منذ أيام كنت أقرأ تحقيقا لمخطوط تاريخي يدعى كالستينوس المنتحل "pseudo-Callisthenes" و كان المحقق الذي ترجم النص و حققه من السريانية إلى الانجليزية يناقش فكرة أن النص السرياني لم يترجم مباشرة من اليونانية بل هو ترجمة عن نسخة عربية . و كان يعطي الكثير من الامثلة عن الاخطاء التي وقع فيها المترجم و التي تؤكد ترجمته للكتاب من العربية . و لأنني كنت ابحث عن موضوع محدد في كتاب كاليستينوس و لانه هناك اختلافات بين نسخه المختلفة قمت بالبحث عن النسخة الارمينية و الإثيوبية لأجد ان محقق النسخة الإثيوبية هو نفسه محقق النسخة السريانية , و هو الامر الذي دفعني للبحث عن شخصية المحقق الذي يدعى Wallis Budge فاكتشفت انه معروف عالميا بوصفه احد أشهر علماء المصريات و خبراء اللغة الهيروغليفية و ان جل اعماله هي في هذا المجال . . . فكيف يكون شخص متخصص بالمصريات على معرفة واسعة ايضا بالعربية و السريانية و الاثيوبية في نفس الوقت ؟؟؟
دخلت على الويكيبيديا لأقرأ عنه فوجدت قصة مثيرة رأيت أنه من المهم ان نأخذ منها بعض العبر . . . ولد صاحبنا العالم و المحقق سنة 1857في بريطانيا . والدته كانت إبنة نادل يعمل في فندق . أما والده فغير معروف . عاش طفولته رفقة جدته و عمته في لندن, و كان قد أظهر اهتماما بتعلم اللغات في سن العاشرة , لكنه اضطر لمغادرة المدرسة في سن الاثني عشرة . عمل بعد ذلك في مكتب لأحد الشركات و أثنائها بدأ بتعلم العبرية و السريانية في أوقات فراغه , و كان يساعده في ذلك شخص متطوع يدعى Charles Seeger . قام هذا الأخير بتقديمة لعالم مصريات شهير بالمتحف البريطاني و لمساعده المتخصص في اللغة الأشورية و ذلك سنة 1872 (كان عمره آنذاك 15سنة) . بدأ صاحبنا يمضي وقت فراغه في المتحف البريطاني و يدرس النقوش المسمارية و اللغة الأشورية . و في الفترة حتى سنة 1878 ضل عاكفا على تعلم اللغة الأشورية . و كان يمضي الوقت المخصص للغداء بين فترتي العمل الصباحية و المسائية في دراسة الاشورية في أسقفية القديس بولس . حيث لاحظ عازف الأورغ في الأسقفية مواضبته و جهده في الدراسة فقرر مساعدته للعمل في وظيفة تسمح له بدراسة ما يحب . و هكذا اتصل العازف الذي يدعى John Stainer بشخصين , الأول نائب في البرلمان عن الحزب المحافظ و الثاني هو أهم شخصية لحزب الليبراليين في القرن 19 و الذي تقلد منصب رئيس الحكومة مرات عديدة "ويليام غلادستون" , قام هذين الشخصين على الرغم من إنتمائهما لحزبين خصمين بجمع التبرعات للشاب ليدرس في قسم اللغات السامية بجامعة كامبردج حيث امضى خمسة سنوات من 1878 إلى 1883 في دراسة العبرية و السريانية و الإثيوبية و العربية . في حين استمر بدراسة الأشورية بمفرده طيلة تلك المدة . تم تعيينه بعد ذلك ليعمل في المتحف البريطاني في القسم الاشوري ثم في القسم المصري حيث بدأ تعلم اللغة المصرية القديمية و نقوشها و صار احد اشهر المتخصصين فيها . و حياته بعد ذلك مليئة بالاحداث و الأعمال . في سنة 1920 تحصل على لقي "سير" و ظل يعتبر احد اهم علماء المصريات على رغم النقد الموجهة لكثير من أعماله من المختصين اللاحقين . . .
هذه باختصار لمحة عن جزء من حياة هذا الرجل . شخص ولد لأب غير معروف و خرج من المدرسة في سن ال12 لكنه وجد من يساعده في التعلم و اكتشاف موهبته و تشجيعه رغم حداثة سنه (استاذه المتطوع للغتين العبرية و السريانية) . و من يسمح له بدراسة النقوش الاشورية في المتحف البريطاني . ثم عازف الأورغ فرئيس الحكومة السابق نفسه . . . ثم اولا و قبل كل شيء ثقة الشخص في نفسه و جده في التعلم و الدراسة التي مكنته من ان يتعلم و يتقن عدة لغات فعلا . لذلك لا عجب ان يكون هذا الرجل عارفا بالعربية و السريانية و الإثيوبية و العبرية و الاشورية و المصرية القديمة و ربما لغات اخرى .