الرسالة: " أي أخي، إيّاك وتأميرَ التّسويف على نفسك، وإمكانه من قلبك؛ فإنّه محلّ الكَلل، وموئل التّلف، بادر يا أخي فإنّك مبادر بك، وأسرع فإنّك مسروع بك، وجِدَّ فإنّ الأمر جِدّ، وتيقّظ من رقدتك، وانتبه من غفلتك ".
وقال محمّد بن حفص القرشي عن أبيه قال: كتب رجل من الحكماء إلى أخ له شابّ: أمّا بعد، فإنّي رأيت أكثر من يموت الشّباب، وآية ذلك أنّ الشّيوخ قليل ".
وقال الضحّاك بن مزاحم: " اعمل قبل ألاّ تسطيع أن تعمل، فأنا أبغي أن أعمل اليوم فلا أستطيع".
ورحم الله حفصة بنت سيرين قالت: " يًا مًعْشَرَ الشَّبَابِ اعْمَلُوا فَإِنِّي رَأَيْتُ العَمَلَ فِي الشَّبَابِ ".
3-عليك بدراسة سير الصّالحين ..
فمن وسائل الثّبات قراءة أخبار السّابقين، قال تعالى:« وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ»، ولقد ضرب شباب الصّحابة رضي الله عنهم ومن بعدَهم أروعَ المُثُل في البطولة والفداء، ونشر الدّين والذود عن حياضه، وكان جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشّباب، من أمثال عليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير، وأسامة بن زيد، وعبد الله ابن الزّبير، وغيرهم ممّن لا يتّسع المجال لحصرهم .. وكلّ واحد منهم له تاريخ مشرق وسابقة عظيمة في نصرة دين الله والجهاد في سبيله .. ترى من صفاتهم:
1- أنّهم أصحاب عفّة، قال تعالى:«وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».. استعلاء وسموّ وحياء، يقول الإمام ابن القيّم رحمه الله:
" لقد اجتمع ليوسف من الدّواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير:فقد كان شابا، وفي الشباب ما فيه، والمرأة هي التي دعته إلى نفسها، وهي ربّة الدّار، وهي التي غلقت الأبواب، وهو غريب لا يعرفه أحد، وكان عبدا مملوكا، لا يأنف مما يأنف منه الحرّ، فداس على كلّ ذلك "..
أتدري أيّها الشّاب أنّ الله يعجب لأشياء، ومن هذه الأمور ما رواه الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ )). أي ليس له ميل إلى النّساء من هذه الدّنيا، بل هو منقطع إلى الآخرة..
2- من صفاتهم: حمل همّ الدّعوة إلى الله تعالى:
فقد ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنّه ثار على عبادة قومه للأصنام وهو ما يزال فتىً:« قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ» [الأنبياء:60].
انظر إلى:
مصعب بن عمير رضي الله عنه ..من السّابقين إلى الإسلام، وكان أنعم فتى في قريش، وما كان يساويه أحد في النّعيم، فترك كلّ مظاهر التّرف، واتّجه وانصرف إلى الدّعوة إلى الله بأرض عُرفت بشدّة لأوائها، وغلظة حمّاها ودائها، روى البخاري عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رضي الله عنه.
فلم تخلُ حياة هذا المعلِّم من المعاناة.. فتراه بعيدا عن مكّة، وبعيدا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..ظهره مكشوف للجميع، لا يملك شيئا..لا أهلا..ولا مالا..ولا سلاحا..كلّ ما يملكه رسالة من عند رسول الله: صلى الله عليه وسلم « قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» [الأعراف:158]..
كانت هذه الرّسالة هي زاده وسلاحه.. ما خرج يبحث عن حطام الدّنيا لينالها، ولكنّه يبحث عن حطام القلوب ليجمعها، فكان بمثابة الغيث لا يمرّ بقوم، ولا يدخل منزلا إلاّ أينع ثمارا طيّبة، فصارت المدينة حدائق غنّاء من العلم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم..
ولكنّ قوما يحملون في صدورهم صخورا ساءتهم تلك البهجة، وذلك الاخضرار.. فأخبروا سادات لهم ليضعوا حدّا لهذا الزّحف الربّاني ..وكان اسم ساداتهم: أسعد بن زرارة، وأسيد بن حضير، وسعدَ بنَ مُعاذ ..
فترى مصعبا قد وصل إلى قلوبهم، فهذا أسعد بن زرارة رضي الله عنه قد أسلم، ثمّ أسلم أسيد بن حضير، ثمّ جاء دور سعد بن معاذ.. وبإسلامه أسلم بنو عبد الأشهل .. فكانت أوّل دُورٍ من دور الأنصار أسلمت جميعها..
ثمّ رجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُدعى المُقرِئ. ومن وراء ذلك كانت بيعة العقبة الثّانية.
ومن وراء ذلك كان لسعد ما جاء في البخاري ومسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (( اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ )). وفيما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا ))-يشير إلى جبّة من سندس تعجّب منها الصّحابة لحسنها-.
ومعاذ رضي الله عنه ، وابن مسعود رضي الله عنه ، وسالم مولى حذيفة رضي الله عنه ، كانوا من القرّاء، فكانوا مدارس لإقراء القرآن وتعليمه..
بل إنّ معاذ بن جبل رضي الله عنه توفّي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة يقول عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم: (( أعلم أمّتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل ))، (( ويحشر يوم القيامة يتقدّم العلماء برتوة [قيل خطوة وقيل برمية حجر]!!
فكم كان عمر معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن؟! ..
3- من صفاتهم: أنّهم مع الدّعوة لا يخافون في الله لومة لائم:
فقد ذكر عن أصحاب الكهف:» إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)«.
ويتولّى ربّ العزّة رعايتهم:»وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَّاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَتَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ« ، ويعاملهم ربّ العزّة بأرحم ما تعامل الأمّ الرّؤوم ولدها:»وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ« ، كما نجد الأمّ تقلّب وليدها من جانب إلى آخر لئلّا يفسد لطول المدّة، ويّلقي عليهم الهيبة:»ل َوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً« .
4- من صفاتهم: أنّهم أصحاب همّة وتضحية ..
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن نفسه: " لقد شهدت بدراً وما في وجهي شعرة واحدة أمسحها بيدي "..
ويقول عن أخيه عمير رضي الله عنه : " رأيت أخي عميرَ بنَ أبي وقّاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدراً يتوارى، فقلت: مالك يأخي ؟ قال: إنّي أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردّني، وأنا أحب الخروج لعلّ الله يرزقني الشّهادة ".
قال: فعُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره فردّه، فبكى، فأجازه، فكان سعد رضي الله عنه يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقتل وهو ابن ستّ عشرة سنة ".
وانظر إلى عمير بن الحمام رضي الله عنه كان في السّادسة عشرة من عمره، حين استشهد في بدر، روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ )) قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟! قَالَ: (( نَعَمْ )) قَالَ: بَخٍ بَخٍ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ؟)) قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: (( فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا )) فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه..
يا حبّذا الجنـّة واقترابـها طيّـبـة وبـارد شرابها
والرّوم روم قد دنـا عذابها كافرة بعيدة أنسـابـها
ولم يقف الحد عند مشاركتهم في الغزو فحسب، بل صار الأمر بهم أن يكونوا رؤساء في البعوث والسرايا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان:
عكاشة بن محصن أميراً على أربعين رجلاً في سريّة إلى الغمر.
وزيد بن حارثة أميراً على سريّة غزوة ذات السّلاسل.
وأمّا أسامة بن زيد رضي الله عنه فكان من القادة الأفذاذ، فعلى صغر سنّه تولّى قيادة جيش فيه من يفوقه علماً وعمراً.
يا شباب أتدرون من قتل فرعون هذه الأمّة أبا جهل لعنه الله ..؟ لقد قُتِل على يد غلامين من الأنصار.
• وهذا عقبة بن نافع أحد قادة بني أميّة يقف رحمه الله تعالى في أقصى المغرب بعد أن خاض بجواده بحر الظّلمات المسمّى بالمحيط الأطلسيّ، يقف قائلا : " اللّهمّ ربّ محمّد صلى الله عليه وسلم لولا هذا البحر لفتحت الدّنيا في سبيل إعلاء كلمتك، اللَّهُمَّ فاشْهَدْ ".
• وهذا قتيبة بن مسلم الباهليّ الّذي توغّل في آخر المشرق وأبى إلاّ أن يدخل بلاد الصّين، فقال له أحد أتباعه محذّراً مشفقاً: لقد أوغلت في بلاد التّرك يا قتيبة والحوادث بين أجنحة الدّهر تقبل وتدبر، فأجابه قتيبة بقوله الخالد: بثقتي بنصر الله توغّلت، وإذا انقضت المدّة، لم تنفع العُدّة.
فلمّا رأى ذلك المحذّر عزمَه وتصميمَه على المضيّ قال له: اسلك سبيلك يا قتيبة ! فهذا عزم لا يفلّه إلا الله.
• وتذكر يا شباب الإسلام ما فعله محمد بن القاسم الثقفي ابن السابعة عشرة من العمر الذي فتح بلاد الهند والسند.
ملكنا هـذه الدّنيا قـرونا وأخضعها جدود خالدونا
وسطّرنا صحائف من ضياء فما نسِي الزّمان ولا نسينا
بنَيْنَا حِقبةً في الأرض ملكا يدعّمه شباب طامـحـونا
شباب ذلّلوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهّدهم فأنبتـهم نبـاتا كريما طاب في الدّنيا غصونا
شبابٌ لم تحطّمه اللّيالي ولم يُسلم إلى الخصم العرينا
وإن جنّ الظّلام فلا تراهم من الإشفاق إلاّ ساجدينا
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابا مخلصا حرّا أمينا
وما فتِئ الزّمان يدور حتّى مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يُرى في الرّكب قومي وقد عاشوا أئمّته سنينا
وآلمني وآلم كلّ حرّ سؤال الدّهر: أين المسلمونا ؟
تُرى هل يرجع الماضي فإنّي أذوب لذلك الماضي حنينا
دعُوني من أمانٍ كاذبات فلم أجد المنى إلاّ ظنـونا
يا شباب: مازلت متفائلاً وسأظل متفائلاً مهما عظم كيد الأعداء، فالجبار جل جلاله يقول:« بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»..
وقال تعالى:« وَمَا كَـيْدُ الْكَـاِفرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـالٍ» [غافر:25].
نعم من آلامنا تبزغ آمالنا، والرجال تصنعهم المحن، والوليد يسبقه ألم المخاض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.