* المقامة السّيحمديّة
بقلم : البشير بوكثير رأس الوادي
إهداء : إلى كلّ عشيرتي وقبيلتي الأبرار ، النُّجُب الأطهار ، السّحامدة الأحرار ، أهدي هذه الأسجاع ، وأنا مُلتاع .
حدّثنا البشير السّيحمدي الهذياني قال:
نزلتُ مضارب أولاد سي أحمد ، بعد طول غيابٍ سرمد ، تركني أحِنُّ إلى الزّمن الأسعد ، والعزّ الأمجد...
وصلت مضارب القبيلة، وما لي حيلة ولاوسيلة، كي أصيبَ بعض القِرى والإدام، بعد جهد ولَأْيٍ وأسقام، سكنت الضّلوع ، وحركت مصارين بطني المفجوع، .
وصلت إلى عرش القرارسة ، محتد المجد من عهد صنهاجة وزناتة والأدارسة، وتمنيتُ لو شدا بعزّهم عبد الحميد عبابسة ، كما خلّد في الورى مرثية حيزية العابسة ...
أبصرتُ أحدَ الرّعاة فطلبتُ بعض الكسرة واللبن، بعد طول سفر ومشقّة ومحن، ورحلةٍ لم يغمض لي فيها جفن ...
فجاءني غلام صغير، يتأبط النّاي والبندير ، عليه أماراتُ البؤس الكثير ، فقلت: أنا العبد الفقير ...اسمى البشير ، هل لي ببعض اللبن ، كي أطفىء لهب الرّمضاء في حشاي بلا ثمن .
قال خُذ القربة والشّنّ ، واشرب ماطاب لك من لبن دون دفع الثّمن .
عببتُ اللّبن عبّا ، ثمّ صببتُ الماء على ناصيتي صبّا ، بعدما انكببتُ على "شكوة "اللبن، حتى صارت تتأوّه وتئنّ ، ولما قضيتُ الأرَب ، توكأتُ على جذعٍ من خشب، وحملت عصا من حطب، كي أنشَّ بها الذباب والهوام، أو أُبعِد عن مضجعي عنزةً شاردة تبغي النّطاح و الصّدام .
استدار نحوي الغلام، وقال : لقد صرتَ على ما يُرام ، فحدّثني عن شخصك الكريم، وخَطْبِك الجسيم .
ثمّ أردف : الحياة أضحت مستحيلة في هذه القبيلة ، وليس لي فيها حيلة ، لكن لن تعدم الوسيلة ، كي تحيا فيها الحياة المديدة الطويلة .
قلت : أنا ابن القبيلة ، بل ابن بجدتها ، وأبو عذرتها ، ورافع صِيتها ورفعتها .
هنا عشتُ الطّفولة ، وتعلّمتُ الفحولة، لكن تركتُها قبل سنّ الكهولة...
ففُؤادي بها مُعلّق، وقلبي بذكرها يتوهّج ويخفق، ولساني يلهج بحبّها ويتنمّق، دُرَرًا ستبقى مدى الأزمان تلمع و تُورق...
قال إذن : أنت من هذه الدّيار ، أيّها الكهل البّار ؟
قلت: تلك مرابعُ صِباي ، ومهدُ أحلامي و مُناي ، فكم عزفتُ على النّاي ، مواويلَ عشقٍ وغرام بزّتْ "الرّاينا رايْ"...
هنا ك في" دُوّار المالح" ترعرعتُ وخرجت، وفي ترابه لعبتُ ودرجْت ، وفي "عين غربي" سرحتُ وولجت.
وهنا في عقْبة "لعلالش" رعيتُ الأغنام، وداعبتُ الحَمام، ورسمتُ أحلى الأحلام ، على دفتر الأيام .
هنا يا ولدي مسقط رأسي ، فيه عرفتُ سعادتي وبُؤسي، وإليه أحنّ حين أُصبِح وأُمسي ، لكنْ أخشى أن يكون فيه رمسي ، بعدما سكنتُ "رأس الوادي" الذّي صار مهوى فؤادي ومُنى نفسي .
قال الغلام : هلاّ حدثتني عن تاريخ القبيلة ؟
قلتُ وأنا أنزع " لَبْلِيغَة " : سأحدّثك يا ولدي بِلُغَةٍ بسيطة لكنْ بَليغة ،عن أصل قبيلة "ريغة" .
ولكنْ هل تعرف سيدي أحمد بن سليمان؟
قال : أسمع به من جدّي الحاج شعبان...
قلتُ وأنا منشرح الصّدر فرحان :
هو الجد الأكبر لقبيلة " ريغة" الضّاربة في عمق التّاريخ والسّيادة، حازت الجاه والقيادة فلم تعرف الخيانة ولا "الشّياتة " ، وهي مزيج من بربر صنهاجة وبربر زناتة ...
صَهر الإسلام منهما المعدن الأصيل، وهيّأهُما لكل أمرٍ جليل ، ونصر بهما ربُّ الأنام ، شوكةَ الإسلام ، عبر الحِقب والأزمان والأيام .
فسيدي أحمد بن سليمان ، من خيرة بني قحطان، فأصله من سيدي عقبة فاتح البلدان، وباني القيروان...
قال الغلام : وهل تعرف" أولاد عيْشة" ؟
قلتُ :هناك يستريح البالُ و تهنأ العيشة، وفي أولاد" سي يحي" ، أعيش وأحيا ، وفي "لكتافة" ، أستلهمُ البوحَ والثّقافة ، وأنسى كلّ سخافة ...
هنا ياولدي صدحتْ حناجرُ النّاس بآي القرآن ، في كلّ وقتٍ وآن ، ففي زاوية "سيدي أحمد بن سليمان"، العامرة بالذّكر والعرفان، حطّتْ قوافل الطّلاّب و"القدادشة " من كلّ مكان ، تترنّم بعطر سيّدِ "بني عدنان".
وعلى تلك التّلال ، أتنسّم ذكرى "هرباجي الحواس "، الزّاهد الوَرِع الحسّاس ، ترك بعده منارات تنير حياة النّاس، "سي محمدالشلالي " الفانوس والنّبراس .
هنا يا ولدي نطقتْ دائرة "عين ولمان"، عالية الشّان، بأفصح لسان، وأمضى سِنان ، فدحرتْ زيْفَ "كولبار" ، وقدّمت للورى أسودا من الثّوّار .
ولن أحدثك عن الشّواء ، فتلك قصّة أخرى تحرّك الأمعاء، وتوقظ الأحشاء ، فمن لم يذقْ شواء "عين ولمان" فليس من الأحياء .
وإنْ تحدّثَ "قصرُ الأبطال" أصْغى الطّيرُ وطار، بأحلى مواويل الشّدو والأشعار ، لأولئك النُّجُبِ الأخيار.
وفي" أولاد بوكثير " ، تجد الرّاحة والخير والوفير، وتستزيد من علمهم الغزير ، ولن تسمع في مرابعهم " الفتيل والنّقير والقطمير". فأكرمْ بـمعشر "لكثاير" ، راني يا خويا فيهم حاير !
هي عرش الأجواد، ورمز الأجداد، ومبعثُ الأمجاد، في تلك النِّجاد والوهاد .
في ثراها شممتُ عطرَ الشّجعان، وفي سماها غرّدْتُ مُستلهما أعذب الألحان، ولولاها لبقيتُ مثل الجُعلان، أهيمُ في التّرْبِ والوديان .
يا ولدي ...
ما أحلى الطّلّة على" أولاد امحلّة"، قمرُ بين الأهلّة، في مرابعها تنثال الأفكارُ مُزْنة مُنهلّة ، فاعذريني إنْ تأخّرتُ أو كبا جوادُ لساني و زلّ.
هنا يا ولدي أهلي وربعي، وأصلي وفرعي، وقرّة عيني وسمعي ، فكيف يرُوج بيعي، ويَرُوق سَجعي ، إن أنا ضيّعتُ عشيرتي ورَبْعي ؟!
يا ولدي الأمجد، هي أولاد سي أحمد ،مهوى أفئدة العُشّاق، و السّيْرِ في الآفاق ، فهي للقلوب الصّافية البلسم والترياق، وهي الجفون والأحداق...
فكيف لاأشتاق، لسحرٍ فاق سحرَ بابل بالعراق؟
هاهي جبالها الشاهقات، وقممها السامقات، وقـُــللها الخافقات ، تُنادي : أين الرّجال والجمال؟
حقا يا ولدي كلّ بئر واحْبالها ، وكلّ دشرة واجْبالها ، وكلّ قبيلة ورجالها ، وكل بلاد وارْطالها .
ولمّا أرخى الليل سدوله، وجرّ النهار ذيوله،وأسرجَ خيوله ، كأنّه يرقبُ أُفوله، قفلتُ راجعا إلى رأس الوادي ، قلعة العلم والجهاد، فوصلتها على ميعاد .