لون الروح - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > قسم الإبداع > قسم القصة ، الرّواية والمقامات الأدبية

قسم القصة ، الرّواية والمقامات الأدبية قسمٌ مُخصّصٌ لإبداعات الأعضاء في كتابة القصص والرّوايات والمقامات الأدبية.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

لون الروح

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2014-03-22, 18:05   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
غانم عتبة
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي لون الروح

ها هو جبل تيمزقيدا يحترق ، تحصد النار غابته الجميلة ذات الخضرة الداكنة الضاربة إلى السواد ، غابة طالما متعت بصري بمنظرها من شرفتي ،و منحتني الشعور بالحياة بغيمها و ثلجها شتاء ، و بنسيمها و ظلها صيفا.

البارحة باتت النار تلتهم جنباتها و أركانها محولة ليلنا إلى جحيم ...
أحدق فيها الآن من شرفتي و في الحلق غصة ، كأن شطرا من عمري يحترق معها .

أمد البصر في حسرة إلى قمة تيمزقيدة ، يلوح لي في الأفق الأبعد من الجهة الأخرى في شعاب الذاكرة السحيقة ذلكم الليل البارد الحالك المشبع بالصقيع ، المفعم بالنعاس الشهي حين اقتلعنا من أسرتنا الدافئة بالمرقد إلى ساحة العلم تلسع وجوهنا ريح يناير، و أوامر القائد تتوالى كرعد السماء تتناغم معها الأحذية الخشنة تدق الأرض في موهن الليل بضربة موحدة تقطع غفوة العصافير في أشجار السرو ، و تزعج هجعة الموتى في الجبانة الكبرى التي بجوارنا ...

انطلقت بنا الشاحنات تكسر صمت الطريق ، تتمزق تحت عجلاتها رغبتنا البائسة في ساعة إضافية من النوم إذ تكور الرفاق على بعضهم و انكمشوا و تتداخلوا متراصين يقاومون البرد المتسرب من الفجوات و الثقوب ...

لم يكن أحد منا يعلم إلى أين نتجه ؟ و في أية مهمة نحن خارجون ؟ علم ذلك كان عند قائد الكتيبة وحده . كنا بين الحين و الآخر نرفع الغطاء و نمد البصر لنتبين أين نحن فيرتد إلينا البصر حسيرا ، لا شيء إلا ظلام دامس ونقاط من الضوء تلوح بعيدا لمداشر و قرى تسبح في بحر من السكون و النوم .

فجأة تكسر الإيقاع الرتيب الذي أدخلنا في منطقة رمادية بين الغفوة و الصحو و بدأت محركات الشاحنات تجأر مزمجرة ، و أخذ الطريق يتعرج و يتلولب ويكبنا على بعضنا فبدا لنا واضحا أننا نصعد في اتجاه قمة ما ...؟
- إلى أين الصعود يا رفاق ؟

- إلى الجلجلة
أجاب صديقي الشاعر، المقداد ،الذي كثيرا ما كان يطربنا بقصائد مترعة بالحنين و الأشواق ،ويسقينا كؤوسا من الحلم و الخيال الناعم تنسينا خشونة الثكنة .

غمغمت :

-الجلجلة ؟

كنت ألف الشاش على عنقي و فمي حتى أحتفظ ببخاري أدفئ به وجهي مسندا رأسي إلى رأسه و كتفي إلى كتفه .

-الجلجلة ، و ما أدراك ما الجلجلة ؟

وراح يفسر لي الجلجلة و ما فيها من رمزية عميقة للمعاناة و التضحية المستوحاة من صلب شبيه سيدنا المسيح عليه السلام ، و كيف يوظفها الشعراء في قصائدهم للتدليل على منتهى الآلام و العذاب ، ثم حرر كتفه من كتفي وراح يستشهد متحمسا بشعر محمود درويش مقلدا أداءه الرائع :

" عبثا تحاول يا أبي ملكا و مملكه
فسر للجلجة
واصعد معي
لنعيد للروح المشرد أوله "

وكأن الشاحنة تطيع أمره فتزأر مزمجرة في انعطاف حاد صاعدة عقبة كؤودا يكاد محركها يتصدع لها ، ثم تتوقف في بطحاء واسعة لا شيء فيها غير بياض الثلج الذي راح يومض مع انبلاج الصبح و انبعاث نسمات باردة تلسع وجوهنا بالصقيع و القر.

نزلنا من الشاحنات نتجمع في شكل مربع ناقض ضلع وكلنا ترقب متدمر لمعرفة المهمة التي خرجنا من أجلها في هذا الطقس الجهم ... ؟
ترجل القائد من سيارة لاندروفر و تقدم نحونا يفور فمه و منخراه بالبخار، و ألقى كلمته فينا :

"هذه الأرض الجرداء التي تقفون عليها كانت ذات يوم غابة كثيفة أبادتها فرنسا الاستعمارية بالنابالم في انتهاجها سياسة الأرض المحروقة ... مهمتكم اليوم أن تعيدوا لها الحياة ...سنشجرها ، سنعيد لها لونها االمستلب ... المجد و الخلود للشهداء الأبرار"

أومضت إشراقة رائعة في عيني صديقي الشاعر ، و أومأ لي مبتسما:

-نعيد للروح المشرد أوله .

فكرة تشجير الغابة المحروقة و تمكينها من استعادة لونها الأخضر السليب راقتني كثيرا و مدتني بروح عالية لمقاومة البرد ، و بطاقة هائلة لإنجاز المهمة.

لم يكن ذلك شعوري وحدي ، بل شعور عم جميع الرفاق الذين ما أن علموا بالمهمة حتى زايلهم سخطهم ، و دب فيهم الحماس و الاستحسان لبعث الحياة في الغابة التي أحرقها عدو الأمس .

وزعوا علينا الفؤوس و الرفوش مثنى مثنى ، و أخذ كل قائد فصيلة جنوده و حصته من الفسائل وانتشرنا كالنمل في الجبل بين شعابه و فجاجه .

كانت جهتنا وهدة مستطيلة تشرف على شعبة سحيقة .
كنت أحفر، و صديقي الشاعر يزيح التراب بالرفش وهو ما يفتأ يطلب مني أن أحفر أكثر عمقا حتى تضرب الشجرة بجذورها في التربة.

كان يردد في حماس :

هيا ، احفر
احفر عميقا
احفر أكثر حتى أحس بانتمائي المتجذر إلى هذه الأرض .

كلما سوينا حفرة و غرسنا فيها شجيرة اعترانا ذلك الشعور الممتع بأننا نصنع الحياة في أجمل رموزها .

رفع إلي وجها طافحا بالرضا متصببا بالعرق إذ سرت حرارة العمل في أجسادنا فانتفت برودة الثلج :

أتدري ، يا صديقي ، أحسنا اليوم ننجز عملا عظيما، جميلا في رمزيته ...أن تركنا البندقية والرصاص و حملنا الفأس و الرفش لنصنع الحياة ... ليت كل الجيوش تلقي سلاحها و تفعل فعلنا ...

كانت تعجبني قدرته على اقتناص العلائق الداخلية بين الأشياء و إظهار المعنى الخفي و الحميمي فيها ...فاحترمت فيه كفاءته الشعرية و أقررت له بالشاعرية...

قال لي مازحا وقد بان له تعبي :

- هيا يا صديقي لئن تغرس شجرة خير من أن تكتب قصة .

ولما أضفت :

- أو خير من أن تنظم قصيدة .

اعترض صائحا :

- لا ، القصيدة أخت الشجرة .

وحين أشرفت عملية التشجير على نهايتها انتقى فسيلتين ومد لي إحداهما :

- هيا ليغرس كل منا شجرة باسم من يحب .

و انتحينا عند آخر الوهدة ، بفرح طفولي غرسناهما ، و بكل ما اعتمل فينا من حب سوينا ترابهما .

"حياة "و"آمال"

خطيبته و خطيبتي .

شجيرتان متجاورتان كالتوأم خضراوان يانعتان ترفان بماء الحياة .

هز رأسه في ثقة :

- ستنموان ، ستكبران .

و حين أقفلنا راجعين إلى معسكرنا تركنا الجبل يزدهي بآلاف الشجيرات الواعدة بالغيم و المطر .

******************************

عادت عيني كليلة من شعاب الروح إلى ألسنة اللهب تتطاول كما يقذف البركان حممه ، تلتهم واجهة الجبل في شراهة و نهم مخلفة وراءها مساحات شاسعة من السواد ومثلها من الحزن في نفسي ، كنت أحسني أحترق هناك بين ورقها و أغصانها .

كانت أعمدة الدخان تتجمع في السماء تسد الآفاق وتخنق أنفاس الشيوخ و الأطفال و المرضى بالربو ، تمطر رمادا فوق السطوح و زجاج السيارات و حبل الغسيل .

-لماذا لا يتدخلون لإطفائها ؟

سألت ابنتي التي كانت ترتفق النافذة إلى جواري .

-يقولون إن جماعة كبيرة من الإرهابيين تتحصن هناك ، وقوات الأمن الآن يحاصرونهم و يحرقون الغابة عليهم ...

لم نعد نحتمل ضغط الدخان الخانق فأغلقت النافذة و صورة صديقي الشاعر المقداد تتخايل في ناظري غائمة متذبذبة بعيدا وراء مسافات الزمن ،و كأني أسمعه يتساءل معي :

-أما آن للروح المشرد أن يعرف مساره ؟

البليدة 1مغرس 20
13.









 


رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الروح


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 14:33

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc