أجمل الكتب

كريم حمزة · 2015-05-05, 15:50

أجمل الكتب، تلك التي «توقظ الوعي»، وتشحذ مَلَكة النقد، وهي ليست كثيرة.
وأعظم عمل يعمله الفرد في بيته، هو «إنشاء مكتبة»، تحوي ذخائر الكتب، لا تزيد عن مئات في فترة عشر سنين.
وكتاب مثل القرآن غيَّر التاريخ، وكتاب رأس المال لـ «كارل ماركس»، تحوَّل إلى «إنجيل» في يد الشيوعيين، والكتاب الأحمر لـ «ماوتسي دونج» كان وقود الثورة الثقافية في الستينيات، أما الكتاب الأخضر فلم يوزع إلا بقوة المخابرات، والدولار، على قوم لم يقرأوه.
وأقوى الكتب ما ثبت، وبقي مع الوقت، مثل قوة، وقيمة الذهب، واليورانيوم.
والناس تقرأ حتى اليوم حكم كونفوشيوس، والطرق الـ 8 لـ «بوذا»، وكتاب هكذا تكلم زرادشت، لفيلسوف القوة «فردريك نيتشه».
ويحلِّق ابن خلدون في مقدمته عبر القرون بكل جبروت، فـ «يطلُّ من علو»، أما كتابه في التاريخ، فلا يقرأه إلا المتخصصون. ودُمِّر فكر المعتزلة، ولكن أفكار إبراهيم النظام في الطفرة مازالت تستهوي محمد إقبال، فيكتب عنها في تجديد التفكير الديني في محاولةٍ لفهم مغزى الزمن، وحل معضلة «زينون» في الحركة، و«ميكانيكا الكم». ويعتبر «برتراند راسل» أن مائة دماغ في التاريخ، تزيد أو تنقص، كانت خلف أسرار النهضة في أوروبا، ولو أُجهضت، بشكل وآخر، لبقيت أوروبا قروناً أخرى في حقبة محاكم التفتيش، حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
ونحن نظلم التاريخ حين نقول إن أفكاراً بعينها غيَّرت مجرى تدفق الأحداث؛ بل يجب النظر إلى روح العصر، وتفاعل عناصر لا حصر لها في ولادة الأحداث، مثل انفجار الأمراض، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء جيداً، ولذا كان الطب علماً، والسياسة دجلاً.
وجانب كارل ماركس الصواب حينما زعم أن الاقتصاد يتحكم بكل شيء، أو فرويد الذي زعم أن الجنس هو «محرك البشر»، فالتاريخ عصي على كل تفسير.
ويُحسن صنعاً «شارح الفكر الفلسفي» حين يقول للطلبة: يمكن لنا أن نشرح لكم تدفق الأحداث من نهايتها، أما ماذا سيحدث في الغد، فعلم ذلك عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
وحالياً نعرف أن الطيران بدأ في القرن العشرين لتوفر الآلة، وانتشر في أكثر من بلد، والأشياء تبدأ صغيرة لتصبح كالسيل العارم، ولا يتفطن لهذا التطور، كما يقول ابن خلدون، إلا «الآحاد من أهل الخليقة».
مَنْ «ملأ» بيته بكتب السحرة، تحوَّل إلى ساحر. عندما أدخل بيت أحد الناس أعرف أين يعيش؛ فإن كان أعظم ما في البيت هو المطبخ، والأواني، عرفت أنه خارج إحداثيات الزمان، والمكان، يعيش مثل «السنوريات». وقد دخلت بيت طبيب يوماً، فرأيت الرفوف عليها كتب ضخمة «مذهبة العقب»، فسألني عنها حين شاهدني «أشمشم» الكتب قبل أي شيء؟ وهي عادتي عند دخول أي بيت جديد. قلت له عليك ألا تغضب مني، فأنت تعيش عصر «المماليك البرجية» أيام سعيد جقمق، تفاجأ الرجل فقد كان يظن أنه يملك «ذخائر المعرفة»، كما أنه لم يكن قد سمع قبلاً بـ «سعيد جقمق». وكلمة جقمق تعني بالتركية «ولاعة السجائر».
وفي النماص بمنطقة عسير، التقيت بـ «طائفة من مثقفي القوم» فتحدثت عن فكرة ابن خلدون في النشوء والارتقاء، فاكتشفت أن من بين القوم مَنْ لم يسمع بعد بكاتب بمستوى، ومكانة ابن خلدون، وحين تنسى الأمم رجالها من العقول المبدعة حينها «تودع منها».
وقبل أيام كنت أحدث شاباً متديناً عن رياض الترك، الذي سجنه الطاغية 17 عاماً في «الزنزانة الانفرادية»، في الوقت الذي كان واعظ السلطان يقسم للطاغية أن ابنه يطير بجناحين من فضة في الجنة، و«يأوي إلى حواصل طير خضر»، فقال لم أسمع به؟
قلت إنها أرض تجمع قومين، مَن يعيشون بيولوجياً، ومَن يعيشون فكرياً.
وتذكرت الأتراك في ألمانيا، فقد يعمل الشخص في مصانع «تيسين» عشرين عاماً دون أن يسمع عشرين كلمة عن «هايدجر»، و«كارل ياسبرز»، و«هيجل»، و«نيتشه»، و«موزارت»، و«شوبنهارو»، وهم من عمالقة الفكر، والفلسفة، والموسيقى، لأن ألمانيا تعني له عملاً، وعشاءً، وبرامج ترفيهية.
وفي يومٍ، بعد أن أديت صلاة العشاء، التقيت طبيباً اختصاصياً في الجهاز الهضمي، تخرج في جامعات فرنسية، فحدثته عن «توينبي» المؤرخ العملاق، فقال لي: لم أسمع به، قلت له: تلك كارثة فكرية، فأجاب بغضب: بالنسبة لك، وليس لي. قلت له: صدقت، وقد غلبتني. ورددت في قلبي قول الشافعي: ما جادلني جاهل إلا غلبني.
ومن قلب أمريكا أرسل لي طبيب، يدرس «أحدث أبحاث المناعيات»، عن إعجابه بواعظ شعبي، فتعجبت، وعرفت أن العقل المسلم «منشطر» إلى قسمين، نصفه في الماء، ونصفه في الطين، كما جاء في «قرآن مسيلمة» عن الضفدع، فالرجل قال: إن محمداً نزلت عليه سورة النحل، والنمل، والبقرة، والفيل، وأنا نزلت عليَّ سورة الضفدع المسكين، الذي لا يعيره أحد انتباهاً:
يا ضفدع بنت ضفدعين.. نقي ما تنقين .. لا الشارب تمنعين .. ولا الماء تكدرين .. نصفك في الماء .. ونصفك في الطين.

خالص جلبي
المقال الأصلي من هنا