ثمـرات المراقبــة
1- إتقان العمل: العمل يحتاج إلى إتقان، الصلاة التي نصليها عندنا فيها خلل، ليست صلواتنا متقنة، من منا يضمن كمال صلاته مائة في المائة؟ وما دام أنها نقصت عن المائة ففيها خلل، ليس فيها الإتقان، أما أمور الدنيا فعندنا إتقان فيها، ونحتاج إلى إتقان في أمور الآخرة، لو راقبنا الله مراقبة جليلة لأتقنا العمل، ولأتينا به على الوجه الأكمل أو المطلوب، ولو أتقن العمل لصلح العمل، وصلح العامل «صاحب العمل» وصلحت الدنيا والآخرة وفتحت أبواب الخير وغلقت أبواب الشر، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي r قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»([1]).
وقال عن إتقان الصلاة: عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله r أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: «من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف»([2])، وسبب حشرهم مع هؤلاء الأربعة لأن فرعون أشغله الملك، وهامان أشغلته الوزارة، وقارون أشغله المال، وأبيّ بن خلف أشغلته التجارة، ويقول r عن الذي أتقن الصدقة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «إن الله تعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد»([3]).
2- الإخلاص: لو راقبنا الله لأخلصنا له، وجعلنا الصلاة له، والنسك له، والحياة له، والموت له، والقول له، والعمل له، والتعامل له، والظاهر له، والباطن له.
* بالإخلاص لله تبارك وتعالى يقبل الله العمل.
* بالإخلاص يفوز العبد بالمطلوب.
* بالإخلاص ينجو العبد من المرهوب.
قال تعالى: }قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ [الكهف: 110].
الإخلاص: وهو جعل العمل لله؛ فإن الإخلاص شرط من شروط قبول العمل، ومن فقد الإخلاص رد عمله، فعن أبي هريرة t قال حدثني رسول الله r: «أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية؛ فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي r قال: بلى يا رب. قال فماذا عملت فيما عُلِّمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانًا قارئ. فقد قيل ذاك؛ ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق؛ فيقول الله له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله تعالى له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذاك» ثم ضرب رسول الله r ركبتي، فقال: «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة»([4]).
ويقول r عن الذي أتقن صيامه: عن أبي هريرة t قال: قال r: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»([5]). ويقول r عن الذي لم يتقن صيامه: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «ربُ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب»([6]).
ويقول r عن الذي أتقن حجه: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» متفق عليه ([7]).
المهم أن تتقن العمل، ليس العمل مقاولة، بعض الناس يعتبر الصلاة مقاولة يريد أن ينهيها بأي وسيلة. لا، لابد من إتقان العمل.
3- الخوف من الله عز وجل: يجب أن تمتلئ القلوب خوفًا من الله تبارك وتعالى، لأننا نلمس أن القلوب ممتلئة من خوف البرد فكم نلبس من الثياب عند شدة البرد, والقلوب ممتلئة من خوف الجوع لذا فالبيوت مليئة بالأطعمة، والقلوب مليئة من الخوف من العري فالثياب واللباس متوفرة، لكننا نريد أن تكون القلوب مليئة بالخوف من الله تبارك وتعالى، وإذا امتلأت القلوب بخوفه عملت بأمره، وتركت نهيه، وصدقت خبره، وطبقت حكمه، ووجل منه القلب، وذرفت العين، واقشعر الجسد، وكان الذنب عندنا آنذاك كجبل نخشى أن يقع على رؤوسنا، لا ينظر الخائف إلى صغر المعصية ولكن لينظرْ إلى عظمة من عصاه.
ولقد ضمن الله عز وجل للخائفين جنتين: قال الله عز وجل: }وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ{ [الرحمن: 46]، وضمن لهم الأمن الذي لا ينقطع، والأمن مهم في واقع الناس اليوم، لأن الإنسان لا يستلذ بالحياة ولا بالشراب ولا بالطعام ولا بالصحة إلا بالأمن، ولذا دعا إبراهيم u بالأمن قبل أن يدعو بالرزق فقال: }وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{ [البقرة: 1267]، نسأل الله عز وجل أن يمُن على هذا البلد الطيب المبارك بالأمن والإيمان، ونسأله سبحانه وتعالى لكل من أراد به سوءًا أن يجعل كيده في نحره، إنه على كل شيء قدير.
الأمن مهم، وأعظم مكافأة يكافأ بها أهل الجنة الأمن المطلق، الأمن الدائم الذي لا خوف معه، عن أبي هريرة t عن النبي r يروي عن ربه جل وعلا قال: «وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة»([8])، وإذا امتلأت القلوب بالخوف من الله عمل العبد لأخراه، وقد تجلت هذه الثمرة في حياة الأولياء، كانوا يخافون ألا يقبل الله منهم عملهم، قال تعالى: }أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ{ [يونس: 62].
4- الحفظ في الدنيا والحفظ في الآخرة:
* أما الحفظ في الدنيا: فمن الانحراف والزيغ والضلال والفتن وقرناء السوء، والاغترار بالدنيا ومن كل مهلكة.
* أما الحفظ في الآخرة؛ فمن عذاب الله عز وجل ولا أدل على هذا الحفظ من مراقبة يوسف لربه، فقد حفظه الله بهذه المراقبة، وجنبه الله الفتنة التي وردت في سورة يوسف u، وقد تعرض يوسف u لعدة فتن، ونحن عندنا نصف فتنة, وسقطنا سقوطًا عظيمًا من نصف فتنة، وبعضنا من ربع فتنة، ويوسف u تعرض لعدة فتن، لكنه كان صاحب مراقبة لله، فحفظه الله من هذه الفتن العديدة ما كأنها مرت عليه فتنة، هكذا الذين يراقبون الله يحفظهم، والله, لو راقب العبد ربه لحفظه كما ذاك وعده.
الفتن التي تعرض لها يوسف
1- أنه كان شابًا: والشاب عنده قوة في كل شيء، عنده قوة في النوم، وقوة في الأكل، وقوة في الحركة، وفي النظر، وفي السمع، وفي الشرب، وفي كل شيء عنده فيه قوة.
2- أنه كان أعزب، والفتنة إلى الأعزب أقرب.
3- أنه كان غريبًا، والغريب قد يعمل أعمالاً ولا يبالي.
4- أنه كان رقيقًا «مملوكًا»، وإخوانه باعوه وهو حر بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
5- دعته امرأة ذات منصب، ومنصبها يجعلها أشد فتنة.
6- دعته امرأة ذات جمال، وجمالها يزيد من الافتتان بها.
7- أنها غلقت الأبواب، وكانت هي التي غلقت الأبواب. ما الفرق بين أن يغلق الرجل الأبواب وأن تغلق المرأة الأبواب؟ إذا أغلقت المرأة الأبواب كانت الفتنة أشد من أن يكون هو الذي أغلقها.
8- أنها هي التي دعته إلى نفسها، ولم يدعها هو إلى نفسه، وهناك فرق بين أن تدعوه هي، أو يدعوها هو.
9- حسد إخوته له.
10- ألقوا به في الجب.
هذه هي الفتن التي تعرض لها يوسف u، لكنه قال: معاذ الله، قال: أعوذ بالله أن أفعل ذلك والله يراني ويسمعني ويعلم حالي، سبحان الله، كيف تهون المراقبة عند بعض الناس لو كان عند طفل عمره 5 سنوات لم يستطع أن يفعل أية معصية أمامه، ويقترف الذنب والله يراه، ولا يستحي منه سبحانه، يستحي من طفل ولا يستحي من الله عز وجل, قال: معاذ الله, قال الله: }وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ{ [يوسف: 24].
* وكذلك الحفظ في الآخرة من العذاب، فالسبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يعني كلهم مراقبون لله:
1- إمام عادل: أي عدل في رعيته.
2- شاب نشأ في طاعة الله، ولم ينشأ في طاعة الهوى والشهوة.
3- رجل قلبه معلق بالمساجد، غير معلق بالمزرعة والتجارة ولا بالملعب ولا الوظيفة.
4- رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، مراقبين لله لم تكن محبتهم لدنيا ولا لوظيفة.
5- رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه من شدة مراقبة الله.
6- رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.
7- رجل أنفق نفقة فلم تعلم شماله ما أنفقت يمينه، جعلها صدقة خفية يريد بها وجه الله تبارك وتعالى حفظ لأنه صاحب مراقبة.
فعن أبي هريرة t عن النبي r قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شمال ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»([9]).
يقول حاتم بن الأصم بنيت توكلي على أربعة أمور:
1- علمت أن الله ناظر إلي فأنا أراقبه.
2- وعلمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري فأنا مطمئن به.
3- وعلمت أن عملي لن يعمله أحد غيري فأنا مشغول به.
4- وعلمت أن الموت يطلبني فأنا مستعد له.
5- إجابة الدعاء:
لأننا بحاجة إلى الله وليس منا أحد يستغني عن الله لحظة واحدة، حاجتنا إلى الله دائمة، إذًا, فنحن نحتاج إلى إجابة الدعاء، وقضاء الحاجة، ونحتاج إلى المدد من الله، وأن إجابة الدعوات لا تكون إلا لمن راقب ربه مراقبةً صادقةً، ولا أدل على إجابة الدعاء من قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت أول المطر إلى الغار، دخلوا الغار وانحدرت صخرة بأمر الله, فسدت عليهم فم الغار، فأصبحوا داخل صخرة مصلتة، توسلوا إلى الله بمراقبتهم له.
* الأول: راقب الله في والديه، فانفرج ثلثها.
* الثاني: راقب الله في عرض بنت عمه، فانفرج ثلثها الثاني.
* الثالث: راقب الله في الأمانة فحفظها ونماها، فانفرج ثلثها الثالث.
وفرج الله عنهم كربهم بمراقبتهم له، راقبوه حال الرخاء فأجاب دعاءهم حال الشدة، وهذا يدل على أنه ينبغي أن لا ترافق إلا صالحًا، لأنك إن رافقت قرين سوء لن تنجو حتى لو كان معك عمل صالح، ألم تر أن الثلاثة النفر الذين انحدرت عليهم الصخرة وسدت فم الغار لم يستطيعوا أن يخرجوا برصيد اثنين منهم حتى جاء الثالث برصيده من الأعمال الصالحة، بمعنى أن الصخرة لم تنفرج بكاملها إلا لعمل الثلاثة واستطاعوا الخروج.
فالله الله, لا تصاحب إلا صالحًا يدلك على الخير، ويرشدك إلى الصواب، ويحذرك من المعصية، نسأل الله أن يرزقنا الهداية والصلاح والصحبة الصالحة في كل مكان وزمان، وفي كل حال؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم؛ فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج. قال النبي r: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه؛ فتخرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها, اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي r: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري؛ فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق؛ فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي؛ فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه فلم يترك منه شيئًا, اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون»([10]).
6- أداء عبادة الشكر:التي أمر بها إذ قال: }يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ{ [سبأ: 13]، وقد ضمن الله تعالى للشاكر المزيد، وضمن له الرضوان، ولا أدل على هذه الثمرة من قصة الثلاثة: «الأبرص والأقرع والأعمى»، وأشد هؤلاء الثلاثة بلاءً الأعمى، وهو أكثرهم مراقبة لله تعالى, اختبروا بالبلاء فنجح الأعمى، وابتلوا بالرخاء فنجح الأعمى، اختبروا بالبلاء يوم أن أصيب الأبرص بالبرص، والأقرع بالقرع، والأعمى بالعمى، جاء ملك بأمر الله إلى الأبرص، قال: ماذا تريد؟ قال: أريد لونًا حسنًا، قال: وماذا تريد من المال؟ قال: أريد ناقةً عشراء؛ أصبح عنده لون حسن ومال حسن، ثم ذهب إلى الأقرع قال: ماذا تريد؟ قال: أريد شعرًا حسنًا، قال: وماذا تريد من المال؟ قال: أريد بقرة؛ فأعطي بقرة ناتجًا؛ أصبح عنده شعر حسن ومال حسن, ثم جاء عند الأعمى فقال: ماذا تريد أيها الأعمى؟ قال: أريد أن يرد الله إلي بصري، فهذا الأعمى وحد الله وما ضيع التوحيد. كم من شخص ضيع التوحيد؛ يقول: لولا الله وأنت، ويقول: أنقذتني، إنما أنقذك الله. انظر لهذا ألأعمى وهو أشدهم بلاء قال: أريد أن يرد الله إلي بصري، مسح عينيه فرد الله بصره وأعطي أقل المال وهي شاة، نما المال وأصبح الأبرص بلون حسن وعنده مال بالآلاف من الإبل، وأعطي الأقرع شعرًا حسنًا والآلاف من البقر، وأعطي الأعمى بصره الآلاف من الغنم، والاختبار الأول انتهى: هل يشكرون أو لا يشكرون؟
ثم جاء الملك إلى الأبرص وقال: أريد ناقة واحدة أتبلغ بها في سفري، قال: إن الحقوق كثيرة. قال الأبرص: الحقوق كثيرة، قال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص فقيرًا؟ قال: لا، جحد نعمة الله وما شكر الله، قال: لا، ورثت هذا كابرًا عن كابر، أبًا عن جد، قال: صيرك الله إلى ما كنت إليه، فقيرًا أبرص، وهذه الدعوة دعوة ملك لا ترد.
جاء إلى الأقرع وقال له: أريد بقرة واحدة من آلاف البقرات، قال: الحقوق كثيرة، قال: كأني أعرفك، ألم تكن أقرع فقيرًا؟ قال: لا، ورثته كابرًا عن كابر، قال: صيرك الله إلى ما كنت إليه أقرع فقير.
جاء عند الموحد -وهذا يدعونا ألا نغتر ولا نيأس إذا رأينا قلة أهل الاستقامة فهؤلاء ثلاثة, المستقيم منهم واحد، واثنان غير مستقيمين، قال تعالى: }وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ{ [يوسف: 103].
قال للأعمى: أريد شاة واحدة، قال: خذ ما شئت، ودع ما شئت، المال مال الله، والفضل فضل الله، قال: بارك الله في مالك، لقد رضي الله عنك وسخط عن صاحبيك.
وهؤلاء الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى جاءهم الملك في المرة الأولى, أي الاختبار الأول الذي قال فيه : ماذا تريد أو ما الذي تريد؟ وهذا اختبار ضراء، وجاءهم في المرة الثانية, أي الاختبار الثاني الذي قال فيه : أريد. وهذا اختبار سراء، ولم ينجح في الاختبارين إلا الموحد وهو الأعمى.
فعن أبي هريرة t أنه سمع النبي r يقول: «إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس, قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، - أو قال: البقر، هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر – فأعطي ناقة عشراء؛ فقال: يبارك لك فيها؛ وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا, قد قذرني الناس؛ قال: فمسحه فذهب وأعطي شعرًا حسنًا, قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملاً، وقال يبارك لك فيها, وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري, فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدًا، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر؛ فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا, فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري, فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله؛ فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك»([11]).
7- صلاة الذرية والزوجة: من راقب ربه كافأه بصلاح ذريته وزوجه وممات يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب t أصدر أمرًا بأن لا يخلط اللبن بالماء حتى لا يغش الناس، وذات ليلة وهو يعس في شوارع المدينة ويتفقد الرعية، وإذا به يسمع أمًا تقول لابنتها: امزجي اللبن بالماء من أجل أن يكثر، قالت البنت: أمير المؤمنين أصدر أمرًا أن لا نفعل ذلك، قالت الأم: وأين أمير المؤمنين؟ ليس عندنا الآن، افعلي, قالت البنت: والله ما كنت أطيعه حال حضرته، وأعصيه حال غيابه. لابد أن نراقب الله في الأمير. عمر بن الخطاب t قال للذي معه، علم الباب، أي ضع علامة نعرفه في الصباح، علم الباب، وفي الصباح تعرف أهل البيت وإذا بها امرأة صالحة غير متزوجة، أراد عمر أن يكافئها فجمع أولاده وقال: من يريد منكم الزواج؟ قال عاصم: أنا، قال: فاذهب فاخطب هذه البنت وزوجها بعاصم بن عمر وحصل لها الفخر، فتزوجت بعاصم بن عمر وأنجبت من عاصم بنتًا وأنجبت هذه البنت عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الله به الأرض عدلاً.
* * * *
واعلموا أيها الأحبة أن الله وظف معنا ثلاثة موظفين
الموظفون الذين وظفهم الله علينا:
1- الموظف الأول: الملائكة الكرام الكاتبين يسجلون عليك ويحصون عليك إحصاء دقيقًا، لو سجل عليك يوميًا عشر صفحات في الشهر ثلاثمائة صفحة، وفي السنة 12 مجلداً، لأن ثلاثمائة صفحة مجلد وفي السنة 12 مجلداً، وفي عشر سنوات 120 مجلدًا، وفي عشرين سنة 240 مجلدًا، وفي ثلاثين سنة 360 مجلدًا، وفي 40 سنة 480 مجلدًا، وفي 50 سنة 600 مجلدًا، وفي 60 سنة 720 مجلدًا... وهكذا. وهذه الكتب لا تغادر صغيرة ولا كبير إلا أحصتها. كم من المجلدات في ظهورنا؟ والله, إن الملائكة لا يظلمونك بحرف واحد ويكتبون أعمالك بالتشكيلة وبالنقطة، كتاب يضبطون عليك إحصاء دقيقًا.
2- الموظف الثاني: الجوارح، قال تعالى: }حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ{ [فصلت: 20-24] العين تشهد بما رأت، والأذن بما سمعت واليد بما بطشت والرجل بما مشت واللسان بما تكلم، وخصماؤك جوارحك فاتق الله فيها، إنها تحصي عليك.
3- الموظف الثالث:الخلق جميعًا من ألأشجار والجبال والتراب، والجن والإنس والدواب وغيرها؛ فعن أنس t قال: «قال مروا بجنازة فأثنَوْا عليها خيراً فقال النبي r: وجبت، وجبت، وجبت, ومروا بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال النبي r: وجبت، وجبت، وجبت, فقال: عمر فداك أبي وأمي مر بجنازة فأثنى عليها خيرا فقلت وجبت، وجبت، وجبت مر بجنازة فأثنى عليها شرا, فقلت وجبت، وجبت، وجبت فقال: من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض, أنتم شهداء الله في الأرض, أنتم شهداء الله في الأرض»([12]) قال أبو سعيد الخدري لعبد الرحمن بن صعصعة: «فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله r»([13]).
هل توقن أن المراقبة عبادة، ولكنها مفقودة عند كثير من الناس؟! هل تمتلئ القلوب بمراقبة علام الغيوب؟ هل تصلح أحوال الناس بمراقبة الله؟ لعل وعسى!
ونسأل الله أن يسدد القول والعمل، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1])حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1880).
([2])أحمد (2/169) وحسنه الأرناؤوط.
([3])صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1902).
([4])الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في الرياء والسُّمعة وصححه الألباني برقم (2382).
([5])البخاري كتاب الصوم باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، مسلم كتاب صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1778).
([6])أحمد «ج2» (8878).
([7])البخاري كتاب الإحصار وجزاء الصيد باب قول الله تعالى (فلا رفث ولا فسوق...) (1723) مسلم كتاب الحج باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1350).
([8])ابن حبان (2/406) وحسنه الأرناؤوط.
([9])البخاري كتاب الأذان باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (660) واللفظ له، مسلم كتاب الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة (1031).
([10])البخاري كمتاب الإجارة باب من استأجر أجيرًا فترك أجره فعمنل فيه المستأجر فزاد... (2272) واللفظ له، مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال (2743).
([11])البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل (3464)، مسلم كتاب الزهد والرقاق باب الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (2946).
([12])أحمد (3/186) قال الأرناؤوط إسناده صحيح على شرط الشيخين.
([13])البخاري كتاب الأذان باب رفع الصوت بالنداء (609).