هدا المقال وجدته في مجلة زهرة الخليج للكاتبة الجزائرية المتألقة أحلام مستغانمي
أريد آراءكم
:أحلام مستغانمي: ما لم أقله لكم·· من فوق الشجرة
مازلتُ أقضي عطلتي من دون تلفزيون· فقد تعطّل، وقرّرت، رأفة بأعصابي، أن أستغني عنه· لكن، لا يكفي أن تقاطع الفضائيات العربية لتشفى من داء العروبة، وأخبارها التي لا يمكن أن تنقل إليك سوى ما يصيبك بالهمّ والغمّ والإحباط· هذا إذا لم يلحقك من جرّائها مرض عُضال، فتنتهي حسب قول المرحوم أبو عمّار "شهيداً شهيداً شهيداً"، في حروب لم تخصها إلاّ "مشاهداً مشاهداً مشاهداً" لنشرات الأخبار·
مات نزار قباني وفي نفسه شيء من ذلك السؤال:
"أنا يا صديقي متعَب بعروبتي
فهل العروبة لعنة وعقاب؟"
لأن السؤال مازال قائماً، والجواب عنه في متناول حتى أطفالنا، في إمكانكم المشاركة في أي برنامج للفوازير العربية، وستربحون المليون حتماً·· أو ما يعادل وزن الصحف العربية من ذهب·
ذلك أن الصحف، أيضاً، أصبحت مصدر بلاء ووباء· فمنذ الصفحة الأولى، تُشهر في وجهك كل الكوارث والمصائب والمجازر العربية، بشيء من السعادة المستترة، لصحيفة عثرت على ما يكفي من الدم، لتلوين صفحتها الأولى·
لذا، بسبب تناقُص مناعتي في التعاطي مع أخبارنا الكوارثية، قررت أن أضيف إلى برنامج علاجي مقاطعة الصحف العربية·
صدّقوني، لن تخسروا شيئاً إن أنتم أقلعتم عن مشاهدة الفضائيات، أو مطالعة الصحف· ثمة ثلاثمئة مليون صيني لا يملكون جهاز راديو، ولم يمنعهم هذا من الحياة ولا من السعادة· فهم يعتمدون على 82 مليون مكبِّر صوت لإيقاظهم بالموسيقى والإعلانات ونشرة أخبار موجزة·
أمّا النعمة الحقيقية، فتتمتع بها بلدة أفغانية لم تعرف حتى اليوم التلفزيون ولا الصحف، ولا حتى مكبّر الصوت· كل وسائل إعلامها السمعية والبصرية، تُقتصر في قرن ثور يمتلكه قاضي البلدة، الذي يعمل "مذيعاً" أيضاً· وهو يستعمل بوقه هذا للتشهير بالمجرمين، وإذاعة الأحكام التي اتُّخذت في حقهم، ولا يحتاج سكان البلدة إلى معرفة أكثر من هذا عن العالم· فمنذ أن أصبح العالم "قرية كونية"، صار ترف القرية، أن تغدو عالماً في حدّ ذاته في غنى عن الكون!
الذي يتعذّر عليه اللجوء إلى أهل الكهوف في أفغانستان، هرباً من التلوث السياسي والإعلامي، الذي نعانيه بسبب فائض الفضائيات العربية، في إمكانه أن يغزو كهفاً ويعلنه منطقة محررة ومنبراً إعلامياً حراً، كذلك الجزائري الذي عاش قبل ثلاث سنوات لعدّة أشهر في مغارة مهجورة "احتجاجاً على فشل الحكومة في التكفُّل بانشغالات المواطنين"، متعمداً أن يبقى معتكفاً في كهفه إلى حين رفع المظالم عن الناس أو تغيير الحكومة· وكان جزائري آخر قد سبقه بنحو عام إلى ابتداع وسيلة إعلامية جديدة، جاعلاً من النخيل "منبر من لا منبر له"·· فقد صعد الرجل إلى أطول نخلة في مدينة بسكرة جنوب البلاد، ومكث هناك أسابيع عدة، "احتجاجاً على الشر المنتشر في الأرض"، غير معنيٍّ بالصعوبة التي وجدها الصحافيون والتلفزيون في التحاور معه، نظراً لوجوده "فوق النخل·· فوف"!
كيف فاتنا أن نفكر في الأشجار كمنابر احتجاج واعتصام؟ خاصة أن الدفاع عن البيئة يجعل تسلق شجرة لإعلان رأي من علوّها، أكثر تحضّراً من قطعها لصُنع أوراق نكتب عليها خُطبنا ومقالاتنا، التي قد لا يقرأُها أحد·
ثمّ·· حدث أن فكّرت في الأشجار كملاذٍ للكتابة، خاصة أنني شاهدت مايكل جاكسون في أحد التحقيقات يتسلّق شجرة كبيرة في بيته، سمّاها "شجرة الزمن"، قال إنه كتب أجمل أغانيه وهو "معربش" فوقها، غير أنني عدلت عن المشروع لكوني لا أنحدر مباشرة من القرد، وليست لي قرابة بطرزان· وأثناء ترددي في اتخاذ قرار، كان الأسمنت يغتال الأشجار في جبل "برمّانا" ملتهماً غابات "لبنان الأخضر"·
أعذروني إذن· لي كلام كثير تمنيت أن أقوله لكم من علوِّ شجرة، لولا أنهم يغتالون أيضاً الأشجار في لبنان·
في كل حرب، أثناء تصفية حساب بين البشر، يموت جيل من الأشجار في معارك يتجاوز منطقها فهم الغابات·
في استطاعتنا أن نبكي· حتى الأشجار ما عاد في إمكانها أن تموت واقفة، فكيف لها أن تكون منبراً لنا؟