يجدر بنا في البداية أن نشير إلى أن علاقة الأمازيغ بالشرق قديمة تعود إلى عهود ما قبل الإسلام، وما من شك أن امتداد الأرض وغياب الحواجز الطبيعية بين الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد ساعد على التواصل الحضاري بين المنطقتين. ولئن كانت الهوية الأمازيغية قائمة بذاتها لها لغتها وثقافتها وحضارتها وعاداتها كغيرها من الأمم نعتز بها ، فإن ذلك لا ينفي وجود قواسم مشتركة بينها وبين حضارات المشرق عبر التاريخ وفي مجالات عديدة بفضل الروابط التاريخية التي تعود إلى عهد الفراعنة حيث أسس أجدادنا الأسرة الثانية والعشرين التي خلدتها عدة مسلات مازالت قائمة في معبد الكرنك بمصر الشقيقة، وقيل إن الأمازيغ قد وصلوا إلى أورشليم آنذاك.
وتدعمت هذه الروابط بوصول الفينيقيين إلى شمال إفريقيا لأغراض تجارية، ثم كللت هذه العلاقات بوصول الفتح الإسلامي إلى ربوعنا وقد حمل رسالة الرحمة للعالم قاطبة ، وسرعان ما أدرك أجدادنا الأمازيغ أن الإسلام ليس امتدادا للاستعمار الروماني والوندالي والبيزنطي) بل جاء ليحرر الإنسان ولتكريمه بالهداية والاستقامة، وأن التفاضل ليس على أساس الجنس أو العرق أو العصبية بل على أساس التقوى والعمل الصالح وهو المعيار الذي وضع جميع الشعوب والأمم على قدم المساواة، وبذلك أدركوا عدل الإسلام فأقبلوا على اعتناق مبادئه وتعلم العربية حتى صاروا ذخرا له وأقلاما لها وجعلوها بعد تأسيس الدول الأمازيغية لغة العمل والإدارة والتدريس دون إقصاء الأمازيغية التي ظل أهلها يؤلفون بها الكتب المختلفة بعد أن صاروا يكتبونها بالحرف العربي مثلما ذكر المؤرخ الجزائري الكبير مبارك الميلي، وأكده المؤرخون الفرنسيون (هانوتو / هنري باسي/ روني باسي / أوجين دوماس).
ولعل أهم سؤال يتبادر إلى الذهن هو: كيف رُجحت الكفة لصالح اللغة العربية؟ هل تم ذلك بقمع الأمازيغية كما يتصور البعض أم بإقبال أجدادنا على تعلم العربية عن طواعية باعتبارها لغة القرآن والإسلام الذي وصلهم لتوه بأفكاره الإنسانية المحررة لهم؟. إذا عدنا إلى العهود التاريخية القديمة لشمال إفريقيا فإننا نلاحظ غياب الاهتمام بتطوير الكتابة الأمازيغية وعزوف أهلها عن تقعيدها وترقيتها، الأمر الذي جعلها تتدحرج إلى خارج الاهتمامات الفكرية والعلمية. وقد يفسر ذلك بتعرض شمال إفريقيا بصفة متواصلة للاحتلال الأجنبي الأمر الذي حال دون ظهور حواضر يشتغل فيها العلماء لتطوير لغتهم، لذلك فعندما وصل المسلمون الفاتحون وجدوا الأمازيغ يتحدثون لغتهم لكنهم يفضلون اللاتينية في مجال الكتابة والتدوين باعتبارها لغة الغالب ذات التداول الواسع.
وما دام الإسلام قد ملأ قلوب أجدادنا الأمازيغ فمن الطبيعي أن يقبلوا على تعلم اللغة العربية إلى درجة امتلاك ناصيتها ثم القيام بنشرها في أوربا وإفريقيا، بأن صاروا أقلاما لها فأسسوا المدارس في عواصم دولهم كتلمسان وتيارت وبجاية. وبالنظر إلى اتساع الموضوع المعالج من جهة ، وضيق المقام من جهة أخرى، فإنني سأقتصر على منطقة القبائل (الزواوة) كنموذج يبرز لنا جهود علماء المنطقة في نشر العربية. هذا ولا يختلف عاقلان في أهمية دور بجاية الرائد منذ القرن الحادي عشر في نشر العربية وعلومها، أيام عهد الحماديين الذين جعلوا منها منارة علم ومعرفة استضاءت بها شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا أدل على ذلك من استقرار أعلام الفكر بها للتدريس والدراسة ، نذكر منهم عبد الرحمان بن خلدون الذي درس ودرﱠس بها، ومن شيوخه الأجلاء أحمد إدريس الذي انسحب فيما بعد من مدينة بجاية إلى ناحية عزازقة حيث أسس زاوية ما زالت عامرة إلى إلى يومنا هذا، والمهدي ابن تومرت وصنوه عبد المؤمن بن علي (مؤسسا الدولة الموحدية). وهكذا كانت بجاية محطة علمية ضرورية لإكمال التحصيل العلمي، ولا يفوتني في هذه العجالة أن أشير إلى أن العلامة عبد الرحمان الثعالبي قد درس بجاية ، ومن شيوخه الأجلاء علي بن عثمان المنجلاتي.