مع الشيخ القرضاوي..
كان من حسن حظي أنّي اكتشفت الشيخ القرضاوي مبكرا، لا أدري من أعارني - وأنا بثانوية الحكيم سعدان - كتابه الحلال والحرام، فقرأته ووجدت فيه فقها مختلفا تماما عن الفقه الذي كنت أقرأه من قبل، وجدت تبسيطا وتيسيرا مدهشا لم أكن أعتقد أنّ أحدا من الفقهاء يقول به، بل وجدت جرأة كبيرة قد تثير حفائظ كلّ من ألف المتون القديمة، وجعلها نصوصا مقدّسة لا يمكن المساس بها..
وأعجبتني كثير من فتاويه المستندة إلى الكتاب والسنّة مباشرة دون الالتفات إلى أقوال الفقهاء أو العلماء التي تخالف الحديث الصحيح، ووجدت في ذلك حقيقة الإسلام وروحه الصافي..ومن تلك الفتاوي قوله بعدم وجوب القضاء على من أفطر ناسيا في رمضان، وكنت أعلم أنّّ الفقه المالكي يوجب القضاء على من أفطر ناسيا في رمضان، وأعجبتني فتواه المفصّلة في التصوير وأنّه لا يقصد به مطلق التصوير، بل يقصد به تجسيد كلّ ما يعظم من دون الله.
وأعجبتني فتواه حول الموسيقى التي كنّ نقرأ في باكر شبابنا أنّها حرام كلّها، وعضدتها فتاوى الشيخ الغزالي وكثير من العلماء المعاصرين، لكن ما يزال في نفسي من الموسيقى شيء لحديث البخاري الصحيح الصريح، وما زلت إلى يومنا هذا أتجنّب الاستماع للموسيقى وأتحاشى إلا ما كان منها لازما لا مفرّ منه..
وجاء الكتاب الذي أحدث انقلابا كبيرا في نفسي، وجعل فكري يتناغم مع شخصيتي بطبيعتها المسالمة الميالة إلى التسامح..كان ذلك الكتاب هو " الصحوة الإسلاميّة بين الجحود والتطرّف "، كنت قبل هذا الكتاب أحمل بداخلي بعض الأفكار المتطرّفة إلى حدّ ما، لا أدري كيف علقت بشخصيتي التي لا تتفق مع هذا التشدّد...
من هذه الأفكار نظرتي لنظام الحكم في الجزائر وفي الوطن العربي عامّة على أنّه شرّ كلّه ولا خير يرجى منه، وأنّ كلّ من يعمل في مؤسّسات الدّولة هو ضال ( عميل للنظام !! )، ولا يجب الركون لهؤلاء الظلمة الفاسدين أو التعامل معهم..وما إلى ذلك من تلك الأفكار الشاذة التي كان يحملها بين جوانحهم كثير من أبناء الحركة الإسلاميّة وتطوّرت عند بعضهم وصارت تكفيرا لأنظمة الحكم وأحيانا للشعب نفسه..
اشتريت كتاب الشيخ القرضاوي" الصحوة الإسلاميّة بين الجحود والتطرّف " من مكتبة جديدة فتحت أبوابها قريبا من البريد المركزي ببسكرة، ونظرت في ظاهر الغلاف فرأيت صورة للشيخ القرضاوي في شبابه يرتدي نظرات شمسيّة وتحت الصورة نبذة عن حياته، وما إن عدت إلى البيت حتى شرعت في قراءة الكتاب، وكان من عادتي إذا اشتريت كتابا جديدا أو استعرته من أحد الأصدقاء، أن أفرّغ نفسي لقراءته، وأبعد عنّي كلّ الشواغل والارتباطات الأخرى..طبعا كان ذلك في شبابي الأوّل حيث قلّة الشواغل وحريّة الحركة ..قرأت الكتاب فأدهشني بل أسكرني بأفكاره ، ومن خلاله عرفت كثيرا من الأشياء الجديدة، عرفت أنّ التشدّد والتّزمّت ليس من طبيعة الإسلام، وإنما هو دخيل عليه، ويكفينا في ذلك قول الله تعالى " ما جعل عليكم في الدّين من حرج " وقول الرسول صلى الله عليه وسلّم " يسروا ولا تعسّروا بشروا ولا تنفروا ".
وكنت في تلك الفترة كثير الاستماع لأشرطة الشيخ كشك رحمه الله، وكان فيه شدّة وحدّة..تمزج في نفسي بين الإعجاب بالجرأة وبين استنكار النقد العنيف الذي قد ينفّر أكثر مما يؤلّف قلوب النّاس، لكنّ الشيخ كشك رحمه الله يجسّد أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ولو أدى ذلك إلى سجنه أو قتله..وله فيه نظر واجتهاد يؤجر عليه، لكنّه – والله أعلم – لا يتناسب مع حركة إسلاميّة تريد القيام بمشروع حضاري شامل يقتضي شيئا من الحكمة وبعضا من استعمال المداراة أحيانا، لتأليف القلوب واستدراجها إلى الخير من باب ( إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر فاجعل له شيئا ".
وكان هذا الكتاب أيضا دليلي إلى كتب الشيخ القرضاوي الأخرى، وقدما راسخة وضعتها في مدرسة القرضاوي التي أعتبر نفسي تلميذا فيها، كما دخلت إلى مدرسة الشيخ الغزالي في الفترة نفسها تقريبا..
* * *
عندما أعتبر نفسي تلميذا للشيخ القرضاوي فهذا من جهة الاعتزاز بهذا العالم الفذّ، والاعتراف بفضله عليّ بل وعلى جيل بأكمله من رجال الحركة الإسلاميّة، الذين نشأوا على فكره وعلمه ومنهجه في الدّعوة ..
لقد حبّبت إليّ كتبه فجعلت أتتبعها في مظانّها وأحرص على اقتنائها بكلّّ سبيل، وكانت كتبه قد طبعت في أواسط الثمانينيات وبداية التسعينيّات طبعات كثيرة بالجزائر، وكذلك أشرطته السمعيّة والبصريّة ملأت المكتبات الخاصّة ( عند الأفراد ) والعامة، فأخذت أقرأ وأستمع وأفهم وأحفظ..
الشيخ القرضاوي رجل متواضع إلى أبعد الحدود يطرح أفكاره ويقدّم فتاويه بكلّ بساطة ويسر، لا تجد في أسلوبه التواء ولا اعوجاجا يفهمه الصغير كما يفهمه الكبير، ويستوعب كلامه العامي كما يستوعبه المثقف. قرأت له من الكتب كلّ ما وقعت به يدي وكنت إذا عثرت بكتاب للشيخ القرضاوي تركت كلّ ما عداه من الكتب..
قرأت له أوّل ما قرأت – كما ذكرت سالفا – كتاب الحلال والحرام، وهو كتاب قيم بحق، وقد قال عنه أنّه عرض على هيئة مراقبة الكتب أو قراءتها في السعوديّة فطلب منه الشيخ ابن باز – رحمه الله – أن يغيّر بعض الآراء في هذا الكتاب حتى يأذنوا بدخوله إلى المملكة، فرفض ذلك وأصرّ على بقاء كلّ كلمة فيه كما هي، فكان من شهامة العلم الكبير الشيخ بن باز – رحمه الله – أن أذن في دخول الكتاب كما هو..
وقد قرأت له ( الصحوة الإسلاميّة بين الجحود والتطرّف ) وهو كتاب يعتر ميزانا في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وفيه تبيان مفصّل لكيفيّة تجنّب تطرّف المتطرفين وتشدّدهم، وإقامة الحجة على الجاحدين للصحوة المنكرين لها..
وقرأت له كذلك كتابه الفذ ( فقه الزكاة ) في مجلدين والذي نال به درجة الدكتوراه بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بالطبع، وهذا أكبر دليل على تفوّق الشيخ القرضاوي وتمكنه العلمي وردّ قاطع على من يتهمه أو يجرّح في كفاءته العلميّة..وهذا الكتاب يحظى برواج كبير في الأوساط الإسلاميّة بل يعدّ مرجعا هاما من أكبر المراجع في مجال الزكاة..وفيه اجتهادات جريئة ورائعة للغاية..
ومن كتبه أيضا التي قرأتها ( فتاوى معاصرة 4 أجزاء )، وهو بحق موسوعة للفتاوى الحديثة، التي تهمّ المسلم في زمننا هذا، وقد يعتبر مكملا لكتاب " الحلال والحرام "، ومن كتبه المثيرة والتي أحدثت ضجة كبيرة كتابه ( فقه الغناء والموسيقى ) وهو من الكتب الجريئة كذلك التي تميّز بها الشيخ القرضاوي، إذ يطرح فيه مشكلة من أعقد المشكلات الفقهيّة في عصرنا الحاضر، اختلف فيها العلماء ما بين محرّم ومبيح ..وهي مشكلة العناء والموسيقى التي عمّت بها البلوى وطمّت، وصار الغناء والموسيقى من الأشياء التي تدخل بيوتنا بغير طلب ولا استئذان..
وكان للشيخ فيها رأي مفصّل وقول مبسوط، وأقوى ما يستدلّ به المحرّمون حديث البخاري الذي يقول فيه النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
" ليكونن من أمتى قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) ، وذكر أنّ العلماء اختلفوا في فهم مدلول الحديث، فمنهم من استدلّ به على تحريم الموسيقى ومنهم من حمل التحريم على مجالس الخمر واللهو، ويبدو أنّ الرأي الثاني هو الذي أخذ به جمهور العلماء، واستحسنته الأمّة، عدا السلفيين الذين يرون حرمة مطلق الموسيقى، ويتشدّدون في الغناء المجرّد ولا يأذنون به إلا في مناسبات محدودة..
وقرأت للشيخ القرضاوي نونيته ( ملحمة الابتلاء )، وحفظت جزءا لا بأس به منها، وهي ملحمة بحق يصف فيها معاناته ومعاناة الإخوان المسلمين في سجون عبد الناصر زمن المحنة ومطلعها:
ثارَ القريضُ بخاطري فدعوني
أفضي لكمْ بفجائعي وشجوني
فالشعرُ دمعي حينَ يعصرني الأسى
والشعرُ عودي يومَ عزفِ لحوني
واستفدت كثيرا من كتابه " ثقافة الداعية " والذي وجدت فيه منهجا متكاملا للداعية الوسطي، كما وجدت زادا هاما من الكتب التي يرشد إلى قراءتها، وكنت قد قرأت بعضها وسعيت بعد ذلك إلى قراءة المزيد منها ولا أزال إلى يومنا هذا..
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
2012-12-18, 14:49
مع الشيخ القرضاوي..
العرض العادي
