الشيخ سليمان الخراشي
بسم الله الرحمن الرحيم
جميعُ الناظرين في حال الأمة الإسلامية لإصلاحه منذ أكثر من مئتي سنة تقريبًا متفقون على وصفه بالتأخر في المجالات " الدنيوية " ، لا يُعارض في هذا أيٌ منهم ؛ لأنه من البدهيات .
لكن الخلاف بينهم في ماهية هذا الإصلاح ووسائله : فمنهم من رأى أن الشريعة جاءت بتعظيم الجانب الديني والأخروي على حساب الدنيوي ، وهذا – في نظره – من السلبيات ! وله دور كبير في تأخر الأمة . ولكنه لم يستطع أن يجهر بهذا في البداية – لحساسيته - ، فانصب نقده على " تصرفات " المسلمين ، دون التعرض لمبادئ الشريعة .. ثم تطور به الحال إلى أن جهر بهذا ، بل وصل إلى الإلحاد – والعياذ بالله - ، ولعل عبدالله القصيمي يُمثل هؤلاء بجدارة ، فقد بدأ ثائرًا على أوضاع الأمة ، ناقدًا لتصرفات أفرادها ، ، في مسائل ؛ كفهمهم للقضاء والقدر ، والتوكل ، والدعاء .. إلخ مايراه من المعوقات ، وهذا حسَن لو توقف عنده وساهم في علاج تلك الأوضاع الخاطئة ، دون خلطها بغيرها . لكنه خلط ولم يفهم بعضها الفهم الصحيح ؛ فآل به الحال إلى أن اكتشف أن ثورته قد شملت بعض مبادئ الشريعة ، من ناحية عدم تولية النصوص الشرعية الجانب الدنيوي حقه – بحسب زعمه ! - ؛ مما ورطنا في هذا " التخلف " !
فكان بين أمرين : إما أن يستمر في مخادعة النفس والغير بإلصاق ذلك بتصرفات المسلمين لا دينهم ، وإما الثورة الجامحة على الاثنين : " التصرفات "، و " الشريعة " .. فاختار الثانية إلى أن هلك ، ولم يُثمر فكره للأمة نفعًا ، سوى " التمرد " و " الصراخ " غير المجدي .. وهكذا سيكون حال من سيسير سيرته .
والبعض ممن يرى رأيه اختار الأولى ، وهي الابتعاد عن حمى الشريعة ، والاكتفاء بذم وشتم أهلها ؛ لأنه لا طاقة له بتكاليف " الجهر " و " المواجهة " .. وحاله لن يختلف كثيرًا عن القصيمي من حيث عدم الانتفاع من جهوده .
واجتمع الفريقان على اختيار تضخيم الجانب الدنيوي على حساب أمر الدين والآخرة ؛ فقادهم هذا إلى الانكباب على ماعند الآخرين - دون تمحيص - ؛ لعلهم يزاحمونهم - كما يظنون - في سباق " التقدم " و " التطور " ؛ مما أدخل الأمة في صراعات وانقسامات ومنازعات ؛ لا زلنا نعيش شيئًا منها - يطول الحديث عن تفاصيلها - .
ولو فهم هؤلاء جميعًا : النظرة الإسلامية للحياة عامة ، ولأمر التطور والتقدم خاصة ؛ لوفروا على أنفسهم وغيرهم والأمة جهودًا كثيرة مستنزفة .
وقد رأيتُ الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – قد ألمح إلى هذه النظرة ، وتعرض لنظرة " المُتعبين " بأسلوب سلس رائق ؛ أحببتُ نقله للقراء ، ثم التعليق عليه ، خاصة وأن نظرة أولئك لها " سماعون " من داخل صفوف أهل الخير والصلاح ؛ ممن يُؤمل منهم – بعد الله – نفع الأمة وتسديد سيرها ..
الفكرة
يقول سيد -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى ( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) : ( إن الإسلام -والإسلام وحده- هو الذي جعل لهم -أي العرب- رسالة يقدمونها للعالم. ونظرية للحياة البشرية ، ومذهباً مميزاً للحياة الإنسانية.. والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب تقدمه للبشرية، لتدفع بالبشرية إلى الأمام.
وقد كان الإسلام، وتصوره للوجود، ورأيه في الحياة، وشريعته للمجتمع، وتنظيمه للحياة البشرية، ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله (الإنسان) .. كان الإسلام بخصائصه هذه هو بطاقة الشخصية التي تقدم بها العرب للعالم، فعرفهم، واحترمهم، وسلمهم القيادة.
وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة. ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم. وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم؛ وإما أن ينبذوها فيعودوا همَلاً –كما كانوا- لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد!
وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟
يُقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول. والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة. وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة!
يُقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق، تنحني له الجباه، ويُغرقون به أسواقها، ويُغطون به على ما عندها من إنتاج؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار!
يُقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم، ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية، وتشقى بها جميعاً غاية الشقاء!
ماذا إذن يُقدمون للبشرية لتعرفهم به، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟
لا شيء .. إلا هذه الرسالة الكبيرة. لا شيء .. إلا هذا المنهج الفريد. لا شيء .. إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها. وأكرمهم بها، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم. والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس !
إنها - وحدها- بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديماً للبشرية، فأحنت لها هامتها ، والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ.
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة، وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة ، وهي التي تقدم أكبر منهج، وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة.
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم شركاء- فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟
أي شيطان؟!
لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة. وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان.. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان! ) . الظلال (1/512).
التعليق
هذا ما قاله سيد –رحمه الله- ! وأعلم أن طائفة ستتنكر مثل هذا الكلام، وتعده مثبطاً ومخذلاً للأمة أن تترقى في سلم الحضارة الدنيوية، وتساهم في ذلك مع غيرها من الأمم المختلفة التي سبقتها في هذا المضمار.
ولكني أرى الحق مع سيد - رحمه الله-، ويشهد لذلك نصوص شرعية كثيرة تجعل أهم عمل يقوم به المسلم في هذه الدنيا هو التزامه أحكام الإسلام، ودعوته الناس لهذا النور الذي امتن الله عليه به، أما أمور الدنيا وعمارتها فهي أمور تابعة ولاحقة لذلك الأمر العظيم، الذي لو قام به حق القيام ليسر الله له من أمور الدنيا ما يورثه العزة والقوة بين الناس. قال تعالى ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، وقال سبحانه ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ) .
فعمارة الدنيا يجب أن لا تُنسي المسلم هدفه الأول من خلق الله له، وهو عبادته سبحانه وحده لا شريك له، ثم إخراج الآخرين من ظلمات الشرك والبدع والمعاصي إلى نور التوحيد والسنة والطاعة. ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .
وسعي المسلم لهذا الإعمار ينبغي أن لا يقوده إلى التفريط في ثوابته أو أحكام شريعته زاعماً بجهل أو تجاهل أن مثل هذا التفريط يوصله حتماً إلى التقدم الدنيوي والحضاري، كما تصنع الدول (العَلمانية) في عالمنا الإسلامي التي ظنت -لجهلها- أن الإسلام يعارض التطور الدنيوي النافع؛ فآثرت التفريط بأحكام الشريعة ليحصل لها التطور الدنيوي ( الموهوم ) ، فكانت عقوبتها العاجلة من الله لتفريطها في حمل دينه أن خسرت الدين والدنيا جميعاً، كما هو مشاهد. فهذه سنة من سنن الله لهذه الأمة أنها لن تصل إلى العز والرفعة إلا بحمل هذا الدين ونقله إلى الآخرين، وأما بدون ذلك فليس لها إلا الذلة والمهانة والخمول بين الأمم.
أما الدول الكافرة فلها سننها الخاصة بها، لعلي أتعرض لها في مقال آخر.
والخلاصة: أن على البلاد الإسلامية شعوباً وحكومات أن تجعل مبتغاها الأول هو الالتزام الكامل بدين الإسلام، وتعلم أنه شرفها وعزها بين الأمم، ومتى علم الله صدق نيتها في ذلك منّ عليها بالقوة والعزة وسهل لها الأسباب الدنيوية المعينة على ذلك.
وأن تعلم –قبل هذا- أن الميزان يوم القيامة هو في تحقيق عبودية الله من عدمه، أما التقدم الدنيوي فلا عبرة به عند الله حينذاك، وقد أخبرنا سبحانه بأنه قد دمَّر كثيراً من الأمم السابقة التي بلغت شأناً عظيماً في التقدم بسبب أنها عصت وتمردت على دين الله. قال سبحانه : ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
والله الهادي ..