آفة إتباع الهوى
قال شيخ الإسلام " ابن تيمية -رحمه الله-:-
أصل هذا أن تكون محبة الإنسان المعروف وبغضه للمنكر ؛ وإرادته لهذا ؛ وكراهته لهذا : موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين . وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته : فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد قال : { فاتقوا الله ما استطعتم } . فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة ؛ لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان . وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته : فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل كما قد بيناه في غير هذا الموضع : فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ؛ لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله وهذا من نوع الهوى ؛ فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } فإن أصل الهوى محبة النفس ويتبع ذلك بغضها ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لا يلام عليه ؛ فإن ذلك قد لا يملك وإنما يلام على اتباعه ؛ كما قال تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال تعالى : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا . وثلاث مهلكات : شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه } . والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ووجد وإرادة ؛ وغير ذلك فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ؛ بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات . فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ؛ كما قال تعالى : { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقال تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم } الآية ؛ إلى أن قال : { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم } وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } الآية وقال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وقال تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } وقال تعالى في الآية الأخرى : { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } وقال : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } . ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء ؛ كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء وذلك إن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله ؛ ولهذا قال تعالى في موضع : { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } وقال في موضع آخر : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } . فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه . ومقدار حبه وبغضه .
هل هو موافق لأمر الله ورسوله ؟
وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله ؛ بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض . لا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله ؛ فإنه قد قال : { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله . ومجرد الحب والبغض هوى ؛ لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله : ولهذا قال : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد } فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله . وهو السبيل إليه.