القيم الأخلاقية / هل هي نسبية أم مطلقة؟؟
المقدمة: (طرح المشكلة):
الإنسان بحكم طبيعته الإجتماعية والأخلاقية يتبادل مع غيره من الأفراد الأشياء والأفكار والمشاعر وهو لا يكتفي بأن يحيط حياته بالقيم الأخلاقية بل هو يسأل ويبحث عن طبيعتها لذلك غلب الجدل حول هذه المسألة بين دعاة النضرية المطلقة القئلين بثبات الأخلاق ودعاة النضرية النسبية القائلين بعكس ذلك وهنا يحق لنا طرح هذه المشكلة: *هل يا ترى القيم الأخلاقية مطلقة أم نسبية؟؟
عرض الاطروحة الأولى: يرى اتباع النضرية المطلقة أن القيم الأخلاقية لا ترتبط بالمكان والزمان والمجتمع بل هي قيم ثابتة واحدة لدى جميع الناس ومطلقة لاتتغير وتتميز بالموضوعية وباستقلالها عن الأفراد وتعاليها عليهم, وهي تتضمن قيمتها في باطنها وهي دائما واضحة بذاتها لا تقبل شكا ولا جدلا ومن انصار هذه الاطروحة الفيلسوف الالماني كانط صاحب عبارة: "شيئان يملآن اعجابي سماء مرصعة بالنجوم وضمير يملأ قلبي" وهو يرى ان الاخلاق مطلقة من حيث استنادها الى قاعدة مطلقة هي الارادة الخيرة التي تدفعنا الى القيام بالواجب الأخلاقي من أجل الواجب وفي هذا المعنى قال: "ان الفعل الذي يتم بمقتضى الواجب يستمد قيمته الخلقية, لا من الهدف الذي يلزم تحقيقه بل من مبدأ القاعدة التي تقرر تبعا لها" وبذلك رفض أصحاب الاتجاه المطلق ربط الاحلاق بنتائج الأفعال بمعنى ان الانسان الفاضل لا يقدم على فعل الخير رغبة في تحقيق لذة أو جلب منفعة وانما يأتيه لذاته بإعتبار غاية في نفسه ومن قبله رأى افلاطون ان خيرية الأفعال وشريتها وصواب الأقوال أو خطأها وجمال الأشياء أو قبحها هي مستقلة عن الأفراد تمام الاستقلال وبالتالي لا تتغير الظروف والأحوال والمجتمعات لذلك قال أفلاطون: "الخير فوق الوجود شرفا وقوة" وتبرر هذه الأطروحة موقفها بأن الدراسات الانثروبولوجية الحديثة قد كشفت لنا عن وجود تقارب كبير بين هذه الشرائع الأخلاقية المختلفة فمثلا قد تختلف الشرائع الأخلاقية في حكمها بحق الرجل البالغ في الزواج من واحدة أو أكثر ولكنها تتفق جميعا على أنه ليس من حق الرجل ان يتزوج أية إمراة شاء في اي وقت شاء. وربما اختلفت الشرائع الاخلاقية ايضا في تحديد (الحالات) التي يكون فيها الكذب أهون الشرين ولكنها تجمع بلا استثناء على اعتبار (قول لصدق) في الحالات العادية عملا اخلاقيا صائبا. والواقع أن على الرغم من وجود شرائع أخلاقية متعددة فليس ما يمنع من امكان قيام (شريعة أخلاقية مطلقة) وفي الفكر الاسلامي نجد الأشعري يقول: "الخير والشر قضاء الله وقدره" فالحكمة الإلهية هي التي تفصل في الأمور وإرسال الرسل عليهم السلام حجة تثبت ذلك.
النقد: من حيث الشكل نرد عليهم بأن الواقع يثبت أن العصر الذي نعيش فيه لم يعد عصر مبادئ أخلاقية مطلقة وقيم أزلية ثابتة بل قد أصبح عصر مرونة وتساهل ونسبية ومن حيث المضمون نرد عليهم أن شواهد التاريخ شاهدة على تعدد الشرائع الأخلاقية فالمجتمع اليوناني له أخلاقه والمجتمع الإسلامي له أخلاق تميزه عن غيره.
عرض الاطروحة الثانية: على النقيض من هذه الأطروحة يرى اتباع النضرية النسبية أن القيم الأخلاقية ليست مطلقة وثابتة بل هي متحركة ومتبدلة متأثرة بمتغيرات الوقت والمكان والمجتمع ومن ثمة هي نسبية وهم يرون أن الخطأ والصواب يختلف بإختلاف الثقافة التي يحملها المجتمع كما ان القيم الاخلاقية للمجتمعات تختلف بمرور الزمن والقيم الأخلاقية التي يحصل عليها المجتمع تحدد قيمتها تبعا للوقت والمكان والمربين الذين ترعرع على ايديهم هذا المجتمع أو اللإنسان. ومن انصار هذه الاطروحة دافيد هيوم الذي قال: "الواجب الأخلاقي الزم صادر عن المنفعة وضرورات المجتمع" وهو يرى ان الأحكام الأخلاقية خاضعة للعرف والعادة والبيئة الإجتماعية فجريمة واحدة قد تصادف أحكاما مختلفة بإختلاف الظروف والأحوال. كما أن الحكم على الأفعال بالخير أو الشر راجع الى عاطفة او احساس نابع من التجربة والمجتمع اللذين يجعلان الانسان يتشبت بالحسن لما يجلبه له من منفعة ويبتعد عن القبيح لما يجلبه له من ضرر ويرى دوركايم ان الضمير الأخلاقي تعبير عن صوت المجتمع وهو يتردد داخل الذات الفردية بلغة الآمر والناهي مما يجعله يتمتع بسلطة قاهرة ويمنح بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاق وفي هذا المعنى قال: "لسنا سادة تقويمنا الأخلاقي بل المجتمع" وقال أيضا: "إذا تكلم الضمير فينا فإن المجتمع المجتمع هو الذي يتكلم" وهو يرى أنه مادامت الاخلاق ترتبط بالمجتمع فهي نسبية والدليل على ذلك ان لكل مجتمع قيم أخلاقية تنسجم مع طبيعة تكوينه العام الإجتماعي والثقافي والحضاري وأتباع هذه النضرية يدعون بأنه لا توجد أخلاق عالمية مجردة يمكن لها أن تسود المعمورة. فكل إنسان له ان يقرر المعيار الأخلاقي بنفسه ولنفسه لهذا يصعب أن نحكم على اي قول أو فعل بأنه خطأ أو صواب لأن هذا الفعل أو القول يجب أن ينسب الى صاحبه فصاحبه هو من يحق له الحكم على القول أو الفعل ويقرر مدى صحته وصلاحيته فمثلا الكذب قد يبدو صحيحا في ظرف معين لإنسان ما ف حين أنه خطأ في ظل نفس الظروف لإنسان آخر ومع ذلك لايجوز لنا ان نحكم عليهما أو أحدهما بالخطأ لان كلاهما على صواب يعترض دعاة النسبية على القول بأخلاق مطلقة فيقولون أن الاحكام الأخلاقية في جوهرها أحكام وجدانية تستند الى العواطف وترتكز على الانفعالات وبالتالي تختلف من فرد لآخر بل قد تختلف لدى الفرد الواحد بإختلاف حالاته الوجدانية
النقد: ان كانت هذه الأطروحة تبدو للوهلة الأولى وكأنها مستساغة ومقبولة, إلا أنها لا تصمد أمام النقد وتعارض نفسها لتنهار بسرعة وهي غير قادرة على الوقوف والمحاجة. فمن حيث الشكل نرد عليهم بأن هناك مبادئ أخلاقية عامة لا يختلف عليها أحد ولكن تختلف الامم في كيفية التعبير عنها قبيل "عدم إيذاء الناس" أو "إحترام الآخرين" أو "الصدق والشجاعة" ومن حيث المضمون نرد عليهم أن الاخلاق إذا كانت نسبية فإنه ولا شك ستفقد قدرتها على إلزام الآخرين بها ومن ثمة تفقد طابعها المثالي المقدس
التركيب: يتحدد مفهوم الأخلاق لغة على أنها مجموعة من الفضائل والمكارم كالصدق والوفاء والشرف وفي الفلسفة الأخلاق هي مجموعة من المبادئ المعيارية التي يجب أن يسير وفقها السلوك إذا كان من السهل مدح الأخلاق والحديث عن قيمتها فإنه من الصعب تحديد طبيعتها بين المطلق والنسبي وهذه مشكلة للفصل فيها نقول كموقف شخصي (القيم الأخلاقية مطلقة في أهداف ما ونسبية ومتغيرة غير تطبيقها) وثبات القيم راجع إلى أصلها الديني والعقلي وكما قال فيخته: "الأخلاق من غير دين عبث" ولكن بما أن الإنسان يطلب المنفعة ويعيش في مجتمع فإن طبيعة الأخلاق نسبي
الخاتمة: (حل المشكلة): كمخرج عام نقول المشكلة التي بين أيدينا لها علاقة بمحور الأخلاق بين النسبي والمطلق وقد تبين لنا ان الأطروحة الأولى دافعت عن ثبات وشمولية ومطلقية القيم الأخلاقية والثانية سارت في إتجاه معاكس وركزت على نسبية الأخلاق وبالعودة الى منطق التحليل نصل إلى حل المشكلة فنقول: الأخلاق مطلقة في أهدافها ونسبية في تطبيقها.