الوقفة الثالثة / عن تبويبات وأقوال وفهوم أهل العلم والفقه عند ذِكر حديث ابن عباس – رضي الله عنه -
( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ )).
أولاً- بوَّب أبو داود السجستاني في «سننه» (2438) على هذا الحديث، وحديث آخر معه:
«بابٌ في صومِ العَشر».
ثانيًا- بوَّب ابن ماجه القزويني في «سننه» (1727) على هذا الحديث، وحديث عائشة – رضي الله عنها -:
«بابُ صيامِ العَشر».
ثالثًا- قال إسحاق بن منصور الكوسج – رحمه الله – في «مسائله عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه»(703):
قلتُ: مَن قال: لا يُقضى رمضان في ذي الحجة؟.
قال: أيُّ شيءٍ يَكره من ذلك؟.
قال إسحاق: هو جائز، ومن كرهه أراد أن يصومه تطوعًا، لِمَا يُستحب العمل فيه، وهذه رخصة، لأنه حرَّضه على التطوع، ويؤخر قضاء الفرض.اهـ
ومعنى كلام إسحاق بن راهويه – رحمه الله -:
أن من كره من السلف الصالح قضاء ما بقي من أيام شهر رمضان في أيام عشر ذي الحجة إنما هو لأجل أن ذلك يُفوِّت التطوع بصيامها، لأنها أيام يستحب فيها الإكثار من الأعمال الصالحة.
وقال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في كتابه «لطائف المعارف»(ص:372-373):
وقد اختلف عمر وعلي – رضي الله عنهما – في قضاء رمضان في عشر ذي الحجة؛ فكان عمر يستحبه لفضل أيامه، فيكون قضاء رمضان فيه أفضل من غيره، وهذا يدلُّ على مضاعفة الفرض فيه على النفل، وكان عليٌّ ينهى عنه، وعن أحمد في ذلك روايتان، وقد عُلل قول عليٍّ: بأن القضاء فيه يفوت به فضل صيامه تطوعاً، وبهذا علله الإمام أحمد، وغيره.اهـ
وقال ابن كثير – رحمه الله – في «مسند الفاروق»(1/ 281):
أثرٌ في القضاء في عشر ذي الحجة:
قال أبو عبيد: حدثني ابن مهدى، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن أبيه، عن عمر:
(( أنه كان يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، وقال: وما من أيام أقضى فيها رمضان أحب إليَّ منها )).
قال أبو عبيد:
نرى أنه كان يستحبه لأنه كان لا يحب أن يفوت الرجل صيام العشر، ويستحبه نافلة، فإذا كان عليه شيء من رمضان كره أن ينتقل وعليه من الفريضة شيء، فيقول: يقضيها في العشر، فلا يكون يبدأ بغير الفريضة، فيجتمع له الأمران.اهـ
رابعًا- قال أبو بكر الأثرم – رحمه الله – في كتابه «ناسخ الحديث ومنسوخه» (ص:153- بعد حديث رقم:327):
فالأمرُ في هذا الباب على أن صوم يوم عرفة وسائر العشر قبل الأضحى حسنٌ، وأفضلها يوم عرفة.اهـ
خامسًا- قال أبو جعفر الطحاوي الحنفي – رحمه الله – في كتابه «مشكل الآثار»(7/ 419 – عند حديث رقم:2973):
وإن كان الصوم فيها له من الفضل ما له، مما قد ذُكر في هذه الآثار التي قد ذكرناها فيه، وليس ذلك بمانع أحدًا من الميل إلى الصوم فيها، لا سيما من قدر على جمع الصوم مع غيره من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله-عز وجل-سواه.اهـ
سادسًا- قال ابن حزم الظاهري – رحمه الله – في كتابه «المحلى» (7/ 19 – مسألة رقم:794):
ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر، لما حدثناه …، عن ابن عباسٍ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِيهِمْ الْعَمَلُ – أَوْ أَفْضَلُ فِيهِنَّ الْعَمَلُ – مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
قال أبو محمد:
هو عشر ذي الحجة, والصوم عمل بِرٍّ، فصوم عرفة يدخل في هذا أيضًا.اهـ
سابعًا- قال موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي – رحمه الله – في كتابه «الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل»(1/ 362):
ويستحب صيام عشر ذي الحجة، لِمَا روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ…)).اهـ
ثامنًا- قال أبو العباس القرطبي المالكي – رحمه الله – في كتابه «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم»(3/ 253-254 رقم:1046):
وقول عائشة: (( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ ))، تعني به: عشر ذي الحجة، ولا يفهم منه: أن صيامه مكروه، بل أعمال الطاعات فيه أفضل منها في غيره، بدليل ما رواه الترمذي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ))، قال: هذا حديث حسن صحيح.اهـ
تاسعًا- قال النووي الشافعي – رحمه الله – في «شرح صحيح مسلم»(8/ 320 – عند حديث رقم:1176):
فليس في صوم هذه التسعة كراهة؛ بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في «صحيح البخاري» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه))، يعنى: العشر الأوائل من ذي الحجة.اهـ
وبوَّب على هذا الحديث في كتابه «رياض الصالحين»(رقم:1249)، فقال:
«بابُ فضل الصوم وغيره في العشر الأُوَل من ذي الحجة».اهـ
عاشرًا- بوَّب محب الدين الطبري – رحمه الله – في كتابه «غاية الإحكام في أحاديث الأحكام»(4/ 472 – رقم:8406) على حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – وأمثاله:
«ذكر صوم عشر ذي الحجة».
وقال أيضًا (4/ 473):
وقد صحَّت أحاديث الترغيب في صومه.اهـ
حادي عشر- قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في كتابه «فتح الباري»(6/ 115 – عند حديث رقم:969):
وهذا الحديث نصٌّ في أن العمل المفضول يصير فاضلاً إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة، لفضل زمانه.
وفي أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء، فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها.اهـ
وقال أيضاً (6/ 119):
وحينئذٍ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة؛ لأن الفرض أفضل من النفل.
وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره.
وقد كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، لفضل أيامه، وخالفه في ذلك عليٌّ، وعَلَّل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع، وبذلك علله أحمد وإسحاق.اهـ
وقال في كتابه «لطائف المعارف»(ص: 365-366):
وقد دلَّ هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده.اهـ
وقال أيضًا (ص: 367):
وقد دلَّ حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها.اهـ
وقال أيضًا (ص:51):
وهذا الحديث صريحٌ في أن أفضل ما تُطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم، وقد يحتمل أن يراد أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملاً بعد رمضان.
فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال، ونحو ذلك.اهـ
وقال أيضًا (ص:361):
وسيأتي في وظائف ذي الحجة ذكر فضل صيام عشر ذي الحجة-إن شاء الله تعالى-.اهـ
ثاني عشر- قال ابن حجر العسقلاني الشافعي – رحمه الله – في كتابه «فتح الباري» (2 /534 رقم:969):
واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة، لا اندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد، وأجيب بأنه محمول على الغالب، …، والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.اهـ
ثالث عشر- قال محمد بن علي الشوكاني – رحمه الله – في كتابه «نيل الأوطار»(4/ 239):
وقد تقدَّم في كتاب العيدين أحاديث تدلُّ على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرجٌ تحتها.اهـ
وقال أيضًا:
على أنه قد ثبت من قوله ما يدلُّ على مشروعية صومها كما في حديث الباب.اهـ
وقال في كتابه «قطر الولي على حديث الولي»(ص:373):
ومن نوافل الصيام المؤكدة:
صوم عشر ذي الحجة، فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((مَا من أَيَّام الْعَمَل الصَّالح فِيهَا أحب إِلَى الله عز وَجل من هَذِه الْأَيَّام …)).اهـ
رابع عشر- قال عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – كما في «مجموع فتاويه»(15/ 418-419) حين سُئل هذا السؤال:
«ما رأي سماحتكم في رأي من يقول صيام عشر ذي الحجة بدعة؟»:
ج: هذا جاهلٌ يُعلَّم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم حضَّ على العمل الصالح فيها، والصيام من العمل الصالح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء )) رواه البخاري في الصحيح.اهـ
وقال أيضًا (15/ 418):
وقد دلَّ على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في «صحيح البخاري»، وصومها من العمل الصالح، فيتضح من ذلك استحباب صومها.اهـ
وقال أيضًا كما في «الدرر البهية من الفوائد البازية»(1/ 137- عند حديث رقم:754):
ولكن حديث ابن عباس في الباب الذي بعده يدلُّ على مشروعية صيام هذه الأيام.اهـ
وقال أيضًا (1/ 91 – عند حديث رقم:2438):
وهذا الحديث يعم الصيام، والقراءة، والتكبير.اهـ
خامس عشر- قال محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله – كما في «اللقاء الشهري»(26/ 1):
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر – أي: عشر ذي الحجة – قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )).
وهذا الحديث يدلُّ على أنه ينبغي لنا أن نكثر من الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة،… ونصوم أيام العشر، لأن الصيام من الأعمال الصالحة، وحتى لو لم يرد فيه حديث بخصوصه فهو داخل في العموم، لأنه عمل صالح، فنصوم هذه الأيام التسعة، لأن العاشر هو يوم العيد ولا يصام، ويتأكد الصوم يوم عرفة إلا للحجاج.اهـ
وقال أيضًا كما في «شرح رياض الصالحين»(5/ 303):
هذا الأبواب الثلاثة التي عقدها النووي في كتابه «رياض الصالحين» في بيان أيام يسنُّ صيامها، فمنها: مما يسن صيامه أيام العشر عشر ذي الحجة الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ))، يعني: أيام العشر.
وقوله: (( العمل الصالح )) يشمل: الصلاة، والصدقة، والصيام، والذِّكر، والتكبير، وقراءة القرآن، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الخلق، وحسن الجوار وغير ذلك…، ففي هذا دليلٌ على فضيلة العمل الصالح في أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، من صيام وغيره.اهـ
سادس عشر- قال حافظ بن أحمد الحكمي – رحمه الله – في «السبل السوية لفقه السنن المروية»(3/ 202- مع الأفنان الندية):
يُشْرَعُ صَومُ السِّتِّ مِنْ شَوَّالِ وَعَشْرِ ذِي الحِجَّةِ بِاسْتِكْمَالِ
وقال زيد بن هادي المدخلي – رحمه الله- شارحًا (3/ 203-204) للشطر الثاني من هذا البيت:
أي: من الأيام الفاضلة التي يستحب أن يكثر فيها المسلم من أعمال الخير، ومن جملتها الصوم تطوعًا: عشر ذي الحجة، فقد أتى الترغيب في العمل الصالح فيها عمومًا، وفي صيام يوم التاسع منها لمن لم يكن بعرفة، وما في ذلك من الأجر والثواب.
فقد روى الجماعة إلا مسلمًا والنسائي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا من أَيَّام الْعَمَل الصَّالح فِيهَا أحب إِلَى الله عز وَجل من هَذِه الْأَيَّام …)).
قلت: ومن جملة الأعمال الصالحة الصوم.اهـ
سابع عشر- قال محمد علي آدم الإتيوبي – سلمه الله – في كتابه «البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج»(22/ 41 – عند حديث رقم:1176):
والحاصل أن قول عائشة – رضي الله عنها – هذا، لا ينافي استحباب صوم تسع ذي الحجة، ولا سيما اليوم التاسع لغير الحاج، للأدلة الكثيرة على ذلك:
ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – مرفوعًا: (( ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه …)).اهـ
يتبع ...