رواية الشعر ورواته
كان العرب في الجاهلية أُمّـةً أُمِّـيَّـةً تغلب عليها المشافهة وتقل فيها الكتابة، ولهذا السبب لم يكن الشعراء الجاهليون يدونون أشعارهم، وإنما كان رواتهم، وهم عادة من ناشئة الشعراء، يتولون مهمة حفظ ذلك الشعر وإشاعته بين الناس. وهؤلاء الرواة الذين وصفناهم بأنهم من ناشئة الشعراء قد قويت قرائحهم بعد ذلك، فأصبحوا أو أصبح بعضهم من الشعراء المشاهير. فقد روت المصادر أن زهيرًا ابن أبي سُلمى كان راوية لأوس بن حجر، وروى عن زهير ابنه كعب والحُطَيئة، كما روى شعر الحطيئة هدبةُ بن خشرم، ثم روى جميل بن معمر شعر هدبة بن خشرم، وروى كُثَيِّر عزة شِعْرَ جميل وهكذا دواليك.
وعندما جاء الإسلام شُغل العرب عن رواية الشعر فترة من الزمان، ولكنهم بعد اتساع الفتوحات الإسلامية، واستقرارهم في الأمصار عادوا إلى رواية الشعر ومُدارسته، وهنا نجد فئة من الرواة نذرت نفسها لرواية هذا الشعر وجمْعه ومحاولة تنقيته من كل ما هو زائف.
ثمَّ نشأت طائفة أخرى من الرواة لم يكونوا ممن يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه من أجل أن يتعلموا طريقته لكي يصبحوا شعراء، وإنما يروونه بقصد إذاعته بين الناس. فقد روت المصادر الأدبية أنه كان لجرير والفرزدق عدة رواة يلزمونهما ويأخذون عنهما شعرهما. ولم يكن هذا الأمر وقفًا على جرير والفرزدق فحسب بل إن غيرهما من الشعراء كان لهم رواة وتلاميذ.
وبعد ازدهار الحياة العلمية والثقافية في مدينتي البصرة والكوفة أصبحت هاتان المدينتان قبلة لطلاب المعرفة، وصارتا تتنافسان في استقطاب العلماء والأدباء والشعراء، فازدهرت فيهما رواية الشعر ودراسته بشكل لم يَسبق له نظير. وبرز في كل مدينة من هاتين المدينتين أعلام مشاهير، جمعوا أشعار الجاهليين والإسلاميين، وكانوا يحرصون على أخذ هذا الشعر من الرواة مشافهة، ولم يكونوا يعولون على الأخذ من الكتب أو الصحف، ولا يثقون بمن يعتمد على ذلك. وقد عُرف رواة البصرة بالتشدد في الرواية والتدقيق فيها، وكانت معاييرهم أكثر دقة من معايير رواة الكوفة الذين امتازوا بالتوسع في الرواية والتسامح في بعض جوانبها.
ومن أشهر رواة الشعر بالبصرة أبو عمرو بن العلاء، وكان ثقة أمينًا، وهو أحد القراء السبعة الذين أخذت عنهم تلاوة القرآن الكريم، وقد وُصف بأنه ¸أعلم الناس بالغريب، والعربية وبالقرآن، والشعر وأيام العرب وأيام الناس·. انظر: أبو عمرو بن العلاء.
ومن أشهر رواة الكوفة حماد الراوية، وكان واسع الرواية قوي الحفظ عالمًا بأشعار العرب وأخبارها، ولكنه لم يكن ثقة، بل كان كما يقول ابن سلام الجمحي: "ينحل شعرَ الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار".
ومن مشاهير رواة البصرة خلف الأحمر، وكان في معرفته بالشعر وأخبار العرب لا يقل عن حماد الراوية. ومن رواة البصرة الثقات أيضًا عبدالملك بن قريب الأصمعي، وهو من أعلم الناس بأشعار الجاهلية وأخبارها، وقد اختار من أشعار العرب مجموعة شعرية عرفت بالأصمعيات. وهي مشهورة ومتداولة. انظر: الجزء الخاص بالأصمعيات في هذه المقالة. وقد رويت عنه دواوين كثيرة أشهرها دواوين: امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة. انظر: الأصمعي. ومن رواة البصرة أيضًا أبو سعيد السكري، وله الفضل الأكبر في جمع كثير من دواوين الشعراء الجاهليين.
كما يعدُ المفضل بن محمد الضبِّي من أبرز رواة الكوفة، وكان عالمًا بأشعار الجاهلية، وأخبارها وأيامها، وأنساب العرب، وأصولها. وقد اختار مجموعة من أشعار العرب عُرفت بالمفضليات. وهي مطبوعة ومتداولة. انظر: الجزء الخاص بالمفضليات في هذه المقالة. ومن الرواة الكوفيين أيضًا أبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، وابن السكّيت، وثعلب، وغيرهم. ولكل راوية من هؤلاء الرواة ترجمة في هذه الموسوعة.[/grade]
مجموعات الشعر
فكرة المجموعات
المعلقات
المُفضَّـليَّــات
الأَصْمعيَّات
جمهرة أشعار العرب
ديوان الهذليّين
الحماسات
[grade="00008b ff6347 008000 4b0082 8b0000"]الشعر ديوان العرب. وكان اهتمامهم بالشّاعر، قديمًا، أكثر من اهتمامهم بالكاتب، لحاجتهم إلى الشاعر. وقد عبّروا عن هذا الحرص على الشعر والاهتمام بالشاعر في عنايتهم بما اصطلح على تسميته بمجموعات الشعر.
وهذه المجموعات أقرب إلى ديوان الشعر بما تحويه من أشعار لعدد من الشعراء. وترتبط نشأتها بحركة رواية الشعر في عصر التدوين، في القرن الهجري الأوّل. ثم أخذ الرواة، بعد ذلك، يتناقلون هذا التراث جيلاً بعد جيل.
ومن أشهر هؤلاء الرواة أبو عمرو بن العلاء والأصمعي والمفضّل الضبي وخلف الأحمر وحماد الراوية وأبو زيد الأنصاري وابن سلاّم الجمحي وأبو عمرو الشيباني وغيرهم. انظر: الجزء الخاص برواية الشعر ورواته في هذه المقالة.
فكرة المجموعات. تختلف هذه المجموعات تبعًا لفكرة كل مجموعة منها، فبعضها يرمي إلى إثبات عدد من القصائد المطولة المشهورة وهي المعلقات. وبعضها قد يكتفي بالأبيات الجيدة المشهورة يختارها من جملة القصيدة وهي المختارات، ومنها ماوقف عمله على الشعر الجاهلي لا يتعداه، على حين زاوج بعضها بين الجيّد من شعر الجاهلية والإسلام.
وتقدم المجموعات فائدة أكبر من فائدة الدواوين؛ لأن الأخيرة أضيق مجالاً لوقوفها عند شاعر بعينه لاتتجاوزه، في حين نجد المجموعة أوسع مجالاً لتنوع الموضوعات وتعدّد الشعراء. فهي أقدر على تصوير ذوق العصر بإعطائها خلفية أوسع عن الحياة الاجتماعية، وإن كان ذوق مصنّفها لا يغيب عنها في كل الأحوال.[/grade]
وأشهر هذه المجموعات:
المعلقات. مصطلح أدبي يطلق على مجموعة من القصائد المختارة لأشهر شعراء الجاهلية، تمتاز بطول نفَسها الشعري وجزالة ألفاظها وثراء معانيها وتنوع فنونها وشخصية ناظميها.
قام باختيارها وجمعها راوية الكوفة المشهور حماد الراوية (ت نحو 156هـ، 772م).
واسم المعلقات أكثر أسمائها دلالة عليها. وهناك أسماء أخرى أطلقها الرواة والباحثون على هذه المجموعة من قصائد الشعر الجاهلي، إلا أنها أقل ذيوعًا وجريانًا على الألسنة من لفظ المعلقات، ومن هذه التسميات:
السبع الطوال. وهي وصف لتلك القصائد بأظهر صفاتها وهو الطول.
السُّموط. تشبيهًا لها بالقلائد والعقود التي تعلقها المرأة على جيدها للزينة.
المذَهَّبات. لكتابتها بالذهب أو بمائه.
القصائد السبع المشهورات. علَّل النحاس أحمد بن محمد (ت 338هـ،950م) هذه التسمية بقوله: لما رأى حماد الراوية زهد الناس في حفظ الشعر، جمع هذه السبع وحضهم عليها، وقال لهم: هذه المشهورات، فسُميت القصائد السبع المشهورات لهذا.
السبع الطوال الجاهليات. أطلق ابن الأنباري محمد بن القاسم (ت 328هـ ، 939م) هذا الاسم على شرحه لهذه القصائد.
القصائد السبع أو القصائد العشر. الاسم الأوّل هو عنوان شرح الزوزني الحسين بن أحمد (ت 486هـ، 1093م)، أما التبريزي يحيى بن علي (ت 502هـ، 1109م)، فقد عنْون شرحه لهذه القصائد بـ شرح القصائد العشر.
وقد أشار ابن رشيق في كتابه العمدة إلى بعض هذه المصطلحات، فقال: "وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه المسمًّى بجمهرة أشعار العرب: إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السُّمُط: امرؤ القيس وزهير والنابغة، والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة. قال: وقال المفضل: "من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء، فقد أبطل"، فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة، والحارث بن حلِّزة، وأثبت الأعشى والنابغة.
ويُقال: إنها قد سميت بالمذهّبات، لأنها اختيرت من سائر الشعر فكُتبت في القباطي بماء الذهب، وعُلقت على أستار الكعبة، فلذلك يقال: مُذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علِّقوا لنا هذه، لتكون في خزانته.
وكما اختلفوا في تسميتها، اختلفوا في عددها وأسماء شعرائها. لكن الذي اتفق عليه الرواة والشُّرَّاح أنها سبع، فابن الأنباري، والزوزني اكتفيا بشرح سبع منها هي:
1ـ معلقة امرئِ القيس ومطلعها:
قفانَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومنزلٍ بسِقط اللِّوى بين الدَّخول فحوْمَل
2ـ ومعلقة طرفة بن العبد ومطلعها:
لخولة أطلالٌ بِبُرقة ثهمد تلـوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
3ـ معلقة زهير بن أبي سُلْمى ومطلعها:
أَمِنْ أمِّ أًَوْفَى دمْنةٌ لم تَكَـلَّم بَحْــومَانـــة الدُّرّاج فالمتَـثَـلَّــــم
4ـ ومعلقة عنترة بن شداد ومطلعها:
هل غادَرَ الشُّعراء من مُتَردَّم أم هَلْ عرفْـتَ الـدار بعـد توهــم ؟
5ـ ومعلقة عمرو بن كُلثوم ومطلعها:
ألا هبيِّ، بصحْنِك فاصْبحينا ولا تُبـــقي خُمـــور الأنْدَرِينــــا
6ـ ومعلقة الحارث بن حِلِّزة ومطلعها:
آذنتْنـــا ببينـهــــا أسْمـــــاءُ رُبَّ ثــــاوٍ يُمَـــلُّ منـه الثَّـــواُء
7ـ ومعلقة لبيد بن ربيعة ومطلعها:
عَفَتْ الدِّيارُ مَحَلُّها فَمُقامُهَا بمنى تَأبَّـــد غولُهـــا فِرَجامُهَــــا
أما أحمد بن محمد النحاس، أحد شُرَّاح المعلقات، فقد أنهى شرحه لقصيدة عمرو بن كلثوم وهي القصيدة السابعة عنده بقوله: "فهذه آخر السبع المشهورات على مارأيت عند أكثر أهل اللغة... وقد رأيت من يضيف إلى السبع قصيدة الأعشى التي مطلعها:
وَدِّع هريرةَ إن الركب مُرْتحِلُ وهل تُطِيقُ وداعًا أيُّها الرَّجُـــــلُ؟
وقصيدة النابغة التي مطلعها :
يادار مَيَّة بالعلياء فالسندِ أقوتْ، وطال عليها سالِفُ الأبد
وعلل سبب إضافة هاتين القصيدتين إلى القصائد السبع بقوله: "رأينا أكثر أهل اللغة تذهب إلى أن أشعر أهل الجاهلية امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى، إلا أبا عبيدة فإنه قال: أشعر الجاهلية ثلاثة: امرؤ القيس وزهير والنابغة فحدانا قول أكثر أهل اللغة إلى إملاء قصيدة الأعشى وقصيدة النابغة لتقديمهم إياهما وإن لم تكونا من القصائد السبع عند أكثرهم".
أما التبريزي فقد أنهى شرحه لقصيدة الحارث بن حِلِّزة وهي القصيدة السابعة عنده بقوله: "هذه آخر القصائد السبع، وما بعدها المزيد عليها". فذكر قصيدتي الأعشى والنابغة السابقتين وأضاف إليهما قصيدة عَبيد بن الأبرص التي مطلعها:
أقفر من أهله ملحُوبُ فالقُطَّبيَّات، فالذَّنُــوب
وهي القصيدة التي من أشهر أبياتها قوله:
فكل ذي نعمة مخلوس وكل ذي أمل مكذوب
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب
من يسأل الناس يحرموه وسائـل الله لا يخيــب
وكما اختلف الرواة في عدد القصائد، اختلفوا أيضًا في عدد الأبيات وترتيبها. وفي رواية بعض الألفاظ. وهو اختلاف مألوف في نصوص الكثير من الشعر الجاهلي بسبب وصوله إلى عصر التدوين عن طريق الرواية الشفوية وبسبب تعدد الرواة واختلاف مصادرهم.
وإن كان مصطلح المعلقات أو المسمَّطات أو المذهبات يعني لونًا من الاستحسان لتلك القصائد وتمييزها عن سائر شعر الشاعر، فكذلك الحال بالنسبة للقصائد الحوليات إذ إن مصطلح الحوليات عُني به المدح والإشادة بجهد الشاعر حين يستغرق نظمه القصيدة وتنقيحها حولا كاملاً قبل أن يخرجها للناس ويذيعها بينهم. وكان الشعراء الذين يفضِّلون هذه الطريقة هم ممن يحرصون على مكانتهم الشعرية أكثر من غيرهم.
وتسمى قصائدهم أحيانًا، بالمقلدات والمنقحات والمحْكَمَات. وقد عُرف زهير بن أبي سلمى بأنه من أصحاب الحوليات. روى ابن جني أن زهيرًا عمل سبع قصائد في سبع سنين، وأنها كانت تسمى حوليات زهير. وروى ابن قتيبة أن زهيرًا نفسه كان يسمي قصائده الكبرى الحوليات. وقد قيل: إنه كان يعمل القصيدة في أربعة أشهر، وينقحها في أربعة أشهر، ثم يعرضها في أربعة أشهر، ثم بعد ذلك يخرجها إلى الناس.
ويرى ابن رشيق أن فترة نظم القصائد لم تكن تستغرق من زهير هذه المدة الطويلة، فهو في رأيه ينظم القصيدة في ساعة، أو ليلة، ولكنه يؤخرها عنده من أجل التنقيح والتهذيب خشية النقد. وهذا الشعر المنقَّح يفضله بعض الناس على غيره من الشعر لخلوِّه من المآخذ، بينما ينظر إليه آخرون على أنه شعر متكلَّف، لم يأت عن إسماح وطبع. فالحُطيئة، وهو تلميذ زهير وشريكه في الصنعة، يقول: "خير الشعر الحولي المنقَّح المحكَّك". أما الأصمعي فإنه يقول: "زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جَوَّد في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة". ويصف ابن قتيبة الشاعر الذي ينقح شعره بأنه شاعر متكلِّف، ويقول عن الشعر المتكلَّف: "إنه وإن كان جيدًا محكمًا فليس به خفاء على ذوي العلم لتبيُّنهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين".
ولم يكن التنقيح والتهذيب وقفًا على زهير والحطيئة، بل إن هناك شعراء آخرين في الجاهلية والإسلام كانوا يتَأَنَّون، ويعيدون النظر في أشعارهم. ومن بين من عُرف بذلك من شعراء الإسلام مروان بن أبي حفصة، وذو الرُّمَّة، ولكننا لا نعرف شاعرًا آخر غير زهير تمكث القصيدة عنده حولاً كاملا،ً بحيث يمكن أن يعد من شعراء الحوليات.
المُفضَّـليَّــات. من أقدم ماوصل إلينا من اختيار الشعر. جمعها وألَّفها المفضّل بن محمد الضبيّ (ت 168هـ، 784م)، العلاّمة الكوفي راوية الأخبار والآداب وأيّام العرب وأحد القُرّاء البارزين.
عمد المفضّل إلى الجيِّد من الشعر القديم فاختار منه مجموعة اختلف الناس في سبب تأليفها، فقيل: "كان ذلك بطلب من الخليفة المنصور" وقيل: " ألَّف ذلك الاختيار للمهدي". والرّوايات في ذلك مختلفة؛ فقد روى أبو الفرج الأصفهاني عن المفضّل نفسه أنه قال: "كان إبراهيم بن عبدالله بن الحسن متواريًا عندي، فكنت أخرج وأتركه. فقال لي: إنك إذا خرجت ضاق صدري فأخرج إليّ شيئًا من كتبك أتفرَّج به. فأخرجت إليه كتبًا من الشعر فاختار منها السبعين قصيدة التي صدَّرت بها اختيار الشعراء، ثمّ أتممت عليها باقي الكتاب".
وخلاصة كلّ هذه الروايات أن المفضّل هو الذي اختار القدر الأوفى من الشعر القديم الذي حوته هذه المجموعة الرائدة.
أما تسميتها بالمفضّليات فالغالب على الظّن أنها لم تصدر عن صاحبها، المفضّل، وربّما نُسبت إليه، ثم اشتهرت بذلك.
وتتبوأ المفضّليات مكانة مرموقة بين مجموعات الشعر القديم. فبالإضافة إلى قيمتها التاريخية وإبقائها على جانب مهم من الشعر الجاهلي، وحفظه من الضّياع، وأنّها أقدم مجموعات الشعر، فهي تمتاز أيضًا بأن القصائد التي اختارها المفضّل قد أثبتها كاملة غير منقوصة، يضاف إلى كل ذلك اشتمالها على طائفة صالحة من أشعار المقلِّين من الشعراء.
وشعراء المفضّليات أكثرهم من الجاهليين وفيهم قلّة من المخضرمين والإسلاميين، وعددهم 66 شاعرًا، منهم تأبّط شرًّا والشَّنْفَرَى الأزدي، والمرقّشان: الأكبر والأصغر، والمثقّب العبدي وأبو ذؤيب الهذلي، ومتمّم بن نويرة، وبشر بن أبي خازم، وسلامة بن جندل وغيرهم.
أما القصائد المختارة في هذه المجموعة فقد تراوحت بين 128 و 130 قصيدة حسب الروايات، إلاّ أن الرواية
المعتمدة والتي عليها الناس هي رواية ابن الأعرابي عن المفضّل. ومجموع أبيات المفضّليات نحو2,700 بيت.
وقد حظيت المفضّليات بعناية القدماء، فشرحوها شروحًا وافيةً مفيدةًَ، وفي مقدمتها شرح الأنباري (ت305هـ، 918م). وابن النّحاس (ت 338هـ، 949م). والمرزوقي (ت 241هـ،855م). والتبريزي (ت502هـ، 1108م). أما في العصر الحديث فقد لقيت أيضًا اهتمام العلماء عربًا ومستشرقين، فحقّقوها وضبطوها ونشروها في طبعات عديدة.
الأَصْمعيَّات. مجموعة مهمة من مجموعات الشعر العربي القديم، جمعها وألفها أبو سعيد، عبدالملك بن قُريب، الأصمعي (ت 217هـ، 832م). وهو عالم في الطليعة من العلماء الأقدمين. كان قويّ الذاكرة غزير المحفوظ، متمكنًا، عالمًا بأنساب العرب وأيامها وأخبارها وأشعارها. وهو بحر في اللغة لايعرف مثله فيها وفي كثرة الرواية.
والأصمعيات هي المجموعة التي تلي المفضليات في أهميتها وقيمتها الأدبية. ويعدها العلماء متممة للمفضليات. ولعلّ تلاميذ الأصمعي أو المتأخرين هم الذين أطلقوا عليها الأصمعيات، تمييزًا لها وفرقًا بينها وبين اختيار المفضّل الضبّي. ورغم ذلك، فإن الاختلاط والتداخل قد وقع بين هذين المجموعين حتى ذكر بعض الناس قصائد من المفضليات على أنها أصمعيات. بل ذكر بروكلمان أن للأصمعيات أربع مخطوطات إحداها مختار مختلف من المفضليات والأصمعيات. ويبدو أن أمر الاختلاط قديم، أو أن النسخ التي أطلع عليها الأقدمون تختلف عمّا بأيدينا؛ لأن كثيرين منهم كابن قتيبة وأبي عبيدة قد ذكروا قصائد وجعلوها من اختيار الأصمعي، إلاّ أنها غير موجودة في أصمعيّاته المطبوعة.
وعلى كل حال، فإن المجموعة التي اشتملت عليها الأصمعيات هي من جيّد الشعر؛ لأن الأصمعي معروف بغزارة الحفظ وجودة الاختيار. وقد اقتصرت هذه المجموعة على الشعر القديم الجاهلي، وشيء من شعر المخضرمين والإسلاميين. واختار فيها لكثير من الشعراء قصائد غير التي اختارها لهم صاحب المفضليات. وممن اختار لهم الأصمعي: دريد بن الصمّة وعروة بن الورد وعمرو بن معديكرب ومهلهل بن ربيعة والمتلمّس ومتمّم بن نويرة وغيرهم.
وبلغ عدد الشعراء الذين اختار من شعرهم 72 شاعرًا وكانت قصائدهم 92 ومجموع أبياتها 1,439 بيتًا.
نشرت الأصمعيات أول مرة بعناية المستشرق وليم بن الورد في ليبزج بألمانيا سنة 1902م، ثم نشرت في طبعة محققة بعناية أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون.