تساقطت الثلوج فغطت القمم والسفوح ولا تغيب إلا أياما حتى تعود عودة المشتاق إلى أهله .أما الأمطار كأنـــي بها قد أنبئت بقدوم صيف حار فكانت نذرف الدموع سخاء إشفاقا على سكان الأرض أبنائها من ألسنـــــــة نار هذا القادم الفظ الغليظ القلب الذي يعتصر جلودهم فتتصبب عرقا ويلهبها فتتغير ألوانها. ويحبسها في بيوتـــها وأوكارها و جحورها فيحال نهارها ليلا للسكون .وليلها نهار للمعاش وهكذا تنقلب ساعة الزمن . وأعراف الناس...
يسلط على الرؤوس ألسنة سيوف شمسية ويا ويل من لم يجعل على الرأس واقيا. بكت هذه السماء بكاء لم نر له منذ زمن بعيد مثيلا حتى ضاقت الأوديــــــة بما رحبت وامتلأت الآبار ففاضت وشربت الأرض البور حتى لفظت ما زاد عن حاجتها .وخرج الفلاحون مهللين مكبرين يستبشرون بعام فيه يغاث الناس وفيه يعصــــرون .بعد السنين العجاف التي بات فيها الفلاح يخشى من هجرة أبنائه للأرض كما هجرتهم . تسابق الفلاحون إلى الحرث والأرض في زهو وأريحية وفتحت المحاكم قضايا كثر جديدة .لا شك أن المحامين هم أيضا يستبشــــــرون خيرا بنزول الأمطار. ارتفع ثمن البذور .ليس للفلاح الصغير من حمايــــــــــة الكل يحاول ابتزازه . أكل ما بقي له بين يديه . وهو من أجل خدمة الأرض وفلح الأرض لا يبالي ." ربي يعوض علينا والخيــــــر يجي " هكذا كان يكتم غيظـــه ويشجع نفســــه ويتحدى هذه المتاعب البشرية كما تحدى الجفاف والتصق بالأرض ويقول لمن يحاول أن يشككه في عقيدته هذه : " الفلاحـــــة إذا ما نفعت شفعت " بعفوية الجزائري الذي لا يتكلف.
أعد العدة فالصيف على الأبواب . لم تعد عدة هذه الأيام كما التي كان قديــــــما .لم يبق وجود للمنجل لقـد أغلق الحداد دكانه ليس له اليوم زبائن مثل ما كان لوالده . لقد حلت الحاصـــــــدة محل المكارين والخماسين . والجديد هذا العام أن الصحراء صارت مائدة كبيرة تميد بأنواع الحبوب من قمح لين وصلب وشعير ....
لم يكن في حسابات الفلاحين أن الرخاء يفرز متاعب وأي متاعب....... تسارع الفلاحـــون الكبار إلى مالكي الحاصدات شهرا أو بعض شهر قبل موعد الحصاد .وجاءوا بالحاصدات وأوقفوها بجانب منازلهم وبدأ أصحابها يهيئونــــها للعمل الشاق المضني من غسل وتشحيم وتغيير الزيت ومراقبة قطع المحرك وغيرها من الأشياء . فهم داخلون على معركة كبيرة .العدو فيها الريح القويــــــة ولهيب الشمس التي تحطم سيقان السنابل الممتلئــــــة وتترك الريح تفعل فعلتها في تسليط سيفه على ما أثقلته الحبات من السيقان فما هي إلا جولة أو جولتان حتى تسقط السنبلة الممتلئة .مستسلمة لجبروت هذا العدو الشرس تسقط بعد مقاومــــة باسلــــــــة ويسقط معها أمــل الفــلاح وجهد الفــلاح ومال الفـــلاح . الفلاح الصغير.
آه . يا للهول لم تستعد الحكومة كما كانت تفعل كل عام أو قل لم تكن التقديــــــرات مضبوطـــة ـ ربما ـ فالعام كان ولا أوفر . بدأ الفلاحون يتوسلـــــــون لا إلى مالك الحاصـــدة بل إلى الوسطاء الذين احتكــروا السوق وبدءوا يبتزونــــهم فيأخذون الرشوة أو قل أنها إكرامية من أجل أن يسجل في قائمة الطابور الطويل وموقع الفـلاح فيه حسب المبلغ الذي دفعــــــــه للوسيط ............فقيمة المرء ما يدفعه . وليت الأمر يقـف عند هذا الحد بل يساوم الفلاح على ما يبقى مما خلفت من تبن بعد الحصاد ليترك أرضه للوسيط ترعى فيها غنمه دون ثمن يدفع. فيتوسع مرتعه على حساب الفقـــراء من الناس.
لم لا يكون لمالك الحاصدة رأي فيما يحصل باسمه ؟ أهو شريك في كل ذلك . في المواعيد الكاذبة والأيمان الغليظــــــة الغموس . إنها عبقرية الشياطين . بمجرد ما تبدأ العملية يتقمص الوسيـــــط ثوب العادل بين سكان القرية .فيعطي لكل من رضي عنهم ساعتين أو ثلاث ساعات حتى إذا ورط صاحب الحاصدة وأوقعه في المصيـدة يكون هذا الأخير قد فقد السيطرة على الوضع .فكلما أراد أن يفي بوعد قطعه على نفسه لخدمة فلاحة أحد البسطاء ممن ساء حظــــــــــه أو لم يطاوعه جيبه .قال له الوسيط بكل استرخاء و خبث : أنت حر يا أخي .ولكن ليس لك عندي أي شيء. ولست ضامــــنا لك حقك عند من جرحت لهم حقولهم .فان أردت أخذ مستحقاتك فلا بد أن تكمل القائمة التي وضعتها لك. وهكــــذا كلما طالت الأيام كلما تمتنت القيود واستحكمت حلقاتــــــها . ولم يعد صاحب الحاصـــدة يملك قرارا . لقد أفقدته الوساطــــة
السيطرة على آلته بل على نفسه حتى ..هكذا ولا تصل الحاصدة إلى أرض الفلاح البسيط حتى يكون الشمس والريح قد
حلت محلها وكفت الفلاح المؤمن بقضاء الله وقدره شــــــــر القتال . فيذرف الدمعة في صمت وكأني به يتساءل : متى أفرح ؟ أعند نزول المطر أم في وقت الجفاف .ليت الزمن بقي كما كان .وليت المنجل لا يزال يساند الفلاح بأضراســــه على صغرها .وليتنا لم نعش هذه الحضارة التي ما زادت الفلاح إلا خسارة . وهكذا ظهر للفلاح أعداء جدد ولا بد عليه أن يطور أسلحته فلم تعد أسلحته القديمة تنفعه في وسط دهست فيه القيم تحت وقع عجلات الحاصــــــدات .ومراوغات الوساطات . فهل يخبئ الدهر للفلاح بعد صبره مخرجا ............. ومن يدري " كل تكليحة للرجال مليحة " كما يقول الجزائريون
22/07/2009
التوقيع: فلاح مبتدئ