حدثنا عباس النموشي قال : شدني الحنين إلى زمن الطيش و رغد العيش مع الصبية و البنين ، يوم كنت أتزعم رفقتي ، مهابا بينهم لبأسي ، وكنا نسكن حيا يسمى حي المطار ، فيه من الفتية كثير الأشرار ، لا يخشون أحدا و لا يخافون أبدا ، و كانت مدرستنا في الحي المجاور ، بعيدة علينا بعدة محاور ، نغدو إليها صباحا و نروح منها مساءا ، و كنا إذا مررنا بالحي المذكور نجد فتية من أندادنا ذكور ، يترصدوننا و يبغون لنا الشرور ، لأنهم كثيري العدد ، وفيري المدد ، تارة نتشاجر معهم ، و أخرى نهرب منهم ، فكانت القبلية مرسخة فيهم رغم صغرهم و العصبية حامية عندهم رغم جهلهم ، و كانت الأيام بيننا سجالا و الألفة معهم محالا ، و في إحدى المرات ، كنا نلعب الكرة قرب أحد الممرات ، يقع مناصفة بين حينا و حيهم ، حتى أقبلت مجموعة منهم ، و كانوا جمعا كثيرا ، و نفرا كبيرا ، فقالوا لنا هيا تلعبوا معنا فريقا مقابل فريق ، و من يخسر اللقاء يكن في حكم الغريق ، و يعطي الإتاوة و يزيد عليها العلاوة ، و يكون خاضعا لخصمه حتى النهاية ، فقبلنا رغم صغر عددنا و قلة حيلتنا ، فانقسما إلى فريقين ، و لكلينا مساندين ، و بدأت المباراة ، و كان الحكم منهم بلا مبالاة ، يؤازرهم و يساندهم ، لكن رغم كل هذا ، لم يجدوا من الهزيمة ملاذا ، فغلبناهم و في الترب مرغناهم ، و درسا قاسيا أعطيناهم ، و شر هزيمة هزمناهم لكنهم لم يقبلوا بالنتيجة و راحوا يستفزوننا و نحن في وشيجة ، و صاروا يكيلون لنا الشتائم ، و يصفوننا بالبهائم ، و حينها ثارت ثائرتي و أمرت صحبتي بالرد عليهم و النيل منهم ، فوقع بيننا شجار ، و اشتبكت الأيدي كفروع الأشجار ، بالوكز و الوخز و الركل كوقع النصل ، و تناطح الرؤوس حتى حسبناها الحرب الضروس ، و أبلى أصحابي بلاءا حسنا ، إذ فتكنا بهم علنا ، لكن الكثرة تغلب الشجاعة ، فأقبلوا علينا كالفزاعة أو كالجراد في وقت المجاعة ، فلما رأيت مآل حالنا ، و ما جرى لنا أمرت صحبي بالإنسحاب ، و تجنب الاقتراب من جمعهم و أخذ الحذر و الأسباب ، و هرعنا إلى تل مرتفع و صرنا به نتجمع ، و غيرت مجريات القتال ، بأن نمطرهم بحجارة الوبال ، و شرعنا نتقاذف بها ، و أنا أتحاشاها لأني في المقدمة ، و تحتي صعاب الأدمة ، لكنهم انهالوا علينا رميا بالصوان من كل مكان ، فأحسست بالهزيمة و تثبيط العزيمة ، إلا أنني تداركت الأمر ، و فكرت مليا ، كي لا نقع في الأسر جليا ، فأرسلت حينها صديقي عليا ، لجلب الدعم و المدد من حينا و السند فانطلق بسرعة البرق كأنه جني أزرق ، و بقيت مع رفقتي نتحدى أعداءنا ، و قد تكدس الحجر أكواما حذاءنا ، و أنا أحث الجمع على الصمود ، و تجنب القعود ، و ما هي إلا لحظات حتى قدمت جماعة في زرافات ، و تمعنت فيها و تعرفت على أولها ، يقودهم الفتى عبد الغني ، المشهور بالبطش بين صحبتي ، و صرت أصيح ها قد جاء الغوث ، اليوم سنغلب العدو و به نعبث ، فأقبلوا كالسيل العرمرم ، أو كمثل عذاب مدمدم ، و اندمجنا معا ، والى الخصم انطلقنا ، فبدا عليهم الخوف و الوجل ، وفيهم من هم على عجل من هارب و فازع كمن قرب له الأجل و التحمنا مجددا ، بالهراوات و العصي الحديدية و السلاسل الفولاذية ، حتى تزحزحوا عن مواقعهم ، و خلوا أماكنهم و بقيت بيننا و بينهم مسافة ، و قد أبدوا منا مخافة ، و بقينا نرقب بعضنا البعض وكلنا في غيض ، حتى تقدم زعيمهم و يدعى الدريدي ، و صار يخاطبنا : لنكف عن التشابك بالأيدي ، و لنجعلها معركة جيش لجيش ، و خلونا من عمل الطيش ، هيا أخرجوا لنا شجعانكم ، و ليكونوا أربعة من إختياركم ، فاغتظنا لما قال ، و تغير منا الحال ، فتشاورنا فيما بيننا ، و على الخروج اتفقنا ، فأظهر عبد الغني نفسه و خرجت أنا خلفه ، و زاد أخي محمدا معنا ، و كان أبو القاسم رابعنا ، و بعد برهة برز لنا نظرائنا منهم ، و كانوا هم شجعانهم ، واقتربنا من بعضنا عن كثب ، و لكل منا حيلة الذئب و الثعلب ، و بلا رحمة ، أمسك عبد الغني خصمه من عنقه ، و كاد يخنقه ، و حمي الوطيس بينهم من ركل و وكز و الغبار خلفهم ، و كانت الغلبة لقائدنا ، فهتفنا بالصراخ مدحا و تشجيعا لصاحبنا ، أما أخي محمدا فقد بارز خصما قويا أشعث الشعر مجعدا ، قوي البنية قبيح الوجه شديد الفرية ، بيد أن أخي تغلب عليه و طرحه أرضا و جلس فوقه ، و أخذ يوجه له اللكمات ، حتى ملأ وجهه بالكدمات و صار يصيح من وطأة اللكم ، و عم الهتاف الميدان ، و قد تغلب عليه و أصبح في خبر المهان ، أما أنا فقد برز لي زميلي في الصف يدعى مسعودا ، فقلت له ثكلتك أمك و ستغدو مفقودا في أمد معدود ، و لسوف أجرمنك كأصحاب الأخدود ، و مسعود هذا بيني و بينه ضغينة ، لا تمحوها السنون بسبب إفك و نميمة ، جراء تطاوله على شخصي ، في فصلي ، لأني متفوق عليه في الدراسة ، و أحسن منه فطنة و فراسة و الآن قد سنحت الفرصة لكلينا ، فقد وجبت تصفية الحساب بكل وسائلنا ، و كان أطول مني قامة ، و أرفع مني جثة و هامة ، لكني فكرت في حيلة أن أسقطه أرضا و ألحق به وابلا من الركل أيضا ، و اتبع أسلوب القتال الخاطف ، بالسرعة و الفرار الزائف ، فالتحمنا و بالأيدي تشابكنا ، و أمسكني من خصري و على الأرض سقطنا إلا أنني تداركت الموقف ، و ركلته قبل أن يقف ، و ما إن سقط حتى سحبته من رجله ، وبركلة إلى وجهه ، وجهتها له ، فانفجر انفه دما ، و زدته نطحة و كدما ، و انهلت عليه بالصفع على خده و الدفع لجسده ، حتى بكى و فر هاربا ، و أنا أجري وراءه و على مؤخرته ضاربا ، أما صاحبنا أبا القاسم فقد كان نده قويا يدعى المولدي تسمع لصوته دويا ، استطاع في برهة أن يغلب صاحبنا و يرميه في ترعة ، و حاصره من كل مكان ، و كاد أن يسقط له الناب و الأسنان ، فأشبعه ضربا مبرحا و زاده ألما و جرحا ، فلم يتمالك عبد الغني نفسه من هول ما رأى ، و على جناح السرعة ضربه بعصا ، ثم أصابه كليته اليمنى بحجر ، فصار يصرخ من الألم و يضجر ، عندها تقدم واحد منهم ، و أراد أن يضرب قائدنا الملهم ، لكن سرعان ما اشتبكنا مجددا و اختلط الحابل بالنابل بالفارين و تعدد ، فصبرنا و في القتال جلدنا ، حتى زحزحناهم عن مواقعهم ، و صرنا نجري خلفهم ، ونحن نصيح الله أكبر ها قد جاء النصر ، و تلاشى جمعهم ، و أمسكنا أسرى منهم ، وبالأسلاك قيدناهم ، و لبثنا معهم نحرسهم ، أما رفقتنا الآخرين ، فقد تبعوا الهاربين ، و أدخلوهم الى ديارهم خاسئين ، و رجعوا لنا بغنائم عديدة تحوي خفافا و محافظا جديدة ، بها أدوات مدرسية و كتبا مفيدة فاقتسمناها بيننا مناصفة ، حسب عددنا مرادفة ، لكنني و في حيرة من أمري ، قلت للقائد ماذا سنفعل بالأسرى ، فأجابني بأن نتركهم و هو الأحرى ، و ما هي إلا لحظات حتى لمحنا جماعات قادمة في سرعة العاديات ، العجاج من خلفهم يتطاير ، و الشر في وجوههم ظاهر ، فعلمت أنهم أولياء خصومنا جاءوا ليؤدبوننا ، و قلت لقائدنا ما العمل ؟ لقد قربونا ، و في حنكة العارف أعطانا الأمر بالانسحاب ، و ترك الأسرى و الغنائم و الأسلاب ، فهربنا جميعنا حتى وصلنا إلى حينا ، و قد فلتنا منهم و وقانا الله شرهم ، و من حينها أصبحنا نصول و نجول في حيهم دون أن ينبس احد منهم بشفة أو يتكلم معنا منهم .