بين التجربة والملاحظة:
بين التجربة والملاحظة فرق بسيط، هو أن الملاحظة ترقب لظاهرة طبيعية، بينما التجربة ترقب لظاهرة يصنعها الإنسان. وهذا الفرق هو الذي يجعل التجربة أقرب إلى النتيجة العلمية، وذلك لأنها تتميز بعدة سمات:
أ ـ لأن التجربة، هي (صنع) الظاهرة، ولأن الباحث لا يصنع ظاهرة، إلا لهدف علمي مجرد، هو الكشف عن شيء معين، فإن التجربة تتم على عينات قريبة جدا إلى موضوع البحث. فالملاحظ، مثلا، يراقب بدقة البرق، والمجرب يصنع الشرارة الكهربائية والملاحظ لا يستطيع أن يرى البرق وحده، ودون ان يدوخه صوت الرعد، كما لا يمكنه أن يمدد وقت البرق ولا أن يراه، في وقت يتناسب مع ظروفه وحالاته، بينما المجرب يستطيع أن يصنع الشرارة وحدها وبدون إزعاج الرعد، وأن يمددها ويوقتها بزمن يتناسب معه، وتحديد الهدف، أهم ميزة للتجربة، ولذلك تكون التجربة التي لا هدف لها أشبه شيء بالملاحظة.
ب ـ الملاحظة مراقبة فوقية للظاهرة المركبة، من دون نفوذ إلى عناصرها الذاتية الداخلية، فهي لا تستطيع تحديد هذه العناصر بالدقة، ولا مدى تأثير كل واحد منها في صنع الظاهرة، فمثلا لا يستطيع المرء بملاحظة حالة الثورة في البلد أن يعرف مدى تأثير العامل الاقتصادي فيها، أو أي عامل آخر، إنما يستطيع أن يفهم صفات الثورة الخارجية.
بينما التجربة تحلل كل ظاهرة (مما يمكن تحليلها) إلى عناصرها الذاتية، وكأنها دراسة من الداخل للظاهرة، وبعدئذ تتعرف على نسبة كل عنصر في تكوين الظاهرة، فمثلا: يستطيع المجرب تحليل الماء إلى عنصريه، وتحديد نسبة كل عنصر إلى العنصر الثاني، وذلك كمقدمة لمعرفة خواص كل عنصر منهما. وبكلمة، التجربة دراسة من الداخل لعناصر الظاهرة وتحديد لنسبها وصفاتها.
ج ـ وكما تستطيع التجربة تحليل الظاهرة تستطيع تركيبها، ولكن ليس بالشكل الطبيعي، وذلك بهدف الوصول إلى عناصر جديدة بالمرة. من طريق التجربة، استطاع الإنسان أن يؤلف بين النحاس والقصدير والرصاص، ليصنع معدنا جديدا هو (البرونز)، واستطاع الإنسان أن يصنع ملايين التركيبات الكيمياوية، ذات الآثار المتنوعة.
د ـ والوقت الذي تختاره للتجربة، هو الوقت الذي يناسبك، بينما وقت الملاحظة يناسب الطبيعة، لأنها هي التي تصنع الظاهرة، كما أن المدة التي تستغرقها الظاهرة، والمكان، وسائر السمات، لا يمكن التحكم فيها في الملاحظة بعكس التجربة، مما يجعل الفرق بينهما كبيرا في النتائج، إذ ان الملاحظات تسبب في تدخل الأوضاع الشخصية للباحث في نتائج ملاحظته، بعكس التجربة، وبذلك: (نتائج الملاحظة تختلف باختلاف الملاحظين لأنهم ليسوا سواءاً في قوة حواسهم، وسرعة خاطرهم، وفي القدرة على فهم ما يلاحظون، أو تأوليه تأويلا علميا صحيحا).
ولكن مع ذلك تحتفظ الملاحظة، بقيمها البحثية في أمرين، الأول: إن التجربة لا يمكن حصولها في بعض العلوم كالسياسة والفلك والاقتصاد، الثاني: إن دراسة الظاهرة الطبيعية دراسة حية ميدانية، ولذلك فهي توحي إلينا بروح الطبيعة، والتي تحمل أكثر من مجرد فهم لنقطة واحدة، بل فهما شاملا لمسيرتها العامة، وبذلك يحتاج الباحث القدير إلى الملاحظة، لشمولها وحيويتها، ويحتاج إلى التجربة لموضوعيتها ودقتها، وهما بالتالي كجناحي طائر.