كانت تبدو لي الرحلة ممتعة جدا ،فقد نزعت عني تلك المناظر قدرا من ضيق النفس و كثرة التفكير ..
كنت أضع رسما لصورتك في كل مكان كنت أراه خلابا ، و شيئا فشيئا بدأت خيوط الملل تمتد و تتسلل الى حيثيات رحلتي كيف لا و أنت تنقصينها كل النقص ... و فجأة أضحى كل شيء بلا طعم ... كنت أأكل و لا أتذوق شيئا فقد انتابني ألم التفكيرمن جديد ، كان هذا التفكير غريبا يشعرني بفقدان الأمل و لا يعطيني جوا للتمتع بما أنا فيه لما انتابني الخوف الذي جعلني أشعر بالتشاؤم .
بدأت أشم رائحة الهزيمة و رحت أنتظر فقط تناول طبقها.
و ها هنا الآن أنا أمشي و لا أحس بشيء يُشعرني أني أمشي ، أحاول فقط أن أُدرك أني أمشي و أُغني و أُمرر على ذكرياتي ذكريات ليس لها ذكريات ، فحتى الذكريات الجميلة معك صارت كوابيس تضايقني و أحلام تلازم يقظتي ، كأحلام لم يك لها أساس من الصحة.
أي حال أنا فيه ؟
أرجو أن تعذريني على كل كلمة أكتبها - أجل- لأني أعلم أني أكتب كلاما مملا و محبطا ، هذا ان كان غير مهم لك أصلا ؛ لكن وجب أن تعلمي كل شيء عن ما يجري بحياتي بعدك و أريد أن تكون هاته المكاتيب مرجعا عني... أريد أن أمزج لك نظرية الحب بواقع عشقي ، أريد أن أكون فرضيتك الكبرى و البحتة لأن الفرضية أصلا هي تحدي لأكبر المشاكل و حل لأكبر الألغاز غموضا ، أتعلمين أن كل شيء خُلق لزوجه الثاني و كل شيئين بالكون تتابعا ليُكملا بعضهما و أنا خُلقت لك ، فأرجوك بعنف أن تُسلّمي لهذا ولنتحدى القدر.
كيف سأصف لك الحال و المكان الذي أجلس به !! لا أدري.. حائر.. دوما حائر، وحائر مثلما رأيت في المدينة وضائع كالقوافل المسكينة ، هي أيامي في زحمة الحياة لا أبعاد سوى نحيب القلب في السهاد و قلم يصُّرُ فوق كومة الورق الملونة بالدخان ، و العرق يُغرقني كما أغرق المستنقع الضجر؛ ... مسكين أنا ... أقتات من عظام الجُدر .
حياتي ... يا ذُلة الحياة ، بالرصيف على جبين الشيخ يرعش اليدا ، عروقي تستصرخ الرغيف و الشارع المنهمك المنهوك نهر يبلع الصدى... نأيت أنا و رحت أساور حلما بريح.
حبيبتي ما كنت عاشق الخيال لكن مدينة العذاب و الهجير و الناس يركضون مثل عالم أسطوري تصوُري لم تنشر للعاشق الجناح فتراه يطفو فوق الركام جريح ، و ما ضمدت عيناك قلبه المجتاح ليحط طائر الأحزان بالصدور ... فكيف له يا حبيبتي أن يستقبل الصباح ؛ و هاهنا لازلت ألوك أغنية الحنين و أذرف الصمت الطويل فصدقيني لن نحترق بوطأة الذنوب فنحن عاشقين قد أتينا لطالما لون العذاب لقانا هاربان من مدينة الدمار و وجهها الأصم كالجدار...
و الشمس قد غطست هناك و مشى الظلام على الحقول يضم أكواخا كئيبة من تحت أذرعه الرهيبة ، لا شيء يا حميمة لا عرس هناك و لا مصيبة ، ستنام قريتنا ستنام بعد العشاء و حين تزدرد الطعام .. حتى الطيور تنام في وكناتها حتى الحمام ، حتى الدخان يموت بحلق الزمان و الليل قد نصب الخيام و أنا و خطاي و الشام مثل الحطام ، نعود في جوف المساء بلا كلام لتظل تحلم قريتي مثل العجوز كامل ليلتها بالغرام، و أنا و ظلي و الشام القافلون على الظلام يزفنا النجم البعيد من فوق أعناق الجريد حيث يموت الكلام .
فلم كل شيء ملون بالدماء ؟ ولم كل شيء مُلون !! و الروح بالجسد أكبر ملون ...
ما أروع أن أشقى معك و أُحزن كل شيء معي بحزني و نبضي دفء أيامي و عذاباتي... عذابات قلبي الفسيح في صلاة و دعاء و ضريح ، صيحة من وهران الفسيح من ثائر مليح الوجه تسخو عيناه صفوا و حبا باسمك الغالي يا وطني .
دخلت غرفتي بالفندق المنزوي و أجنحة الصمت المنهارة رفرفت سوداء على الدار طائرة عبر الأسوار ، فخر العود الفارغ و انزلق الدم على الشارع و هز هتافات و رايات كانت تحملها أيدي الثوار ، المذياع يزف النبأ ... معذرة قد طالت غربتي و ربيع الحزن يصب عليها الصدأ ، لم تستبن النبأ و وطني ما كان سوى طلقة نار ؛ فاح من دمي كل عذابي نبض شبابي المذبوح ، فاحت يا روحي من همساتك غضبة مكتوبي الجبار و الظلمة عاشرت البيت ، انطفأ المصباح فما جدوى الزيت لقد رضي الأحباب جرحك يا وطني و ما أشقاك الأن يا كلمات ويا جثث و يا موت فلم تنفجرو الا في سجن الصمت لما كنتم تتكلمون ولم تسمعكم سوى الأصداء...
- أنا عائد من بلاد الغرب و بين ضلوعي شوق ما احتواه مكان ، ذري الرمل و الماء و الأمسيات و أعين أهلي و منزل حبيبي الحبيب .
-أنا عائد من بلاد الهبوب وهل تعرفين الهبوب أيا أخت روحي .. لقد دامت فوق صدر السفوح و امتلأت أعيننا برمال الشطآن فسالت من الشوق كل جروحي لما أحذني الحنين لوطني و ريحه. و قد ذكرت الريح فصبي على ذكرياتي المطر و لا تتركيني وحيد الجناح ؛ تدوم بين دمائي الشجون تُسمعني لهف القلوب و صرخات شعبي تنادي و تقلم كل الغصون كما يتعرى الشجر أمام التغيير بأرض بلادي .