كتاب البر بالوالدين
*2* باب برّ الوالدين، وأنهما أحق به
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفٍ الثّقَفِيّ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ أَحَقّ النّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: "أُمّكَ" قَالَ: ثُمّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمّ أُمّكَ" قَالَ: ثُمّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمّ أُمّكَ" قَالَ: ثُمّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمّ أَبُوكَ".
وَفِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ: مَنْ أَحَقّ بِحُسْنِ صِحَابَتِي؟ وَلَمْ يَذْكُرِ النّاسَ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ أَحَقّ بِحُسْنِ الصّحْبَةِ؟ قَالَ "أُمّكَ. ثُمّ أُمّكَ. ثُمّ أُمّكَ. ثُمّ أَبُوكَ. ثُمّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عُمَارَةَ وَ ابْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ. وَزَادَ: فَقَالَ: "نَعَمْ: وَأَبِيكَ لَتُنَبّأَنّ".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا شَبَابَةُ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ طَلْحَةَ. ح وَحَدّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ. حَدّثَنَا حَبّانُ. حَدّثَنَا وُهَيْبٌ. كِلاَهُمَا عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ، بِهَذَا الاْسْنَادِ.
فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ: مَنْ أَبْرّ؟ وَفِي حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ طَلْحَةَ: أَيّ النّاسِ أَحَقّ مِنّي بِحُسْنِ الصّحْبَةِ؟ ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا يَحْيَىَ (يعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطّانَ) عَنْ سُفْيَانَ وَ شُعْبَةَ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَبِيبٌ عَنْ أَبِي الْعَبّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ: "أَحَيّ وَالِدَاكَ؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبٍ. سَمِعْتُ أَبَا الْعَبّاسِ. سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَذكَرَ بِمِثْلِهِ.
قَالَ مُسْلِمٌ: أَبُو الْعَبّاس اسْمُهُ السّائِبُ بْنُ فَرّوخَ الْمَكّيّ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. أَخْبَرَنَا ابنُ بِشْرٍ عَنْ مِسْعَرٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي إِسْحَقَ. ح وَحَدّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ. حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِي الْجُعْفِيّ عَنْ زائِدَةَ، كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، جَمِيعاً عَنْ حَبِيبٍ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنّ نَاعِماً، مَوْلَى أُمّ سَلَمَةَ حَدّثَهُ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَىَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَىَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللّهِ. قَالَ "فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيّ؟" قَالَ: نَعَمْ. بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ "فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللّهِ؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ "فَارْجِعْ إِلَىَ وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا".
قوله: (من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك إلى آخره) الصحابة هنا بفتح الصاد بمعنى الصحبة، وفيه الحث على بر الأقارب وأن الأم أحقهم بذلك ثم بعدها الأب ثم الأقرب فالأقرب. قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك. ونقل الحارث المحاسبي إجماع العلماء على أن الأم تفضل في البر على الأب. وحكى القاضي عياض خلافاً في ذلك فقال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون برهما سواء، قال: ونسب بعضهم هذا إلى مالك والصواب الأول لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور والله أعلم. قال القاضي: وأجمعوا على أن الأم والأب آكد حرمة في البر ممن سواهما، قال: وتردد بعضهم بين الأجداد والأخوة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم أدناك أدناك" قال أصحابنا: يستحب أن تقدم في البر الأم ثم الأب ثم الأولاد ثم الأجداد والجدات ثم الأخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام كالأعمام والعمات والأخوال والخالات، ويقدم الأقرب فالأقرب، ويقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بأحدهما، ثم بذي الرحم غير المحرم كابن العم وبنته وأولاد الأخوال والخالات وغيرهم ثم بالمصاهرة ثم بالمولى من أعلى وأسفل ثم الجار، ويقدم القريب البعيد الدار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخر قدم على الجار الأجنبي وألحقوا الزوج والزوجة بالمحارم والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم وأبيك لتنبأن" قد سبق الجواب مرات عن مثل هذا وأنه لا تراد به حقيقة القسم بل هي كلمة تجري على اللسان دعامة للكلام وقيل غير ذلك.
قوله: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: أحي والدك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) وفي رواية: (أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) هذا كله دليل لعظم فضيلة برهما وأنه آكد من الجهاد. وفيه حجة لما قاله العلماء أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه، وشرطه الثوري، هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال وإلا فحينئذ يجوز بغير إذن. وأجمع العلماء على الأمر ببر الوالدين وأن عقوقهما حرام من الكبائر، وسبق بيانه مبسوطاً في كتاب الإيمان
*2* باب تقديم برّ الوالدين على التطوع بالصلاة، وغيرها
*حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. حَدّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ: كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبّدُ فِي صَوْمَعَةٍ. فَجَاءَتْ أُمّهُ.
قَالَ حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُمّهُ حِينَ دَعَتْهُ. كَيْفَ جَعَلَتْ كَفّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا. ثُمّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ. فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمّكَ. كَلّمْنِي. فَصَادَفَتْهُ يُصَلّي. فَقَالَ: اللّهُمّ. أُمّي وَصَلاَتِي. فَاخْتَارَ صَلاَتَهُ. فَرَجَعَتْ ثُمّ عَادَتْ فِي الثّانِيَةِ. فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمّكَ. فَكَلّمْنِي. قَالَ: اللّهُمّ أُمّي وَصَلاَتِي. فَاخْتَارَ صَلاَتَهُ. فَقَالَتِ: اللّهُمّ إِنّ هَذَا جُرَيْجٌ. وَهُوَ ابْنِي. وَإِنّي كَلّمْتُهُ فَأَبَىَ أَنْ يُكَلّمَنِي. اللّهُمّ فَلاَ تُمِتْهُ حَتّىَ تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ.
قَالَ: وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ.
قَالَ: وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَىَ دَيْرِهِ. قَالَ: فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرّاعِي. فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلاَماً. فَقِيلَ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدّيْرِ. قَالَ فَجَاؤوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ. فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلّي. فَلَمْ يُكَلّمْهُمْ. قَالَ: فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ. فَلَمّا رَأَىَ ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُ: سَلْ هَذِهِ. قَالَ: فَتَبَسّمَ ثُمّ مَسَحَ رَأْسَ الصّبِيّ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَبِي رَاعِي الضّأْنِ. فَلَمّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالَوا: نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذّهَبِ وَالْفِضّةِ. قَالَ: لاَ. وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَاباً كَمَا كَانَ. ثُمّ عَلاَهُ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا يَزِيَدُ بْنُ هَرُونَ. أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمْ يَتَكَلّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاّ ثَلاَثَةٌ: عِيسَىَ ابْنُ مَرْيَمَ. وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ. وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِداً. فَاتّخَذَ صَوْمَعَةً. فَكَانَ فِيهَا. فَأَتَتْهُ أُمّهُ وَهُوَ يُصَلّي. فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبّ أُمّي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَىَ صَلاَتِهِ. فَانْصَرَفَتْ. فَلَمّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلّي. فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبّ أُمّي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَىَ صَلاَتِهِ. فَانْصَرَفَتْ. فَلَمّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلّي. فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: أَيْ رَبّ أُمّي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَىَ صَلاَتِهِ فقَالَتْ: اللّهُمّ لاَ تُمِتْهُ حَتّىَ يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهُ المُومِسَاتِ. فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجاً وَعِبَادَتَهُ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيّ يُتَمَثّلُ بِحُسْنِهَا. فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنّهُ لَكُمْ. قَالَ: فَتَعَرّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْها. فَأَتَتْ رَاعِياً كَانَ يَأْوِي إِلَىَ صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا. فَوَقَعَ عَلَيْهَا. فَحَمَلَتْ. فَلَمّا وَلَدَتْ. قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ. فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيّ. فَوَلَدَتْ مِنْكَ. فَقَالَ: أَيْنَ الصّبِيّ؟ فَجَاؤوا بِهِ فَقَالَ: دَعُونِي حَتّىَ أُصَلّيَ. فَصَلّىَ. فَلَمّا انْصَرَفَ أَتَىَ الصّبِيّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ. وَقَالَ: يَا غُلاَمُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلاَنٌ الرّاعِي. قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَىَ جُرَيْجٍ يُقَبّلُونَهُ وَيَتَمَسّحُونَ بِهِ. وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: لاَ. أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ. فَفَعَلُوا.
فيه قصة جُريج رضي الله عنه وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها. قال العلماء: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها لأنه كان في صلاة نفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته فلعله خشي أنها تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه. قولها: (فلا تمته حتى تريه المومسات) هي بضم الميم الأولى وكسر الثانية أي الزواني البغايا المتجاهرات بذلك والواحدة مومسة وتجمع على مياميس أيضاً. قوله صلى الله عليه وسلم: "وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره" الدير كنيسة منقطعة عن العمارة تنقطع فيها رهبان النصارى لتعبدهم، وهو بمعنى الصومعة المذكورة في الرواية الأخرى وهي نحو المنارة ينقطعون فيها عن الوصول إليهم والدخول عليهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فجاؤوا بفؤوسهم" هو مهموز ممدود جمع فأس بالهمزة وهي هذه المعروفة كرأس ورؤوس، والمساحي جمع مسحاة وهي كالمجرفة إلا أنها من حديث ذكره الجوهري. قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة" فذكرهم وليس فيهم الصبي الذي كان مع المرأة في حديث الساحر والراهب، وقصة أصحاب الأخدود المذكور في آخر صحيح مسلم وجوابه أن ذلك الصبي لم يكن في المهد بل كان أكبر من صاحب المهد وإن كان صغيراً. قوله: (بغي يتمثل بحسنها) أي يضرب به المثل لإنفرادها به. قوله: (يا غلام من أبوك قال فلان الراعي) قد يقال إن الزاني لا يلحقه الولد، وجوابه من وجهين: أحدهما لعله كان في شرعهم يلحقه. والثاني المراد من ماء من أنت وسماه أباً مجازاً. قوله صلى الله عليه وسلم: "مر رجل على دابة فارهة وشارة حسنة" الفارهة بالفاء النشيطة الحادة القوية وقد فرهت بضم الراء فراهة وفراهية، والشارة الهيئة واللباس. قوله: "فجعل يمصها" بفتح الميم على اللغة المشهورة وحكي ضمها. قوله صلى الله عليه وسلم: "فهناك تراجعا الحديث فقالت حلقي" معنى تراجعا الحديث أقبلت على الرضيع تحدثه وكانت أولاً لا تراه أهلاً للكلام فلما تكرر منه الكلام علمت أنه أهل له فسألته وراجعته، وسبق بيان حلقي في كتاب الحج. قوله في الجارية التي نسبوها إلى السرقة ولم تسرق: (اللهم اجعلني مثلها) أي اللهم اجعلني سالماً من المعاصي كما هي سالمة، وليس المراد مثلها في النسبة إلى باطل تكون منه برياً. وفي حديث جريج هذا فوائد كثيرة: منها عظم بر الوالدين وتأكد حق الأم وأن دعاءها مجاب وأنه إذا تعارضت الأمور بدئ بأهمها وأن الله تعالى يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم بالشدائد غالباً، قال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) وقد يجري عليهم الشدائد بعض الأوقات زيادة في أحوالهم وتهذيباً لهم فيكون لطفاً. ومنها استحباب الوضوء للصلاة عند الدعاء بالمهمات. ومنها أن الوضوء كان معروفاً في شرع من قبلنا فقد ثبت في هذا الحديث في كتاب البخاري فتوضأ وصلى. وقد حكى القاضي عن بعضهم أنه زعم اختصاصه بهذه الأمة. ومنها إثبات كرامات الأولياء وهو مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وفيه أن كرامات الأولياء قد تقع باختيارهم وطلبهم وهذا هو الصحيح عند أصحابنا المتكلمين، ومنهم من قال لا تقع باختيارهم وطلبهم. وفيه أن الكرامات قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه وهذا غلط من قائله وإنكار للحس بل الصواب جريانها بقلب الأعيان وإحضار الشيء من العدم ونحوه
*2* باب رغم من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر، فلم يدخل الجنة
*حدّثنا شيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "رَغِمَ أَنْفُ، ثُمّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمّ رَغِمَ أَنْفُ" قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ "مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنّةَ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمّ رَغِمَ أَنْفُهُ. ثُمّ رَغِمَ أَنْفُهُ" قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنّةَ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا خالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ. حَدّثَنِي سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "رَغِمَ أَنْفُهُ" ثَلاَثاً. ثُمّ ذَكَرَ مِثْلَهُ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة" قال أهل اللغة: معناه ذل، وقيل كره وخزي وهو بفتح الغين وكسرها وهو الرغم بضم الراء وفتحها وكسرها وأصله لصق أنفه بالرغام وهو تراب مختلط برمل، وقيل الرغم كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه، وفيه الحث على بر الوالدين وعظم ثوابه ومعناه أن برهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة أو النفقة أو غير ذلك سبب لدخول الجنة فمن قصر في ذلك فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه
*2* باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيّوبَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكّةَ. فَسَلّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ. وَحَمَلَهُ عَلَىَ حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ. وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَىَ رَأْسِهِ. فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللّهُ إِنّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ: إِنّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ. وَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ أَبَرّ الْبِرّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدّ أَبِيهِ".
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَال: "أَبَرّ الْبِرّ أَنْ يَصِلَ الرّجُلُ وِدّ أَبِيهِ".
حدّثنا حَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا أَبِي وَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. جَمِيعاً عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَىَ مَكّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوّحُ عَلَيْهِ، إِذَا مَلّ رُكُوبَ الرّاحِلَةِ. وَعِمَامَةٌ يَشُدّ بِهَا رَأْسَهُ. فَبَيْنَا هُوَ يَوْماً عَلَىَ ذَلِكَ الْحِمَارِ. إِذْ مَرّ بِهِ أَعْرَابِيّ. فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ؟ قَالَ: بَلَىَ. فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا. وَالْعِمَامَةَ، قَالَ: اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: غَفَرَ اللّهُ لَكَأَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِيّ حِمَاراً كُنْتَ تَرَوّحُ عَلَيْهِ، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدّ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ: إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ مِنْ أَبَرّ الْبِرّ صِلَةَ الْرّجُلِ أَهْلَ وُدّ أَبِيهِ، بَعْدَ أَنْ يُوَلّيَ" وَإِنّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقاً لِعُمَرَ.
قوله: (إن أبا هذا كان وداً لعمر) قال القاضي: رويناه بضم الواو وكسرها أي صديقاً من أهل مودته وهي محبته. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه" وفي رواية: "إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن تولى" الود هنا مضموم الواو، وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه بسببه، وتلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشايخ والزوج والزوجة، وقد سبقت الأحاديث في إكرامه صلى الله عليه وسلم خلائل خديجة رضي الله عنها. قوله: (كان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة) معناه كان يستصحب حماراً ليستريح عليه إذا ضجر من ركوب البعير والله أعلم