نحت حديد الباطل وبرده
بأدلة الحق
الذابة عن صاحب البردة
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
للعلامة الشيخ داود بن سليمان
النقشبندي الخالدي الشافعي
تحقيق
السيد الفاضل : عبد الرازق النقشبندي الخالدي
رضي الله تعالى عنهم أجمعين
Islam_light
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
وصلى الله تبارك وتعالى على سيدنا محمد وآله دائماً أبداً سرمداً
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناس } " البقرة : الآية 143 " والقائل أيضاً في كتابه العزيز { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } " المائدة : الآية 77 " .
وصلى الله تبارك وتعالى على سيدنا محمد وآله وسلم القائل في حديثه الشريف : " ما بال أقوام يطعنون في علمي ؟ فو الذي نفسي بيده ، لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلا أخبرتكم به " والقائل أيضاً في حديثه الشريف : " ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا . حتى الجنة والنار " .
من المعلوم بل من المسلم به أن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد ميزه خالقه وسيده بخصائص ظن من لا علم عنده من أصحاب العقائد الفاسدة أن فيها تخليطاً بين مقام الخالق سبحانه وتعالى ومقام المخلوق ورفعاً لمقام نبينا إلى مقام الألوهية .
سبحان الله هذا إثم وبهتان عظيم لأنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء تفضيلاً منه لمن أراد إظهار فضله ورفع مقامه .
ولقد قيض الله سبحانه وتعالى لهذا الدين رجالاً تنجلي بهم كل فتنة سوداء ، خصهم سبحانه وتعالى بالعلم والمعرفة ونور البصيرة ، قال تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } .
منهم العالم الكامل الفاضل سيدي داود سليمان النقشبندي فقد أجاد وأفاد . وجال وصال في رده على ذلك النجدي الذي اعترض على بعض أبيات نيرات وردت في بردة الإمام البوصيري . وضاق صدره بها وقل علمه في فهم مراد الناظم . وهكذا أهل الله تعالى آتاهم الحق بسطة في العلم ورجاحةفي العقل ، فإذا نظروا نظروا بنور الله وإذا تكلموا نطقوا بعلم الله ، قال تعالى { آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً } فسبحان العاطي الوهاب .
فهل ظن من لا علم عنده أن هناك تعارض بين قوله عز وجل : { قل لله الشفاعة } وبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " أنا أول شافع ومشفع " ؟
وهل ظن من لا عقل عنده أن هناك تعارض بين قوله تعالى { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ؟
وبين قوله تعالى أيضاً : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسولٍ } .
وهل ظن من لا إيمان عنده أن هناك تعارض بين قوله تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } وبين قوله تعالى أيضاً : { وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ } ؟
فشفاعة رسول الله هي من عند الله سبحانه وتعالى .
وعلم غيب رسول الله هو من عند الله سبحانه وتعالى .
وهداية رسول الله هي من عند الله سبحانه وتعالى .
وماذا يقول هذا المعترض على قول الرجل الصالح الذي عنده علم من الكتاب والوارد قصته في سورة النمل { أنا آتيك به } ألم يلحظ كلمة { أنا } الواردة في هذه الآية و ما فيها من المعاني والدلالات .
نسأل الله أن يفتح مسامع قلوبنا لبديع معاني كلامه سبحانه وتعالى .
وصلى الله تبارك وتعالى على سيدنا محمد { سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } .
دار جوامع الكلم
شهر الله المحرم – عام 1425 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان على خير الخلق أجمعين سيدنا وشفيعنا وملاذنا يوم يقوم الناس لرب العالمين .
أما بعد ..
فهذا كتاب ينطق بالحق ، فيه البيان الشافي ، والرد الوافي على من طعن في بعض أبيات قصيدة ملأت الدنيا فرحاً وسروراً في قراءتها وسماعها منذ خرجت من فم ناظمها عليه رحمة الله تعالى ورضوانه ، فكل من سمعها وتدبر أبياتها وعرف معانيها ، تاقت نفسه لحفظها ، وتكرار سماعها ، ولكن لم يحصل ذلك وما السبب فيه ؟!
إنها قصيدة ملئت أبياتها وحشيت بذكر الحبيب المحبوب نبي الرحمة الشافع المشفع ، الذي ذكره يحيي القلوب وينعش الأرواح ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
فلا أعظم من أن يسمع المرء – بعد كتاب الله تعالى – سيرة وحياة وأوصاف نبيه المحبوب صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
لكن ذلك النسيم اللطيف ، وتلك اللحظات وإن طالت في الاستماع أو القراءة في السيرة العطرة بشتى صورها ، لم تكن لتروق لبعضهم ، فأسماعهم تشمئز من ذكر بعض المواقف والصفات العطرة لجناب هذا النبي العظيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فالتعليق والاعتراض يطولان حتى يوصلا صاحبهما إلى إطلاق الكفر والشرك وهدم أركان الإسلام ، وحل عقده ، وغيره من الألفاظ على من يقول أو يؤيد ما تنفر منه أسماعهم وتبغضه قلوبهم .
هذا الفعل حصل ويحصل دائماً على بعض روايات السيرة النبوية ، وبعض الكتب المصنفة فيها ، ويلحق بها قصيدة " البردة " للإمام شرف الدين البوصيري فنحن نسمع على المنابر ، وعلى كراسي الوعظ والدرس ما تشمئز منه النفوس من قول بشرك صاحب القصيدة ، أو أنه إذا قال قصيدته :
ومن علومك علم اللوح والقلم ..
أنه ماذا بقى من علم الله إن كان النبي صلى الله عليه و على آله و سلم علم اللوح والقلم ، ومَن يقول بمشابهة المصنف للمشركين في قولهم في أصنامهم عند قوله في قصيدته :
يا أكرم الحلق مالى من ألوذ به ..
إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..
إن التكلم مع من هذا فكره ومنهجه ، ليس يجدي في بيان الحق شيئاً ، بل قد يجر إلى مالا يحمد عقباه ، فلن نطيل الجدال ، ولن نكثر من الأخذ والرد مع من في قلبه مرض ، فقد رأينا أن المؤلف العلامة الشيخ داود ابن سليمان قد كفى ووفى في الرد وبيان الحق في كتابه هذا ، ولكن أحببنا أن تكون مقدمتنا لهذا الكتاب بياناًَ وترجمةً لأئمة الدين الذين رووا هذه القصيدة وأثبتوها في كتبهم ، وسمعوها مع سماعهم للكتب العلمية ، واجتهدوا في حفظها حفظهم لمتون الفنون العلمية .
فممن رواها عن المصنف :
1- الإمام المفسر لكتاب الله العزيز أبي حيان الأندلسي : محمد ابن يوسف بن علي الغرناطي، صاحب تفسير " البحر المحيط ".
2- الإمام الحافظ محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري ، صاحب السيرة الشهيرة " عيون الأثر " .
3- الإمام الفقيه سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام السلمي ، صاحب " القواعد الكبرى " .
4- الإمام المحدث محمد بن جابر الوادي آشي .
أما من رواها من العلماء والمحدثين فمنهم :
1- الإمام الحافظ زين الدين العراقي .
2- الإمام الفقيه المحدث عمر بن علي المعروف بابن الملقن .
3- الإمام المجتهد عمر بن رسلان البلقيني .
4- الإمام الحافظ المحدث أحمد بن علي بن حجر العسقلاني شارح البخاري .
5 – الإمام المحدث الفقيه زكريا الأنصاري .
6- الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي .
وغيرهم ممن لا يحصون كثرة كما أشار العلامة الشيخ داود في مؤلفه هذا .
بقى أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر من سمع " البردة " أو حفظها من الأئمة الأعلام .
1- الإمام إبراهيم بن علي القلقشندي = حفظها ( الضوء الامع ج 1 : 77 ) .
2- الإمام إبراهيم بن علي بن ظهيرة = سمعها على أحمد بن إبراهيم الرشيدي ( الضوء الامع ج 1 : 88 )
3- الإمام أحمد بن محمد بن محمد الجخندي = سمعها على العز بن جماعة ( الضوء الامع ج 2 : 199 ) .
4 – الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن فهد = حفظها و " الهمزية " .
5- الإمام أحمد بن خليل بن كيكلدي = سمعها على يوسف المشهدي ( المعجم المؤسس 1 : 363 ) .
6- الحافظ بن حجر العسقلاني = سمعها على محمد بن محمد الغماري ( المعجم المؤسس 3 : 246 ) .
7 – الإمام مجد الدين الفيروز أبادي = سمعها على العز بن جماعة ( العقد الثمين 2 : 393 ) .
8- الإمام محمد بن أحمد الفاسي صاحب " العقد الثمين " = سمعها على الفيروز أبادي .
وهناك من العالمات من سمعتها أو قرأتها ، فمنهن :
1- بيرم أحمد الديروطية = كانت تحفظها مع " العمدة " و " الأربعين " ( الضوء الامع ج 12 : 15 ) .
2- عائشة بنت أبي بكر المراغي = سمعت " البردة " على العز ابن جماعة ( الضوء الامع ج 12 : 74 ) .
3- ست الأهل بنت محمد بن فهد = سمعت " البردة " على أحمد المرشدي ( الضوء الامع ج 12 : 146)
فهل كل هؤلاء مشركون ، أو رضوا بالشرك والكفر على زعم الزاعم ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
اللهم نور بصائرنا وعقولنا ، وألهمنا رشدنا ، واحشرنا في زمرة عبادك الصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، وصلى الله وسلم وبارك على النعمة المعطاة ، والرحمة المهداة ، آمين يارب العالمين ..
* * *
" ترجمة المصنف "
هو العلامة الإمام داود بن سليمان البغدادي النقشبندي الخالدي الشافعي ، ولد رحمه الله تعالى سنة 1231 هـ في مدينة بغداد ، ونشأ في حجر والده وحفظ القرآن الكريم ، ثم قصر نفسه على العلم وطلبه حتى صار يقرئ الدروس وهو ابن ثماني عشر سنة .
وقد كان من ذكائه أنه كان يحشي بعض العبارات من درسه وهو ابن خمس عشر سنة .
ثم سافر بعد وفاة والده إلى مكة المكرمة وبقي فيها نحو عشر سنوات ثم رجع إلى بغداد وصار يدرس العلوم ويرشد العباد ، ثم سافر إلى الشام وبقي فيها سنتين ، وسافر منها إلى الحجاز ومن ثم إلى مصر ، ثم الموصل ورجع إلى بغداد وبقي بها حتى توفى .
له من المؤلفات :
1- أشد الجهاد في إبطال الاجتهاد ( طبع ) .
2- صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم ( طبع ) .
3- المنحة الوهبية في الرد على الوهابية ( طبع ) .
4- مناقب المذاهب الأربعة .
5- دوحة التوحيد في علم الكلام .
6- روضة الصفا في بعض مناقب والد المصطفى (ص) .
7- رسالة في الرد على محمود الألوسي .
8- مسلى الواجد .
9- تشطير البردة .
10 – نحت حديد الباطل وبرده في أدلة الحق الذابة عن صاحب البردة وله نسخة فريدة تم العثور عليها بحمد الله ، وهي من محفوظات جامعة كمبردج ، وبها تصحيف وتحريف كثير عملنا على تصويب ذلك من خلال المصادر المنقول منها .
توفي رحمه الله تعالى ببغداد قبيل المغرب ليلة عيد الفطر سنة 1299 هـ .
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي أعطانا من خلع الإيمان برده ، وأذاق أذواقنا من رائق شرابه برده ، ومنّ علينا بعقد عقائد قلوبنا على التماس شفاعة حبيبه في الدنيا والآخرة ، وأعاد منكرها العادي فيهما من الخيبة العظمى بصفقة خاسرة .
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ وينكر الفم طعم الماء من سقم
والصلاة والسلام على صاحبهما الشافع المشفع ذي المقام المحمود المخفوض له كل مقام ، بالإضافة إلى منصبه الأرفع الذي توسل به آدم فمن دونه فتاب عليه ، ولا تهرع الخلائق حتى الرسل في الموقف المهول إلا إليه ، فتستغيث به الطوائف كلها يومئذٍ ويتضرعون له ولها فأنا لها بعد امتناع أولي العزم أنا لها .
فيا له ولها والله من نعمة ، فما أشمل جود هذا السيد المرجي وما أعمه ، (ص) المارقين بسهم سهمهم منه ، وبغضب غضبهم له ، إهاب المارقين والطاعنين بأسنة دلائلهم السنية الطاعنين .
أما بعد ..
فيقول الفقير إلى سيده ومولاه ، والراجي شفاعة نبيه في دنياه وأخراه ، داود بن سليمان أفندي البغدادي أظهره الله بالحجة البالغة على كل عادٍ من الأعادي :
أتاني سنة تسعة وستين ومئتين وألفٍ من مكة المشرفة ، كتاب كريم فيه نبأ عظيم وهو أن بعض من أخذ العلم علينا من أهل نجد ، معه بردة المديح التي هي مرهم مجرب لكل جريح ، مع تشطيري لها الذي امتزج بها وزادها رونقاً وبهاء . فرآه بعض ضغام في نجد فأنكر بعض ما وجد فيها من التشفع وجد ، وأنه كتب بعضهم رسالة ينتقص فيها من مقام صاحب الرسالة ، وأظهر فساد كلام يدعي فيه البسالة من اعتراضات على بعض أبياتها واهية وما أدراك ماهية ، سفاسف وترهات ، وعلى الجهل المركب دالات ،ويدعي أن صاحب البردة في قوله :
يا أكرم الخلق …
كفر ، وحصلت له الردة ، وأن من : قرأها ، أو سمعها ، أو كانت عنده أو رضي به ، فقد كفر وتجاوز حده ، وأوجب بالقتل حده . فصار ذلك المخبر لي بكتابة والمبدي ما في أو طابه ، يستنهض همتي لرد هذه الخرافات .
فقلت : عجباً هؤلاء الأرجاس ما شبعوا من كل الخرافات حتى ظهر منهم هذه الأيام ظاهر ، يثابر على تقويم معوج بدعتهم ويظاهر .
فاستعنت الله تعالى على بيان رده ورد إليه وإلى حزبه وجنده لتقر بذلك عيني محبي المصطفى صلى الله عليه و على آله وسلم مما راق من الأدلة القوية وصفاً ، فهي لعمر الله لا تحتاج لظهور فسادها رد ، ولا تحسب شيئاً ولا تعد .
ولكن تحاشياً عن دخول سفاسفهم على بعض العقول ، ليدفع ما يتقوله هذا الخارجي بما تقول من أوضح النقول ، وسميتها : " نحت حديد الباطل وبرده بأدلة الحق الذابة عن صاحب البردة " .
ولنقدم قبل المقصود ، ترجمة ناظمها وبيان فضله الشاهد بكماله المشهود .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في "شرح الهمزية " [ 1 : 105 ] : " وإن أبلغ ما مدح به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من النظم الرائق البديع ، وأحسن ما كشف عن شمائله من الوزن الفائق المنيع ، وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره وخصائصه ومعجزاته ، وأفصح ما أشارت إليه منظومة من بدائع كمالاته ، ما صاغه صوغ التبر الأحمر ونظمه نظم الدر والجوهر ، الشيخ الإمام العارف الهمام الكامل المفنن المحقق ، والبليغ الأديب المدقق ، إمام الشعراء وأشهر العلماء ، وبليغ الفصحاء ، وأفصح البلغاء الحكماء ، الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي الدلاصيري ، ثم اشتهر بالبوصيري ، قيل : ولعله بلد أبيه ، فغلب عليه .
ولد سنة ثمان وست مائة ، وأخذ عنه الإمام أبو حيان النحوي . والإمام اليعمري أبو الفتح ابن سيد الناس ، ومحقق عصره العز بن جماعة ، وغيرهم .
توفي سنة ست أو سبع وستين وست مئة على ما قاله المقريزي ، لكن صوب شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني أن وفاته سنة أربع وتسعين وست مائة .
وكان من عجائب الدهر في النظم والنثر ، ولو لم تكن إلا قصيدته المشهورة بـ " البردة " التي ازدادت شهرتها إلى أن صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد ، لكفاه شرفاً وتقدماً .
وأما من روى هذه القصيدة ، و " الهمزية " من العلماء الأعلام ، ومصابيح الظلام ، فخلق لا يحصون ، منهم ما ذكره ابن مرزوق ، شارح " البردة " بمجلدين كبيرين .
قال : وقد حصلت لي رواية هذه القصيدة ، من ذلك : أني سمعتها بقراءة الشيخ [ العلامة ] المحدث المكثر الحافظ شهاب الدين أبي العباس أحمد الرشيدي المكي سنة اثنتين وتسعين وسبع مائة ، على الإمام العلامة الشهير المكثر الرحال المحدث الرواية ذي الفنون الغريبة والتآليف العجيبة مجد الدين الفيروز أبادي العراقي صاحب " القاموس " نزيل مكة المشرفة ، وأخبرنيها عن الإمام العلامة قاضي القضاة عز الدين أبي عمرو عبد العزيز ابن الإمام العلامة قاضي القضاة بدر الدين أبي عبد الله محمد بن جماعة الكناني المصري الشافعي ، عن الناظم .
(ح) وحدثني بها إجازةعن ابن جماعةالمذكور غير واحد من أشياخي الأعلام ، منهم : الأئمة الثلاثة المصريون حجج الإسلام وحاملوا راية سنة النبي عليه وآله الصلاة والسلام : أبو حفص عمر بن رسلان بن نصر بن صالح البلقيني ، وعمر بن على بن أحمد بن محمد الأنصاري – الشهير بابن الملقن - ، و وحيد دهره وفريد عصره زين الدين ابن العراقي .
(ح) وحدثني بها إجازة العلامة النحوي ، أحد النحاة بالديار المصرية ، شمس الدين أبو عبد الله محمد الغماري ، عن أبي حيان ، عن الناظم .
(ح) وحدثني بها إجازة الشيخ الفقيه الإمام النحوي اللغوي الأعرف ، الحافظ المتقن الرواية الصالح العارف ، أبو العباس أحمد بن محمد الأزدي – الشهير بالقصار – وله على القصيدة شرح ذكر فيه نبذاً من اللغة والإعراب ، عن الشيخ المحدث الشهير الرحال محمد بن جابر القيسي الواد آشي ، بحق سماعه من ناظمها ، والحمد لله حق حمده .
قال الشيخ بن حجر رحمه الله تعالى : وقد حصلت رواية هذه القصيدة وغيرها من شعر الناظم من طرق متعددة ، منها – بل أعلاها - : [ أني ] أرويها عن شيخنا شيخ الإسلام وخاتمة الحفاظ ، أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي ، عن العز [ أبي محمد ] بن الفرات ، عن العز بن بدر جماعة ، عن ناظمها .
وعن حافظ العصر بن حجر العسقلاني – يعني شارح "البخاري" – عن الإمام المجتهد السراج البلقيني ، والسراج ابن الملقن ، والحافظ زين الدين العراقي عن العز بن جماعة عن ناظمها ، وأرويها أيضاً عن مشايخنا ، عن الحافظ السيوطي عن جماعة منهم : الشمني الحنفي ، بعضهم قراءة ، وبعضهم إجازة ، عن عبد الله بن علي الحنبلي . كذلك عن العز بن جماعة ، عن الناظم . انتهى.
وقد اشتمل هذان الإسنادان على جملة من أساطين العلماء الأعلام المقتدى بهم في أمور الدين .
وأما غير هؤلاء ، فمما لا يحصى كثرة ، لأنها من زمان مؤلفها إلى هذا الآن ، من رواها ألوف مؤلفة لا يدخلون تحت الحصر من أكابر العلماء وغيرهم .
فائدة : فقد شرح هذه البردة جملة من أكابر العلماء ،منهم : الشيخ ابن مرزوق التلمساني المالكي ، الإمام المحقق المحدث شرحين كبير وصغير ، ، ذكر في الكبير أنواعاً من العلوم ، وشرحها أيضاً العلامة المدقق جلال الدين المحلي ، المفسر للقرآن وشارح " جمع الجوامع " " والمنهاج"في الفقه ، وشرحها الحافظ الحجة الشيخ زكريا الأنصاري شيخ الإسلام ، وشرحها الإمام المحدث شهاب الدين القسطلاني شارح "البخاري" ، واستعملها في كتابه ( المواهب اللدنية ) وطرز كتابه هذا بها ، واستعملها في " سيرته " العلامة الحلبي مع " الهمزية " ، وشرحها العلامة الثاني السعد التفتازاني قدس سره النوراني صاحب التآليف السائرة في الآفاق ، وشرحها العلامة النحوي الشيخ خالد الأزهري صاحب "الأزهرية " وشرح "القواعد" و "التصريح " ، وشرحها العلامة المحقق شيخ زاده الرومي الحنفي صاحب " حاشية البيضاوي " في عدة مجلدات ، وشرحها السيد الغبريني المقرئ – ذكره الشهاب الخفاجي في " ريحانته " – وشرحها علامة الروم الخادمي ، وشرحها العلامة عبد السلام المراكشي المالكي وذكر خواص أبياتها ، وشرحها العلامة القباني البصري ، ورأيت لها ثلاثة شروح في الفارسية .
وفي شرح العلامة ابن مرزوق ما يدل أن لها شروحاً كثيرة ينقل عنها ولم يسمها .
وأما من خمسها فكثيرون جداً ، وسبعها على ما اشتهر العلامة البيضاوي صاحب التفسير المشهور .
فهل ترى أن كل هؤلاء الناس من العلماء لم يعلموا أن فيها شركاً وكفراً ، أو خطأ ، وأنت أيها الجاهل علمته ونبهت عليه ، وهم غفلوا عنه وما نبهوا ؟!!
أم علموا ذلك وغشوا الناس .. ! ، فما هذا ورب الناس إلا خناس يوسوس في صدور هؤلاء الأرجاس . وسيأتيك من الحجج القاطعة لاعتراض هؤلاء الأنجاس ما يكشف عن قلبك لباس الالتباس .
ولا يخفى أن عصر مؤلفها متقدم على عصر تقي الدين ابن تيمية ومن بعده من أتباعه ، وكانت هذه القصيدة بهذه الشهرة العظيمة في تلك القرون العديدة ، فلم ينقل عن أحد من هؤلاء وغيرهم أنهم أنكروا عليها في شيء .إذ لو كان فيها من مخالف الشرع أدنى شيء ، لوجب التنبيه عليه فكيف إذا كان فيها الشرك المخرج عن الملة كما يزعمونه الخوارج الأذلة ، ولكن في هذا الزمان كما قال القائل :
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس
وقد وردفي الحديث الصحيح : أن من علامات الساعة " أن يلعن آخر هذه الأمة أولها " ، بعكس ما أمر الله وذكر عن المؤمنين ، قال تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا } " الحشر الآية 10 " ، واقتداء بالرافضة والخوارج الذين كفروا الصحابة الكرام وجعلوهم مرتدين ومشركين بشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت ، فلخيار هذه الأمة المحمدية أسوة حسنة بأصحاب نبيهم (ص) .
ففي "البخاري " باب " قتل الخوارج والملحدين " : وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يراهم شرار الخلق ، قال :" وهم أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين " .
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية في " الفتاوي" لما سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير : من أول من أحدثه ؟
فقال : " إنما أصل التكفير للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين ، لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين ، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض ، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله (ص) ، وليس كل من يترك قوله لخطأ أخطأه ، يكفر ولا يفسق ولا يؤثم .
ثم قال : فأن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } " البقرة الآية 286 " . وفي " الصحيح" عن النبي (ص) قال : " قد فعلت " .
إلى أن قال : ومن المعلوم أن المنع عن تكفير المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب ، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطأوا ، هو من أحق الأغراض الشرعية ، حتى لو فرض أن القائل دفع التكفير عن من يعتقد أنه ليس بكافر حماية لأخيه المسلم ، لكن هذا غرضاً شرعياً حسناً ، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد وأخطأ ، فله أجر واحد .
فبكل حالة ، هذا القائل محمود على ما فعل ، مأجور على ذلك مثاب إذا كانت له نية حسنة ، والمنكر له أحق بالتعزيز " . انتهى منه .
وقال ابن رجب الحنبلي في " شرح الأربعين النووية " : " روى ابن مهدي ، عن مالك قال : لم يكن شيء من الأهواء في عهد رسول الله (ص) وأبى بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم ، وكان مالك رحمه الله يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ، ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم النار ، أو في تفسيق خواص هذه الأمة ، أو عكس ذلك . فزعم أن المعاصي لا تضر ، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد " ، انتهى .
وقال أيضاً في شرح الحديث الثاني : " وهذه المسألة – أعني مسائل الإسلام والإيمان والنفاق – مسائل عظيمة جداً ، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف حدث في هذه الأمة ، وهو خلاف الخوارج للصحابة ، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية ، وأدخلوهم في دائرة الكفر ، وعاملوهم معاملة الكفار ، واستحلوا بذلك دماءهم وأموالهم " انتهى .
فهذا في حال تكفير الخوارج بالمعاصي ، فكيف بمن يكفر علماء المسلمين بالسنن المستحبة ، أو الأمور المباحة ؟ فكأنهم زادوا على الخوارج بدرجات ، بل نزلوا عنهم بدركات ، نسأل الله تعالى العافية .
فلنذكر محل اعتراض هذا المعرض عن الحق ، وهو بشق خلافه لعصا المسلمين شق ، فنقول وبالله التوفيق:
قال في الأصل والتشطير :
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي
ومنقذي من عذاب الله والألم
أو شافعاً لي مما قد جنيت غداً
فضلاً وإلا فقل : يا زلة القدم
المطلوب من الرسول (ص) الإنقاذ من عذاب الله ، أي بالفعل ، فإن لم يحصل بالفعل ، فبالشفاعة .
فوازن بين قوله سبحانه وتعالى لنبيه (ص) : { أفأنت تنقذ من في النار } " الزمر الآية 19 " استفهام إنكار ، وقال عن صاحب يس : { إن يردن الرحمن بضرٍ لا تعنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } " يس الآية 23 " .
فهذا نص أن من أراده الله بضر ، فلا منقذ له ولا شفيع .
وقال تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } الآية " الإنفطار الآية 19 " ، وقال لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { ليس لك من الأمر شيء } " آل عمران الآية 128 " .
وقال النبي (ص) لقرابته : " أنقذوا أنفسكم من النار ، لا أغني عنكم من الله شيئاً " . حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بضعته ، سيدة نساء العالمين : " أنقذي نفسك من النار ، لا أغني عنك من الله شيئاً " .
وهل يجتمع في قلب عبد الإيمان إلا بما ذكرنا من الآيات والأحاديث . والإيمان بقول القائل :
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي … البيت
وقوله :
فإن من جودك الدنيا وضرتها …
والجود هو : العطاء والإفضال ، والله تعالى يقول : { وإن لنا للآخرة والأولى } " الليل الآية 13 " .
وقوله :
ومن علومك علم اللوح والقلم . ..
ومما جرى به القلم في اللوح ، فواتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله ، وغير ذلك من أمور الغيب التي اختص سبحانه بعلمها ، قال تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } " النمل الآية 65 " .
فيجوز على قوله :
ومن علومك علم اللوح والقلم …
أن يقال : لا يعلم من في السموات والأرض الغيب ، إلا الله ومحمد ، انتهى .
فنقول وبالله التوفيق :
هذا الاعتراض باطل من وجوه :
الوجه الأول : أن هذا الرجل يزعم أن قول الناظم :
إن لم يكن في معادي آخذا بيدي …
وقول المشطر :
ومنقذي من عذاب الله والألم …
أن هذا الإنقاذ بالفعل ، وأنه بغير شفاعة ، وأنه إن لم يحصل بالفعل ، فبالشفاعة ، لقول التشطير :
أو شافعاً لي مما قد جنيت غداً …
وليس كما زعم لأن الإنقاذ والأخذ باليد ، هو أيضاً بالشفاعة . لأن غير الشفاعة يكون استقلالاً من دون الله تعالى ، ولا يتصور اعتقاد هذا من مؤمن ، ولو كان بدوياً جاهلاً ، والمراد تنوع الشفاعة .
فالنوع الأول منها هو : الأخذ باليد والإنقاذ . وقد روى هذا في الأحاديث الصحيحة التي اتفق عليها " البخاري " و " مسلم " .
ففي حديث الشفاعة : " فأقول : يا رب ، أمتي أمتي . فيقال : انطلق فأخرج من في قلبه مثقال ذرة من خير . فأنطلق فأفعل ، فأقول : يا رب أمتي أمتي . فيقال : انطلق فأخرج من في قلبه أدنى أدنى مثقال حبةٍ من خردل من إيمان . فأنطلق فأخرجه من النار " .
وكذلك ورد في حديث " الصحيحين " : أن المؤمنين يناشدون الله في إخوانهم ، فيقال : أخرجوا من عرفتم ، فيخرجون خلقاً كثيراً . ثم يقال : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير ، أو أدنى مثقال ذرة .
وثبت ذلك في هذه الأحاديث الصحيحة ، فما المانع من إطلاق اللفظ ؟ وهل هذا الإخراج إلا الإنقاذ من العذاب ؟
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الميعاد – وهو يوم القيامة – حي كحاله في الدنيا هو وجميع الخلائق ، فلا مانع في ذلك اليوم أن يتسبب ويخرج وينقذ من الشدة ، لأنه حي حاضر.
وعند هذا الرجل وأشياعه ، أن الحي الحاضر له قدرة بنفسه .
قال ابن عبد الوهاب في " كشف الشبهات " في جواب الحديث الصحيح : إن الناس يوم القيامة يستعينون بآدم ، ثم بإبراهيم ، ثم بموسى ، ثم بعيسى حتى ينتهون إلى رسول الله (ص) فيقول (ص) : " أنا لها ، أنا لها " .
فأجاب عن هذا : ( بأن الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه ، لا ننكرها ، كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام : {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } "القصص الآية 15 " كما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب ، أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق ) . انتهى .
فإذا كان الحي الحاضر عند هؤلاء الناس ينسبون له الفعل لأنه يقدر عليه عندهم ، وصاحب " البردة" يخبر أنه إن لم يكن النبي (ص) (في معادي ) وهو يوم القيامة ( آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم ) والنبي (ص) وجميع الخلائق ذلك اليوم أحياء حاضرون لهم قدرة فيما يقدرون عليه في الأمور العادية الحسية ، ونسبة الأفعال إلى فاعلها وأسبابها ، جائزة شرعاً وعرفاً .
وذكر هذا الرجل أيضاً في تسويده الذي كفر به المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين ، قال : " والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في : قتال ، وإدراك عدو ، أو سبع ونحوه.
كقولهم : يا لزيد ، يالقومي ، ياللمسلمين . كما ذكروا ذلك في كتب النحو ، بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل " انتهى .
فكيف ينكر إنقاذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمته من العذاب بالفعل ، ويجعله ممتنعاً ، وأنه خلاف الشفاعة ، مع أن النبي (ص) يومئذٍ حي ، حاضر ، له قدرة فيما يقدر عليه ذلك اليوم ، ويقدر على ذلك كما هو في حال حياة الدنيا .
كما كان يرمي العدو وهو ألوف بكف تراب ، فيعميهم . ويروى الألوف العطاش ويشبعهم بقليل من الماء والطعام بطريق التسبب .
قال الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم : ( كنا في الحروب نتترس برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) يعني : أنهم يجعلونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كالترس ، وهي : الدرقة ، يتوقون به العدو .
وفي الحديث الصحيح : " إنكم تتهافتون على النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم لئلا تقعوا فيها ".
وأعظم من هذا ، أن الله نسب إخراج الكفار من النور إلى الظلمات إلى الطاغوت ، وهي الأصنام ، مع أنها لا قدرة لها بوجه ، لكن لما كانت سبباً للإخراج ، نسب الإخراج إليها .
وكذلك هنا ، لما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبب الإنقاذ من العذاب ، نسب إليه الإنقاذ.
وفي : " الصحيحين " وغيرهما في حديث الاستسقاء من دعائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً " ، قال شراح الحديث والفقهاء من كل مذهب ، كما في "شرح الإقناع " ، و " المنتهى " ، و" الزاد " وغيرها : إن معنى "مغيثاً" : منقذاً من الشدة مع أن الغيث جماد لا قدرة له . ولكنه لما كان سبب الإنقاذ والإغاثة ، نسب الإغاثة والإنقاذ إليه .
وقد اشتهر عند العلماء قول العرب : أنبت الربيع البقل ، و : منع البقاء تقلب الشمس . مع أن المنبت في الحقيقة ، هو الله . والمانع للبقاء هو الله .
وهذا يسمونه : المجاز العقلي ، وأمثاله في كثير من الكتاب والسنة .
وقد قال تعالى : { فوكزه موسى فقضى عليه } " القصص الآية 15 " ، مع أن القضاء من الله . وقال الله في حقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } " الأعراف الآية 157 " ، مع أن الواضع هو الله تعالى ، لكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما كان سبباً ، نسب الفعل إليه ، بل جميع الأفعال تنسب إلى من فعلها .
فيقال : فلان أعطى ، وفلان نفعني ، ضربني فلان ، أنقذني وأغاثني . وهذه الإطلاقات جائزة بالاتفاق للأحياء الحاضرين المباشرين ، ويلزم على قول هذا الرجل ، أن لا تنسب هذه الأفعال وغيرها إلى أحد ممن باشرها ، ولا قائل به . لأنه حينئذٍ ينسد باب نسبة الأفعال إلى فاعلها ، ولا يقول بذلك عاقل . بل ورد نسبة الإنقاذ من النار إلى المعاني من الأعمال ، لأنها أسباب ، والمنقذ في الحقيقة ، هو الله تعالى .
فقد ورد في حديث صحيح : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " رأيت رجلاً قد عذب في قبره فجاءت صلاته فأنقذته من العذاب " .
والآخر ، حجه أنقذه . والآخر ، صيامه . فإذا جاز نسبة الإنقاذ إلى المعاني لكونها أسباباً ، فنسبتها إلى الذوات من باب أولى ، خصوصاً أشرف الذوات من المخلوقات .
أما قوله :
أو شافعاً لي مما قد جنيت غداً …
فمراده : إخبار عن نوع آخر من الشفاعة ، وهو كونه شافعاً لي باستغفاره ، أو بدعائه لا بفعله ، فيشفع لي شفاعة ثانية مما جنيت من الذنوب ، فلا يؤاخذني الله تعالى بها ، فلا أرى العذاب بالكلية ، أو يزيد في درجاتي .
فقد ذكر النووي في : " شرح مسلم " عن : شرح القاضي عياض : أن الشفاعة خمسة أقسام :
أولها : مختصة بنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهي الإراحة من هذا الموقف ، وتعجيل الحساب .
الثانية : في إدخال قوم الجنة بغير حساب ، وهي أيضاً – وردت لنبينا ( ص) .
الثالثة : الشفاعة لقوم استوجبوا النار ، فيشفع نبينا ( ص ) ، ومن شاء الله تعالى .
الرابعة : الشفاعة فيمن دخل النار من المذنبين . وقد جاءت هذه الأحاديث – يعني التي في : " صحيح مسلم " – بإخراجهم من النار ، بشفاعة نبينا (ص) ، والملائكة ، وإخوانهم من المؤمنين .
الخامسة : الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها ، انتهى .
الوجه الثالث : يجوز أن يكون المراد بقوله :
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي
ومنقذي من عذاب الله والألم
الإنقاذ من هول الموقف ، لأنه أشد ما يكون من العذاب ، حتى إن الناس يستغيثون بالأنبياء إلى أن ينتهوا إلى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيخلصهم من هذه الشدة التي يتمنى الناس الخلاص منها ولو يؤمر بهم إلى النار ، لما يرون من الأهوال ، كما ورد في الأحاديث .
ولا شك أن هذا إنقاذ من عذاب الله والألم ، ولا يختص عذاب الله بالنار .
ثم يشفع صلى الله عليه وعلى آله وسلم شفاعة أخرى خاصة بأمته : إما بغفران ذنوبهم ، أو برفع درجاتهم في الجنة ، أو إدخالهم فيها بغير حساب .
الوجه الرابع : أن المؤمن إذا تكلم بكلام ، فإيمانه قرينة على أنه لم يرد المعنى الضار في اعتقاده ، لا يعتقد ذلك ، لاسيما قرائن كلامه .
وهذا العالم الناظم يقول في قصيدته – بعد كم بيت - :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فمن هذا يعلم : أنّ صاحب " البردة " في قوله :
إن لم يكن في معادي آخذاً بيد …..
مراده من حيث الشفاعة ، لا استقلال ، لأن كل مؤمن لا يعتقد هذا ، وإن أطلقه ولم يقيده بالشفاعة ، لأن المراد بها .
الوجه الخامس : أن هذا الرجل ينكر نسبة الإنقاذ من النار بالفعل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لأنه غير الله . ويقول : إن الله نفي الإنقاذ عنه بقوله : { أفأنت تنقذ من في النار } " الزمر الآية 19 " ، وهو يذكر الأحاديث الصحيحة التي فيها نسبة الإنقاذ من النار إلى قريش ، ولا يدري أنها رادة عليه مدعاه الذي يدعيه .
إذ يقال : كيف نفى الله الإنقاذ عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأثبته لأقاربه من قريش في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة : أنقذي نفسك من النار … " ؟! فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نسب الإنقاذ من النار لهم .
فإن قلت : إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أراد أنكم تسببوا في إنقاذ أنفسكم بالإسلام .
قلنا : وكذلك إطلاق كلامنا ، كإطلاق كلامه ، مرادنا بقولنا :
ومنقذي من عذاب الله والألم …
أي متسبباً في إنقاذي ، أو منقذي بفعله ، بأمر الله تعالى ، كما تقدم في الأحاديث .
وقولي ثانياً :
أو شافعاً لي مما قد جنيت …
فهذه شفاعة أخرى غير شفاعة الإنقاذ ، بل استغفار للذنب . قال تعالى :{ واستغفر لذنبك وللمؤمنين} " محمد الآية 19 " ، وقال تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } " النساء الآية 64 " .
فالأولى شفاعة فعلية ، بأن يخرجه من العذاب بعد وقوعه فيه ، والثانية شفاعة قولية بأن يحال بين المذنب وبين المؤاخذة . وهذا ظاهر .
الوجه السادس : من وجوه بطلان اعتراض هذا الرجل - : أنه استدل بآيات القرآن على مدعاه أن الإنقاذ لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله تعالى : { أفأنت تنقذ من في النار } " الزمر الآية 19 " ، وأن هذا استفهام إنكار ، يعني : أنت لا تنقذ من في النار .
فانظروا يا أمة الدين إلى هذا الذي يدعي الاجتهاد ، وأنه مذهب يأخذ من الكتاب والسنة وهو لا يعرف معنى الكتاب ولا السنة ؟!! .
فنقول له : هل فهم النبي (ص) الإطلاق كما فهمت ، وأنه لا ينقذ مطلقاً حتى لا ينسب الإنقاذ إليه ؟ ، فإن قال : فهم النبي (ص) الإطلاق ، نقول له : فكيف يخبر في أحاديث الشفاعة أن ينطلق فيخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من خير ! . وكيف يجوز أن يقول لربه : " أمتي ، أمتي " ، وهو منزل : أنت لا تنقذ من في النار ؟ وكيف جاز له صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقول لأقاربه : " أنقذوا أنفسكم من النار " ؟
فإذا كان هو لا ينقذ ، كيف يكون غيره منقذاً وهو كافر ، وليس له قرب من الله كقربه ولا وسيلة كوسيلته ؟
وإن كان ما فهم النبي (ص) الإطلاق ، بل فهم التخصيص بقوم معينين حكم الله بعلمه الأزلي ببقائهم على الكفر ، وأنهم لا يؤمنون ، كما قال الله تعالى : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } " البقرة الآية 6 " ، وكما قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } " يونس 96 – 97 " .
قال البغوي رحمه الله في قوله تعالى : { أفأنت تنقذ من في النار } عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : نزلت في أبي لهب وولده .
فمعنى : { أفأنت تنقذ من في النار } يعني : أفأنت تهديهم إلى الإسلام وهم ممن كتب عليهم الشقاوة والكفر الأبدي ؟
وأول الآية دل على ذلك .
قال الله تعالى : { أفمن حق عليه كلمة العذاب } " الزمر الآية 19 " ، وكلمة العذاب قيل : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } " هود الآية 119 " ، وقيل : قوله : " هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهؤلاء في الجنة ولا أبالي " .
فإذا كانت الآية نازلة في مخصوصين من الكفار ، كيف يجوز أن يستدل بها على عدم إنقاذ النبي (ص) أمته المؤمنين من النار ؟ وهو (ص) قد أثبت لنفسه وللمؤمنين إخراج عصاة أمته من النار !
فمن هذا يتبين : أن كل من هداه النبي (ص) إلى الإسلام ، أو اهتدى به إلى يوم القيامة ، فقد أنقذه من النار ، وهو الذي لم تحق عليه كلمة العذاب .
والدليل عليه : قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقرابته : " انقذزوا أنفسكم من النار " أي : أسلموا وآمنوا ، وقد أطبق المفسرون أن آية : { أفأنت تنقذ من في النار } نازلة في هداية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبعض من حكم الله عليهم بعدم إيمانهم ، وإلا فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين نزلت الآية عليه وهو حي حاضر قادر على إيقاع الفعل – كما هو قول هذا الرجل وأشياعه – وليس مراد الله بالآية أن النبي (ص) ينقذ بعض من في النار في الآخرة بل مراده في الدنيا من جهة الهداية .
وفي " السيرة " عن ابن إسحاق بسنده إلى حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه شاعر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قصيدة يرثيه بها بعد موته :
يدل على الرحمن من يقتدي به وينقذ من هول الخزايا ويرشد
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله فمن عنده تيسير ما يتشدد
فقد وصف حسان رضي الله تعالى عنه وهو صحابي جليل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه ينقذ من هول الخزايا ، وأن ذلك بسبب دلالته وهدايته من يقتدي به ويتبعه .
وأما استدلاله بقوله تعالى عن صاحب يس : { إن يردن الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } ، فانظروا هل يصدر هذا من مجنون ؟! فإن هذه الآية نازلة في الأصنام التي اتخذها الكفار آلهة وأرباباً من دون الله تعالى .
قال تعالى : { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضرٍ } الآية .
قال المفسرون ومنهم البغوي رحمه الله تعالى : أي لا شفاعة لها فتغني .
فالأصنام لا تعد من أهل الشفاعة ، حتى تقاس بصاحب الشفاعة (ص) .
فما هذه البشاعة والشناعة يا عظيم الصقاعة ، فهل يستدل من له أدنى تمييز على عدم شفاعة النبي (ص) وإنقاذه لأمته بمثل هذا الدليل الباطل العاطل الذي يساوي فيه الأصنام بسيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام بعد ما أخبر تعالى نيبه (ص) بقوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } " الضحى الآية 5 " ، وبقوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } " الإسراء الآية 79 " وهي مقام الشفاعة ؟! .
وأخبر النبي (ص) في الأحاديث الصحيحة التي بلغت مبلغ التواتر ، أنه الشافع المشفع في أمته ، وفي غيرهم ، كما في الشفاعة العظمى وعموم الشفاعة في الآيات القرآنية ، حتى أجمع عليها أهل السنة والجماعة ، ولا ينكر بعض الشفاعة إلا الخوارج والمعتزلة .
وظاهر كلام هذا الرجل ، إنكار الشفاعة بالكلية ، لقوله ، وهذا نصٌ في أنّ من أراده الله بضر فلا منقذ له ولا شفيع .
ومعلوم أن من استوجب العذاب من المسلمين ، أدخل فيه ، وشفع فيه الأنبياء والملائكة ، أو المؤمنون ، لا شك أن الله أراده بضرٍ ، ونفعته شفاعة الشافعين .
قال البغوي رحمه الله تعالى في قوله تعالى : { قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين } " المدثر الآيات 43 – 48 " .
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : " يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون ، وجميع المؤمنين ، فلا يبقى في النار إلا أربعة " . ثم تلا قوله تعالى : { قالوا لم نك من المصلين } إلى قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } .
وقال عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه : " الشفاعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون " .
وساق البغوي رحمه الله تعالى بسنده إلى أنس رضي الله تعالى عنه قال : " قال رسول الله (ص) يصف أهل النار : " فيعذبون ، قال : فيمر الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم : يا فلان ، فيقول : ماذا تريد ؟ فيقول : أما تذكر رجلاً سقاك يوم كذا وكذا ؟ قال : وإنك لأنت هو ؟ فيقول : نعم ، فيشفع له " . الحديث " . انتهى كلام البغوي .
فكيف يجوز لمسلم إنكار الشفاعة ، وهو يدعي أنه من أهل السنة والجماعة ويستدل عليه بآية الأصنام المتخذة أرباباً ؟! .
قال النووي رحمه الله تعالى في " شرح صحيح مسلم " : " قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : مذهب أهل السنة ، جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها سمعاً بصريح الآيات والآثار التي بلغت مجموعها حد التواتر ،بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين . وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها ، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المؤمنين في النار ، واحتجوا بقوله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } ، وبقول الله تعالى : { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } " غافر الآية 18 " ، وهذه الآيات في الكفار .
وأما تأويلهم الأحاديث بكونها في زيادة الدرجات ، فباطل ، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره ، صريحة في بطلان مذاهبهم ، وإخراج من استوجب النار " . انتهى .
أقول : ولم يختلف أحد من أهل السنة عن هذا ، كما في جميع كتبهم ، والله تعالى أعلم .
وأم استدلاله بقوله تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } الآية " الانفطار الآية 19 " ، ففي النفس الكافرة ، فإنها لا شفاعة لها .
قال البغوي رحمه الله تعالى : لا تملك نفس لنفس كافرة شيئاً ، وليس كلامنا في الكافر ، بل كلامنا في شفاعة النبي ( ص ) في أمته . كيف وقد قال الله تعالى في حقه : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } " الأنبياء الآية 107 " فلعموم الناس الرحمة في الدنيا برفع العذاب والمسخ والخسف ، وفي الآخرة الشفاعة العظمى من هول الموقف ، ولخصوص أمته في الدنيا بهدايتهم به ، وفي الآخرة بشفاعته بأنواعها الخمسة المتقدمة .
وأما استدلاله بقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } " آل عمران الآية 128 " .
فيقال : هذه الآية نازلة في أناس من الكفار ، كانوا آذوا النبي (ص) فدعا عليهم بالهلاك ، وكان علم الله فيهم من يؤمن فقال : { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم } ، فهذه الآية في ناس مخصوصين ، ونحن كلامنا في نفع النبي (ص) أمته بالشفاعة ، فقد أخبره الله تعالى بقوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } . وأنزل له جبريل عليه السلام ، يقول الله تعالى : " إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " ، ولم يقل الله تعالى هنا : ليس لك من الأمر شيء .
وأما استدلاله بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقرابته وبضعته : { لا أغني عنكم من الله شيئاً " .
فمعناه : إذا لم تؤمنوا بالله وبرسوله ، لا أغني عنكم من الله تعالى . بدليل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أنقذوا أنفسكم من النار " يعني : بالإسلام .
وهذا قاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما نزل عليه : { وأنذر عشيرتك الأقربين } " الشعراء الآية 214 " كما في البخاري و " تفسير البغوي " . والنذارة للأقربين ، إنما هي دعاؤهم إلى الإسلام ، بدليل آخر الآية ، وهي قوله تعالى : { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } " الشعراء الآية 216 " .
قال البغوي : من الكفر وعبادة غير الله .
وبدليل ما في " البخاري " أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صعد على الصفا ، فهتف بقبائل قريش قبيلة قبيلة ، وقال لهم : " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فنفروا وضحكوا منه ، وقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا جمعتنا ؟ فلم يقبلوا منه النذارة ، وأنزل الله تعالى فيه : { تبت يدا أبي لهب وتب } إلى آخر السورة .
وفي " السيرة الحلبية " في ذكر : { وأنذر عشيرتك الأقربين } قال : " وفي رواية الصحيحين " أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعا قريشاً فاجتمعوا ، فعم وخص ، وقال : " يا بني كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني مرة ، أنقذوا أنفسكم من النار " إلى آخر القبائل ، ثم قال : " فإني لا أملك من الدنيا منفعة ، ولا من الآخرة نصيباً إلاأن تقولوا : لا إله إلا الله ، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها " أي : أصلها بالدعاء ". انتهى
فدل على أن مقصوده بقوله : " لا أغني عنكم من الله شيئاً " ، إن لم تقولوا : لا إله إلا الله وتؤمنوا . ومعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يغني عن الكفار شيئاً ، وأما بعد الإيمان فهو يغني بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم من الآيات والأحاديث والإجماع ، وكيف لا يغني النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قرابته وبضعته من الله شيئاً ، وقد أنزل الله في حق أهله وبضعته وآله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } " الأحزاب الآية 33 " ، فهل هذا إلا لأجله صلى الله عليه وآله وسلم وكرامته على ربه ؟ ، خص آله بعد الإيمان بما لم يخص به أحد من أمته ، أو كيف يقال : لا يغني عنهم شيئاً ؟ وهو صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت عليه هذه الآيه ، جمعهم وجللهم بكسائه وقال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ".
فهل هذا إغناء وفائدة لهم ، أم لا ؟ لا ، بل هو يغني كل من آمن به .
قال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } الأحزاب الآية 6 " .
ففي " البخاري " عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرأوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } " ، الحديث ذكره البغوي .
أما اعتراض هذا المعترض على قوله :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ….
فإنه هذيان محموم ، أو همهمة ملجوم ، ولا سيما استدلاله بقوله تعالى : { وإن لنا للآخرة والأولى } .
فيقال له : ومن قال لك : إن الآخرة والأولى لغير الله ؟ ، أفلا يجوز أن الله يعطي الدنيا لأحد وهو يجود بها ، أو منها ؟ ، أوليس كل الوجود لله وقد ملكه الله لعباده ، وهل إذا جادوا به ، يخرج عن كونه مال الله ؟ ! .
فما هذا الاعتراض الفاسد ، والعقل الكاسد ؟! وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقت لأجله صلى الله عليه وآله وسلم ، وورد في " البخاري " : أنه صلى الله عليه و على آله وسلم أكرم من الريح المرسلة ، فما يضر لو أكرم بمال ربه ، وهو حبيبه الأعظم ، مع أن البيت مقول على الفرض والتقدير .
وأما اعتراضه على قوله :
ومن علومك علم اللوح والقلم …
فقد قال الشراح : المراد باللوح : ما يكتب الناس عليه ، وبالقلم : ما يكتبون به . فكأنه قال : ومن علومك ، علم الناس الذي يكتبونه بأقلامهم في ألواحهم . وعلى هذا ، فلا ورود للاعتراض .
قالوا : ويحتمل أن المراد به : اللوح المحفوظ ، ولا يلزم على هذا الاعتراض الذي قاله هذا الرجل ، لأن مراده : علم اللوح غير الفواتح الخمس ، وما استأثر الله بعلمه ، لأن هذا معلوم من القرائن .
على أن قوله : علم اللوح ، الإضافة جنسية ، أي بعض علمٍ في اللوح . والجنس يصدق على بعض الأفراد .
ولا شك أن شريعته صلى الله عليه و على آله وسلم لا سيما القرآن المنزل عليه وما فيه من العلوم ، وما آتاه الله من الوحي ، قال تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاوحي يوحى } " النجم الآية 3 – 4 " ، وما أطلعه الله عليه من المغيبات ، كل هذا من علم اللوح ، بل ولو لم نقل بهذا ، لا يلزم هذا الاعتراض ، لأن فواتح الغيب الخمس لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ ، بل هي في أم الكتاب ، وهي غير اللوح .
قال البغوي رحمه الله تعالى : وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " وهما كتابان سوى أم الكتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت فيهما ، أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء " .
وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " إنّ لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمس مئة عام من درة بيضاء ، ولها دفتان من ياقوت ، لله فيه كل يوم ثلاث مئة وستون لحظة ، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " .
فتبين من هذا : أن أم الكتاب غير اللوح ، بل هي أصل اللوح ، وقد يكون الخمس مما لم يكتب في لوح وفي غامض علمه مما استأثر الله تعالى بعلمه ، فلم يكتبها في لوح .
وأما قول هذا الرجل : فيلزم أن يقال : قل : لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ومحمد . فليس هذا الاستدلال في محله ، لأن صاحب البردة لم يدع ولم يقل : إن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم يعلم جميع ما يعلم الله ، إذ هذا محال ، لأن لله علوماً استأثر الله بها واختص ، لا يشاركه فيها غيره بل قررنا أن علم اللوح والقلم بعض مواضع علم الله تعالى ، غير ما هو في مكنون غيبه .
وهو أثبت للنبي صلى الله عليه و على آله وسلم علم اللوح والقلم ومراده بتعليم الله له ، والمنفي عن غيره تعالى في الآية إنما هو الاستقلال ، الإحاطة بكل شيء ، بناءً على أن المراد ( بأل ) في الغيب ، الاستغراق ، ولا يلزم من إثبات بعض علم الغيب للنبي صلى الله عليه و على آله وسلم بتعليم الله له أن يقال : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } " النمل : الآية 65 " ومحمد صلى الله عليه و على آله وسلم ، بناءً على ما قررنا من أن المراد بالغيب في الآية ، الاستقلال والإحاطة بكل شيء ، فهذا خاص لله تعالى .
أما الغيب الذي لا يكون بهاتين الصفتين ، فيجوز أن يكون لغيره تعالى ، لأن الله تعالى أثبت ذلك لرسله ، وبعض غيرهم من خلص عباده لا استقلالاً ، فإن هذا كفر ، بل بطريق إطلاعه لهم وتعليمه إياهم .
قال تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } " البقرة : الآية 255 " .
وقال تعالى : { فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسولٍ } " الجن الآية 26 – 27 " .
وقال تعالى : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } " آل عمران الآية 179 " .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " فيطلع رسله على غيبه ، وإن محمداً صلى الله عليه و على آله وسلم أفضلهم " .
وقال تعالى في حق الخضر عليه السلام : { وعلمناه من لدنا علماً } " الكهف الآية 65 " .
قال البيضاوي رحمه الله تعالى : أي علم الغيب ، أي بدليل المسائل التي فعلها الخضر ، من : خرقه السفينة ، وقتله النفس الزكية ، وإقامة الجدار ، وكل هذه الأمور مغيبات .
وقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " رحم الله موسى ، لو صبر لرأى العجب " ، يعني : من فعل الخضر عليه السلام للمغيبات التي علمها الله له من لدنه ، فما المانع أن يكون من علوم رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم علم اللوح والقلم ، بإطلاع الله له عليه ؟
وقد ورد في الحديث الصحيح ، قال رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم : " رأيت ربي في المنام في صورة شاب له وفرة ، فقال : يا محمد ! بم يختصم الملأ الأعلى ؟ "
فقلت : لا أدري ، فوضع كفه بين كتفي ، فوجدت بردها بين ثديي . فعلمت ما في السموات والأرض وتلا { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } الحديث .
رواه الترمذي والدارمي .
وفي رواية : " فتجلى لي كل شيء وعرفت " ، رواها : أحمد والترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وسألت محمد بن إسماعيل – يعني البخاري – عن هذا الحديث فقال ، هذا حديث صحيح . ذكره التبريزي في " مشكاة المصابيح " :
قال الكيبي رحمه الله تعالى في " حاشية المشكاة " : " والمعنى : أنه كما أرى إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ملكوت السموات والأرض ، وكشف له ذلك ، كذلك فتح علي أبواب الغيوب حتى علمت ما فيها من الذوات والصفات ، والظواهر والمغيبات " . انتهى .
وقد ورد في أحاديث " الصحيحين " إخبار النبي صلى الله عليه و على آله وسلم عن المغيبات .
وذكر البغوي رحمه الله تعالى وغيره في تفسير قوله تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } " آل عمران الآية 179 " . أن سبب نزول هذه الآية : أن ناقة للنبي صلى الله عليه و على آله وسلم ضلت في بعض أسفاره ، فقال بعض المنافقين : إن محمد يزعم أنه سيفتح لأمته من بعده قصور كسرى وقيصر ، وهو لا يدري أين ناقته .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و على آله وسلم ، فقال : " إنها في مكان كذا ، بأرض كذا ، قد تشكل خطامها بشجرة " .
فذهبوا ، فوجدوها كما قال صلى الله عليه و على آله وسلم ، ثم غضب صلى الله عليه و على آله وسلم على المنافقين فقال : " ما بال أقوام يطعنون في علمي ؟ فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلا أخبرتكم به " .
فقام رجل كان يدعى إلى غير أبيه فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : "أبوك حذافة " . وقام رجل فقال : يارسول الله ، أين أبي ؟ فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " في النار " .
فجثا عمر رضي الله تعالى عنه على ركبتيه فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمداً نبياً . يا رسول الله اعف عنا ، فسكن غضبه – أو كما قال .
فقوله صلى الله عليه و على آله وسلم : " ما بال أقوام يطعنون في علمي " يعني : في علم الغيب الذي أطلعني الله تعالى عليه ، لأن الكلام فيه ، لا في غيره .
ويدل عليه : أن الرجلين إنما سألا عن أمر مغيب .
وفي الأحاديث الصحيحة ، كحديث البخاري وغيره من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه : عن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم أخبرنا عن كل ما يقع إلى يوم القيامة، حتى أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، حتى إنا لنرى الطائر يقلب جناحيه ، فنذكر منه علماً .
والأحاديث في هذا كثيرة ، ذكرها القاضي عياض في " الشفاء " .
فظهر من طعن في علمه صلى الله عليه و على آله وسلم بالمغيبات ، فهو منافق .
وقال صاحب " الإقناع " في المتن في ( باب النكاح ) في عد خصائصه صلى الله عليه و على آله وسلم وكراماته ، ما نصه : " وعرض عليه الخلق كلهم من آدم إلى من بعده ، كما علم آدم أسماء كل شيء " .
قال شارحه البهوتي رحمه الله تعالى : لحديث الديلمي : " مثلت لي الدنيا بالماء والطين ، وعلمت الأشياء كلها ، كما علم آدم الأسماء كلها " . وعرض عليه أمته بأسرها حتى رآهم ، لحديث الطبراني : " إني عرض علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة ، أولها وآخرها ، صوروا لي بالماء والطين حتى إني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه " .
وعرض عليه ما هو كائن في أمته حتى تقوم الساعة ، لحديث أحمد وغيره : " رأيت ما تلقى أمتي بعدي ، وسفك بعضهم دماء بعض " انتهى .
فإذا تحقق هذا ، تبين أن قول هذا الرجل جهل صرف ، وصرف للأشياء عن حقائقها بغير عرف .
وهذا الذي قررناه ، بناءً على أن الله تعالى يطلع أنبياءه وبعض أتباعهم على الغيب ، غير الخمس .
والذي نقله جماعة من أهل العلم : أنه لا مانع أن الله يعلم ويطلع نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم وغيره من المقربين ، حتى على الخمس .
فهاك نقول ما أطلعنا على نقله في حال العجلة :
قال النووي رحمه الله تعالى في " فتاويه " :
مسألة : ما معنى قوله تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ، وقول النبي صلى الله عليه و على آله وسلم : " لا يعلم ما في غدٍ ، إلا الله " وأشباه هذا من القرآن والحديث ، مع أنه قد وقع علم ما في غدٍ في معجزات الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وكرامات الأولياء رضي الله تعالى عنهم ؟
الجواب : معناه : لا يعلم ذلك استقلالاً ، انتهى . يعني : بتعليم الله لغيره جائز ، لأنه لا يكون استقلالاً حينئذ .
وقال الشيخ علي القاري الحنفي رحمه الله تعالى في شرح المشكاة : " فإن قلت : ما التوفيق بين الآية – يعني قوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } الآية – وبين ما اشتهر عن العرفاء من الأخبار الغيبية ، كما قال الشيخ الكبير أبو عبد الله في " معتقده" : " ونعتقد أن العبد ينقل في الأحوال حتى يصير إلى نعت الروحانية ، فيعلم الغيب ، وتطوى له الأرض ، ويمشي على الماء ، ويغيب عن الأبصار " ؟
فالجواب : أن للغيب مبادئ ولواحق ، فمبادئه لا يطلع عليه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، أما اللواحق فهو ما أظهر الله عليه بعض أحبائه لوحة علمه ، وخرج بذلك عن الغيب المطلق ، وصار غيباً إضافياً وذلك إذا تنور الروح القدسية ، وازداد نوريتها وإشراقها ، والمواظبة على العلم والعمل ، وفيضان الأنوار الإلهية ، حتى يقوى النور وينبسط في فضاء قلبه ، فتنعكس فيه النقوش المرتسمة في اللوح المحفوظ ،ويطلع على المغيبات ، ويتصرف في أجسام العالم السفلى بل يتجلى الفياض الأقدس بمعرفة التي هي من أشرف العطايا ، فكيف بغيرها " . انتهى .
وقال في الشرح المذكور في قوله صلى الله عليه و على آله وسلم : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله " أي : لا يعلم تفصيله إلا هو ، ولا يعلم مجمله بحسب خرق العادة ، إلا من قبل الله تعالى .
وقال رحمه الله تعالى في شرح قوله صلى الله عليه و على آله وسلم : " في خمس لا يعلمهن إلا الله " : فإن قلت : قد أخبر الأنبياء والأولياء بكثيرمن ذلك ، فكيف الحصر ؟
قلت : الحصر باعتبار كلياتها دون جزئياتها قال تعالى : { فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول } " . إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .
قال المناوي رحمه الله تعالى في " شرح الجامع الصغير " – الكبير – في تفسير قوله صلى الله عليه و على آله وسلم : " مفاتيخ الغيب خمس " : وأما قوله تعالى : { لا يعلمها إلا هو } ، ففسر بأنه لا يعلمها أحد بذاته ، ومن ذاته ، إلا هو . وقد تعالم بإعلام الله تعالى ، فإن ثمة ما يعلمها .
وقد وجدنا ذلك لغير واحد ، كما رأينا جماعة علموا متى يموتون ، وعلموا ما في الأرحام حال حمل المرأة ، بل وقبله .
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى في " الشفاء " : ومن ذلك – أي من خصائصه صلى الله عليه و على آله وسلم وكراماته الباهرة – ما اطلع عليه من المغيبات ، مما كان ويكون . والأحاديث في هذا الباب لا يدرك قعره ، ولا ينزف غمره ، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل إلينا خبرها على التواتر ، لكثرة رواتها ، واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب . ثم ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة .
قال الشهاب الخفاجي في " شرحه " : " وهذا لا ينافي الآيات الدالة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله . فإن المنفي علمه من غير واسطة ، وأما اطلاعه عليه بإعلام الله له ، فأمر متحقق لقوله تعالى : { فلا يظهر على غيبه أحداُ * إلا من ارتضى من رسول } انتهى .
وقال الحافظ الحجة ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى في " شرح مختصر البخاري ": في قوله صلى الله عليه و على آله وسلم : " ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا ، حتى الجنة والنار . فأوحى إلي : إنكم تفتنون في قبوركم " .
قال رحمه الله تعالى : الوجه الثالث : قوله عليه وآله الصلاة والسلام : " " ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا "، فيه دليل على أنه صلى الله عليه و على آله وسلم لم يكن يرى من الغيب جميعه في الزمان المتقدم على هذا الموطن ، إلا البعض ، وأنه في هذا الموطن ، تكملت له الروؤية لتلك الأشياء كلها.
ثم قال : وهل المراد جميع الغيوب ، أو المراد به ما يحتاج به الإخبار إلى أمته ، وما يخصه صلى الله عليه و على آله وسلم في ذاته المكرمة ؟ .
والجواب : إن هذا الحديث محتمل للوجهين معاً ، والظاهر منهما الوجه الأخير .
وقال العلامة الأجهوري رحمه الله تعالى في " شرح مختصر البخاري " " قوله صلى الله عليه و على آله وسلم : " ما من شيء لم أكن أريته " إلى آخره ، يفيد أنه علم الخمس الذي استأثر الله بعلمها وإن فسرت الرؤية في الحديث بالعلمية . وانظر هل علم نزول الغيث وما بعده مختص بزمانه صلى الله عليه و على آله وسلم ، أو به وبما بعده إلى يوم القيامة " . انتهى .
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة } إلخ : { وأما الباقيات – يعني غير الساعة – فيعلمها { فالمدبرات أمراً} ملك الأمطار ، وملك الأرواح ، وملك الموت .
فإن قلت : جاء في الحديث " في خمس لا يعلمهن إلا الله " ، وفسرها بما في الآية !
قلت : القصر إضافي لا حقيقي ، والمراد : نفي علم من يدعيه من المنجمين ، والأطباء " ، انتهى .
وذكر ابن رجب في " شرح الأربعين النووية " : " إن الملك الموكل بالرحم يقول : أي رب ، مخلقة أو غير مخلقة ؟
فإن كانت مخلقة ، قال : ذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ ما الأجل ؟ ما الأثر ؟ وبأي أرض تموت ؟ فيقال : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة " . انتهى .
فهذا يدل على أن الله يطلع بعض خلقه على شيء من الخمس ، وهو الملك ، والنبي صلى الله عليه و على آله وسلم أولى ، لأنه منصوص عليه في قوله تعالى : { فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول } ، وقد قال تعالى في حق عيسى عليه السلام : {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } " آل عمران الآية 49 " ، وقال تعالى في حق يوسف عليه السلام : { لا يأتيكم طعام ترزقانه إلانبأتكم بتأويله قبل أن يأتيكم ذلكما مما علمني ربي } " يوسف الآية 37 " .
وغير ذلك من الآيات والأحاديث ، وكان الواجب على من لم يطلع أن يسأل أهل الذكر ، ولا يعترض على أهل العلم ، والله تعالى أعلم .
وقال العلامة المدابغي رحمه الله تعالى في " حاشيته " على " شرح الأربعين " لابن حجر : " والحق كما قال جمع : إن الله لم يقبض نبينا عليه وآله الصلاة والسلام حتى أطلعه على كل ما أبهمه عنه ، إلا أنه أمره بكتم بعض وإعلام ببعض " . انتهى .
وقال السبكي رحمه الله تعالى في " معيد النعم " : ومن حقهم – يعني الأولياء – الوقوف في إظهار ما يطلعهم الله عليه من المغيبات ، ويخصهم به من الكرامات على الإذن ، وهم لا يجيزون إظهارها بلا فائدة ، ولا يظهرونها إلا عن إذن لفائدة دينية . كما قال أبو بكر الصديق لعائشة رضي الله عنهما : إنما أخواك وأختاك ، فاقتسموه على كتاب الله .
قالت عائشة رضي الله عنها : إنما هي أسماء ، فمن الأخرى ؟
فقال أبو بكر رضي الله عنه : ذو بطن بنت خارجة ، أراها جارية .
فقد أخبر أن ما في بطن زوجته أنثى ، وهي من جملة ما في الأرحام التي لم يطلع عليه إلا الله تعالى ، ولكن الله تعالى أطلعه عليه إذ ذاك ، فعلمه من علم الله تعالى .
وذكر ابن تيمية في " الفرقان " معنى قول سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه : " اقتربوا من أفواه المطيعين ، فإنهم تنجلي لهم أمور صادقة " – يعني : علم المكاشفة - .
وقال في مكان آخر من " الفرقان " : " وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم ، كالمكاشفات ، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك ، كالتصرفات الخارقة للعادة ، وجميع ما يعطيه الله لعبده من هذه الأمور وغيرها ، إن استعان بها على ما يحبه الله ويرضاه ، ويقربه إليه ، ويأمر الله به ورسوله ، ازداد بذلك رفعةً وتقرباً إلى الله تعالى . وعلت درجته .
وإن استعان به على ما نهى الله ورسوله كالشرك والظلم والفواحش ، استحق بذلك الذم والعقاب ، فإن لم يتداركه الله بتوبة حسنة ، أو حسنات ماحية ، وإلاكان كأمثاله من المذنبين " انتهى .
وذكر ابن القيم في كتابه " الروح " أحاديث صحيحة وآثاراً على علم أهل القبور بأحوال الدنيا من الأمور التي لا يعلمها إلا الله ، من أمور واقعة ، وأمور ستقع .
وقد وقع هذا من كثير من الصحابة ، ومن بعدهم ، وتكلم ابن القيم على تأييد هذه المسألة .
أقول : وقد أخذ جمع من العلماء أن قول النبي صلى الله عليه و على آله وسلم لجبريل عليه السلام في علم الساعة : " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " يعني : أنا وأنت في العلم سواء ، لأنه نفى أفعل التفضيل الدال على الزيادة .
فمعناه : ما أنا أعلم منك ، بل كما تعلمها أنت ، أنا أعلمها .
وقد ثبت في " البخاري " وغيره ، أنه صلى الله عليه و على آله وسلم أشار إلى مصارع صناديد قريش كل منهم صرع في ذلك المكان ما تعداه . فقد علم أن هذه الأنفس بأي ( أرض ) تموت ، وهي من الخمس .
وأخبر صلى الله عليه و على آله وسلم عن أشياء تقع بعده إلى يوم القيامة ، فوقعت كما أخبر ، وهذا مما لا تدري نفس ماذا تكسب غداً .
وأخبر صلى الله عليه و على آله وسلم بعد موته بنزول الغيث ، كما في الحديث الذي ذكره الشيخ ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " حين شكى الصحابي ، فأتى إلى قبر رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم ، فقال : " ائت عمر وأخبره أنهم مسقون " . فكان كما أخبر .
ورفع هذا الإشكال والتوفيق بين الآيات والأحاديث الصحيحة بهذا التقرير متعين ، وإلا يلزم منه التناقض والخلف في الأخبار الصادقة ، وبالله تعالى التوفيق .
وأما اعتراض هذا المعترض على قوله :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
فهو سوء فهم وعدم علم ، وذلك أنه يقرأ البيت :
مالي من ألوذ به سواك …
فإذا سمع العامي الذي معه في الفهم سواء ، قال : كيف هذا الحصر ؟ فيفهم منه أنه قاله قائله على الإطلاق .
وليس ذلك مراداً ، ولا هو معنى البيت . بل معناه ظاهر لمن عرف ، فإن معنى البيت على ما يعطيه اللفظ ، مع قطع النظر عن مراد الناظم ، وقرائن الأحوال والأقوال أنه يقول : يا أكرم الخلق على ربه ، مالي من ألوذ به غيرك وقت حلول الحادث العام الذي يعم الخلائق كلها ، وهو يوم القيامة في الموقف .
كما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الناس ذلك اليوم تدنو الشمس منهم مقدار ميل ، ويزدحمون حتى يصير على كل قدم سبعون ألف قدم ، ويلجمهم العرق ، وتسعر جهنم ، ويغضب الجبار جل جلاله وكل الانبياء والرسل يقول كل واحد : نفسي … نفسي … ، ثم يطلب الناس من يشفع لهم كما في " البخاري " فيستغيثون بآدم ، ثم بإبراهيم ، ثم بموسى ، ثم بعيسى . فيأتون نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم فيقول : " أنا لها … أنا لها " فيشفع لجميع الخلائق من ذلك الموقف المهول الشديد الذي يشتهي الناس أن يخلصوا من شدته ، ولو يؤمر بهم إلى النار كما في صحيح الأخبار .
فهل ترى أن أحداً من الرسل يلاذ به ، أو واحداً من المخلوقات يلاذ به إلا هو صلى الله عليه و على آله وسلم في هذا الحادث العام ، لا في سائر الأحوال ، بل في هذه الحال ؟!
وعند حلول الحادث العمم ، "اسم فاعل " كـ : حذر وحفل ، وليس مراده : مالي من ألوذ به سواك مطلقاً ، بل مقيد بهذا الوقت الذي وردت الأحاديث الصحيحة أنه ما يكون غيره له ، بل أولو العزم يعتذرون للناس ذلك اليوم .
ومقصوده : اللوذ به ، من طرف الشفاعة ، بدليل قوله في البيت الذي بعده :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تجلى باسم منتقم
إذ الجاه راجع للشفاعة ، وهكذا قرر جميع من شرح هذه القصيدة من العلماء الأكابر .
قال الشيخ خالد الأزهري في " شرحه " على هذه القصيدة : " ألوذ : ألتجئ ، سواك : غيرك ، وحلول الحادث العمم : هول يوم القيامة الشامل لجميع الخلق .
والمعنى : يا أكرم كل مخلوق ، مالي أحد غيرك – يعني من المخلوقين – ألتجئ إليه يوم القيامة من هوله العميم والناس يتطاولون إلى جاهك الرفيع ، ولن يضيق بي جاهك إذا اشتد الأمر وعيل الصبر ، فإنك أعظم الخلق على الله ، المعول في الشفاعة عليه " . انتهى .
وكذلك قال غيره من الشراح :
بقي أن يقولوا : قوله : يا أكرم الخلق … ، فإن هذا عندهم دعاء ، وهو النداء ، ولا وجه للتكفير به ، لأن النداء إذا كان ضاراً وهو عبادة كما يزعمون ، للزم أنه لا ينادى أحد حي ولا ميت ، لأن كون الشيء الواحد بالنسبة للحي يكون طاعة ، وللميت والغائب يكون عادة ، لم يعهد هذا شرعاً و عرفاً . إنما الدعاء الذي هو عبادة ، فهو اتخاذ غير الله رباً وإلهاً ، وهذا لا يقصده أجهل المسلمين ، فضلاً عن أكابر العلماء العاملين .
والدليل على أن النداء والطلب من الأموات والغائبين ليس بعبادة بل هو مأمور به شرعاً : آيات وأحاديث وآثار ، وأقوال العلماء الكبار من الأئمة الأربعة الأخيار كما ستحيط به علماً ، ولكن لا تعجل ، بل تصبر وتبصر ، واستوعب الأدلة التي تقرأ ، وتقرر ، وأنصف , لا تتبعا لهوى فيضلك عن سبيل الله .
الدليل الأول : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } " المائدة الآية 35 " ، قال البغوي في تفسير قوله تعالى في الآية الأخرى { يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } " الإسراء الآية 57 " : " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله ، أي ينظرون أيهم أقرب إلى الله ، فيتوسلون به " ، انتهى .
فالوسيلة عامة شاملة للذوات والأفعال والأقوال ، وتخصيصها بالأفعال تحكم لا دليل عليه ، مع أن الذوات الفاضلة ، أفضل من الأفعال الصادرة عنها ، لا سيما نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم فإنه خلق من نور خلقه الله تعالى كما في حديث جابر رضي الله تعالى عنه .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } " مريم الآية 87" ، قال المفسرون : العهد قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
قيل معناه : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتخذ عند – أي – مع الرحمن عهدا ، يعني المؤمنين أهل لا إله إلا الله .
وقيل : ملّك الله المؤمنين الشفاعة ، فلا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله . أي لا يشفع إلا مؤمن .
وعلى كل حال ، فقد أخبر الله تعالى أن ملك المؤمنين الشفاعة ، فطلبها ممن يملكها بتملّك الله لا مانع منه ، كمن طلب المال وغيره ممن ملّكه الله له .
ومراد المنادى له صلى الله عليه و على آله وسلم ، والمتوسل به ، إنما هو الشفاعة ، وشفاعته صلى الله عليه و على آله وسلم الدعاء ، وهو حاصل له ولسائر الموتى من المؤمنين ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة .
قال ابن رجب : وقد صح عرض الأعمال كلها على رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم لأنه لهم بمنزلة الوالد ، خرج البزار في " مسنده " ، قال رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم : " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، وفاتي خير لكم ، تعرض أعمالكم علي ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم " .
والدعاء من الحي والميت شفاعة كما ورد في صلاة الجنازة أن الداعي يقول : " وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له بين يديك " . واستغفارهم شفاعة ودعاء ، كما هو ظاهر .
وأما الأحاديث الصحيحة في طلب الصحابة الكرام منه صلى الله عليه و على آله وسلم ولم ينكرها عليهم ، فكثيرة شهيرة ولم يقل لهم : حتى يأذن الله لي ، وأنتم طلبتم مني قبل الإذن ، فقد أشركتم .
فدل على أن ذلك جائز مطلقاً في حال حياته وموته صلى الله عليه و على آله وسلم ، لأنه صلى الله عليه و على آله وسلم بعد موته حي في قبره بالاتفاق .
الدليل الثالث : الحديث الأول : أخرج الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قلت : اشفع لي يا رسول الله يوم القيامة .
قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " أنا فاعل " .
قلت : فأين أطلبك ؟ قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " أول ما تطلبني على الصراط " ، قلت : فإن لم ألقك هناك ؟ قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " فاطلبني عند الميزان " ، قلت : فإن لم ألقاك هنالك ؟ ، قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " فاطلبني عند الحوض ، فإني لا أخطئ هذه المواطن الثلاثة " .
فإن قال قائل : إن هذا الطلب للشفاعة في حال حياته ، وهو جائز .
قلنا : لا ، طلب منه ماليس في حياته ، وهو الشفاعة يوم القيامة ، وما جاز أن يطلب منه في الحياة ، جاز أن يطلب بعد الممات ، ومن ينفع فعليه الدليل أن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم نهى عن ذلك في حديث .
بل على قولكم : إن الطلب نفسه عبادة ، يقتضي أن لا فرق بين الحياة والممات ، لأن العبادة ممنوعة في الحالين ! ..
وما تقولون في قوله صلى الله عليه و على آله وسلم لما قال الصديق رضي الله تعالى عنه : قوموا نستغيث برسول الله من هذا المنافق ، فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " إنه لا يستغاث بي ، إنما يستغاث بالله " ، وهو حي قادر على قولكم ، وقد أخبر الله عن موسى عليه السلام : { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } ؟! .
الحديث الثاني وهو الدليل الرابع : قال الإمام أحمد في " مسنده " عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : " ما شممت عبيرا قط ولا مسكاً قط ، ولا شيئاً قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم " .
قال ثابت رضي الله تعالى عنه فقلت : يا أبا حمزة ألست كأنك تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم ، وكأنك تسمع إلى نغمته .
فقال رضي الله تعالى عنه : بلى والله ، إني أرجو أن ألقاه يوم القيامة فأقول : يا رسول الله ، خويدمك أنس .. الحديث .
وفي " الجامع الصغير " : كان مما يقول للخادم : " ألك حاجة ؟ " ، قال رضي الله تعالى عنه : ربي عز وجل .
قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " إما لا بد ، فأعني بكثرة السجود " . رواه الإمام أحمد .
قال الترمذي : رجاله رجال الصحيح ، ورمز السيوطي لحسنه . وقال الهيثمي . رجاله رجال الصحيح ، ذكره المناوي في شرحه " الكبير" .
الدليل الخامس : روى الترمذي ، والنسائي ، والبيهقي وصححه والحاكم وقال : على شرط البخاري ومسلم وأقره الحافظ الذهبي . عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه : أن رجلاً ضريراً جاء إلى النبي صلى الله عليه و على آله وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يكشف لي عن بصري .
قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " إن شئت دعوت لك ، وإن شئت صبرت " .
قال : ادعه ، فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " ائت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين وادع بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى ، اللهم شفعه في . وإن كان لك حاجة فمثل ذلك " .
فذهب الأعمى وعمل ذلك لنفسه بغيبة النبي صلى الله عليه و على آله وسلم .
قال البيهقي رحمه الله تعالى عن الراوي : فقام الأعمى وقد أبصر .
أقول : ولا يخفى أن هذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه و على آله وسلم ومعجزاته ، حيث أن أعمى أبصر ببركته صلى الله عليه و على آله وسلم كما كان عيسى ابن مريم يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله .
وهذا الحديث ذكره ابن تيمية في " الفتاوى" وأقره ولم يتعرض له وترجم له المحدثون : " باب من له إلى الله حاجة ، أو إلى أحد من خلقه " .
وذكره الحافظ الجزري في " الحصن الحصين " ، والحافظ السيوطي في " الجامع الصغير " . وشرحه للمناوي ، والشيخ علي القاري الحنفي فقال : قوله : " يا محمد " التفات وتضرع لديه ، ليتوجه بروحه إلى الله تعالى ، ويغني السائل عما سواه ، وعن التوسل إلى غير مولاه قائلاً : " إني أتوجه بك " أي بذريعتك ، الذريعة الوسيلة ، والباء للاستعانة – " إلى ربي في حاجتي هذه " ، وهي المقصودة المعهودة " لتقضى لي " . ويمكن أن يكون التقدير : ليقضي الله الحاجة لأجلك ، بل هذا هو الظاهر .
وفي نسخة : " لتقضى " بصيغة الفاعل ، أي : لتقضي أنت يا رسول الله الحاجة لي . والمعنى : لتكون سبباً لحصول حاجتي ووصول مرادي ، فالإسناد مجازي ، انتهى .
قال المجوزون : فقوله في الحديث : " يا محمد ، إني أتوجه بك في حاجتي لتقضى .. " : نداء وطلب منه صلى الله عليه و على آله وسلم ، واستغاثة به وتوسل ، والنبي صلى الله عليه و على آله وسلم كان غائباً وقال له : " وإذا كانت لك حاجة ، فمثل ذلك " ، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم أن يعلم أمته الشرك وقد بعث لهدمه .
فدل أن النداء له والطلب منه ليس بشرك ، كما يعنيه الخوارج .
وأجاب تقي الدين ابن تيمية عن هذا الحديث ، بأن الأعمى صور صورة النبي صلى الله عليه و على آله وسلم وخاطبها كما خاطب الإنسان من يتصوره ممن يحبه أو يبغضه ، وإن لم يكن حاضراً ، انتهى .
وهو عجيب ! فإن نداء الصورة والطلب منها مع كونها وهمية خيالية ، أقوى في الحجة على المانع .فهذا الحديث الصحيح هو الدليل لمن يجوز نداء النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في غيبته وبعد موته ، والناظم ممن يرى ذلك .
والدليل على أن هذا الحديث عام : ما رواه البيهقي ، والطبراني بسند لا بأس به عن عثمان بن حنيف راو الحديث الأول : أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في حاجته ، فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته . فشكى لابن حنيف الصحابي رضي الله عنه ، فعلمه أن يفعل كما فعل الأعمى ، ففعل فقضيت حاجته .
وسيأتي في كلام ابن تيمية أن للناس في الحديث قولين : قولاً بجواز التوسل به ، بمعنى طلب دعائه في حياته . وقولاً بجواز ذلك في حياته ومماته ، وحضوره ومغيبه .
وعلى كلا القولين لا مانع في حياته من طلب صاحب " البردة " الشفاعة منه صلى الله عليه و على آله وسلم لأنه على الأول يكون طالباً لدعائه ، وهو حي في قبره ، وعلى الثاني فظاهر .
وقد وافق ابن تيمية ابن عبد السلام سلطان العلماء على جواز الطلب والتوسل به صلى الله عليه و على آله وسلم لحديث الأعمى ، فصار نداؤه صلى الله عليه و على آله وسلم والسؤال منه محل اتفاق . وسيأتي أقوال السلف والخلف ، وتواطئهم على جوازه .
الدليل السادس : روى الحاكم في " صحيحه " ، وأبو عوانة في " صحيحه " ، والبزار بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم أنه قال : " إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة ، فليناد : ياعباد الله احبسوا ، فإن لله حاضراً سيجيبه " .
وقد ذكر هذا الحديث تقي الدين بن تيمية في " الكلم الطيب " عن أبي عوانه ، وابن القيم في " الكلم الطيب " له ، والنووي في " الأذكار " ، والحافظ الجزري في " الحصن الحصين " وغيرهم مما لا يحصى من المحدثين ، وهذا اللفظ رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً .
وأما قول هذا النجدي : إن هذا نداء لحاضر . كذب ظاهر ، فإن عباد الله المدعوين وإن كانوا حاضرين بالنسبة لعلم الله الذي لا يغيب عنه شيء ، هم غائبون بالنسبة لمن يناديهم .وكذلك الأنبياء والصالحون وأهل القبور ، فإنهم أحياء في قبورهم وأرواحهم موجودة .
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم أمته أن ينادوهم ويخاطبوهم مخاطبة الحاضرين مع أنهم غائبون عن العين ، بل ربما يسمع منهم رد السلام وقراءة القرآن والأذان من داخل قبورهم ، كما ذكر ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " .
فليس نداء النبي صلى الله عليه و على آله وسلم وخطابه أقل من عباد الله الذين أمر نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم أن نناديهم ونستعين بهم في رد الدابة ، ولكن مقصوده صلى الله عليه و على آله وسلم التسبب ، فإن الله ربط الأمور بالأسباب ، والنبي صلى الله عليه و على آله وسلم أفضل الوسائل والأسباب ، خصوصاً يوم القيامة .
ولكون النبي صلى الله عليه و على آله وسلم حاضراً مع موته شرع لنا خطابه والتسليم عليه في الصلاة ، وهو قولنا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ولولا ذلك لكان هذا الخطاب عبثاً ، وحاشا هذه الشريعة الغراء العبث فيها .
فهو على قولين : إما أنه يسمع سلام المسلمين عليه ويعرفهم حيث ما كانوا ، أو أنه موكل بقبره صلى الله عليه و على آله وسلم ملك يبلغه عن أمته السلام .
الدليل السابع : روى الطبراني عن عتبة بن غزوان ، عن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم : " إذا أضل أحدكم شيئاً و هو بأرض فلاة ليس بها أنيس ، فليقل : يا عباد الله ، دلونا على الطريق " . فوقع على الطريق .
فهب أن عباد الله المدعوين حاضرون –كما قال- ولكن لما لم يرهم الداعي لهم ، كيف يهتدي الداعي إلى الطريق ، أو يحصل له مقصوده في مثل الهداية إلى الطريق وهو لم يرهم ؟ وكيف حصلت له الهداية بمجرد هذا الكلام ؛ لولا أنهم وسيلة ، والله الفعال ؟!
فكذلك خطاب النبي صلى الله عليه و على آله وسلم ، أقل مراتبه أن يكون كالجن أو رجال الغيب ، مع أنه صلى الله عليه و على آله وسلم أفضلهم وأقربهم إلى الله وسيلة عند ربه تعالى .
الدليل الثامن : روى البيهقي ، وابن أبى شيبة عن مالك الدرا رضي الله تعالى عنه وكان خازن عمر رضي الله تعالى عنه قال : أصاب المدينة قحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فجاء رجل إلى قبر رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم فشكا له فقال : يا رسول الله استسق لأمتك ، فإنهم قد هلكوا .
فأتاه رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم في المنام فقال : " ائت عمر وأقرئه السلام وأخبره أنهم مسقون … " الحديث .
وقد ذكر هذا الحديث تقي الدين ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " ونقله النجدي في رسالته عنه ، وأقره ولم ينكره .
قال : وما روى أن رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم فشكا إليه الجدب عام الرمادة فأمره صلى الله عليه و على آله وسلم أن يأتي عمر رضي الله تعالى عنه … الحديث .
قال : فهذا حق ، ومثل هذا وقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه و على آله وسلم . ولكن عليك أن تعلم ؛ هؤلاء السائلين المحلين لو لم يجابوا ، لاضطرب إيمانهم ، كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك ، انتهى .
ولا يخفى أن هذه المسألة والسؤال والشكوى للنبي صلى الله عليه و على آله وسلم وقعا في زمن الصحابة وخير القرون ، فلو كان ذلك ممنوعاً لم يفعله الصحابي الذي هو أعلم بالدين من سائر علماء المسلمين ، ولم ينكر مع وجود الصحابة الكرام ، فعُلِم أنّ هذا أمر معلوم عندهم جوازه واستحبابه ، وإلا لنقل عن واحد إنكاره .
الدليل التاسع : ذكر ابن عساكر في " تاريخه " ، وابن الجوزي في " مثير الغرام الساكن " ، والإمام هبة الله في " توثيق عرى الإيمان " عن العتبي التابعي الجليل :
أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله … ، وفي رواية ذكرها الطبري أنه قال : ويا خير الرسل سمعت الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما } وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي .
ثم أنشد :
يا خير من دفنت في القاع أعظمه ………………………… إلخ
قال العتبي : فحملتني عيناي ، فرأيت النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في النوم وقال : " يا عتبي ، الحق الأعرابي فبشره بأن الله غفر له " .
فتلقى هذا الأثر علماء الأمة كلها بالقبول ، وذكره أئمة المذاهب الأربعة في المناسك مستحسنين له . وفيه نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وطلب الشفاعة منه في الدنيا .
وسيأتي نقل نصوص العلماء سيما من الحنابلة لهذا الأثر : ولقد استحب طائفة من أصحاب الشافعي ، وأحمد مثل ذلك . واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي ، بل قضاء حاجة الأعرابي وأمثالها لها أسباب بسطت في غير هذا الموضع .
وليس كل ما قضيت له حاجته بسبب ، يقتضي أن يكون مشروعاً ، وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً و لا يكون عالماً أنه منهي عنه ، فيثاب على حسن قصده ، فيعفى عنه لعدم علمه . ثم الفاعل قد يكون متأولاً أو مخطئاً أو مجتهداً أو مقلداً ، فيغفر له خطؤه ، ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع ، المجتهد المخطئ . وقد بسط في غير هذا الموضع " ذكر ذلك في " اقتضاء الصراط المستقيم " . وفي بعض الفتاوى ، وذكره ابن عبد الهادي تلميذه عنه في " الصارم المنكى في الرد على السبكي " .
فلو فرضنا أن صاحب البردة لم يتبع هذه الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة في طلبه منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدنيا والآخرة ، وقلنا بقول الشيخ ابن تيمية أنه منهي عنه ، أو ليس مستحباً كما قال في " اقتضاء الصراط " أليس ابن تيمية أعذر المتأول والمخطئ والمجتهد والمقلد ، وقال : إنه يغفر له ويثاب على فعله ؟
فلنجعل هذا الرجل من هذا القبيل ، فكيف يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكفر رجلاً أقدم من ابن تيمية ، بل تلاميذه من شيوخه ومعاصريه كأبى حيان النحوي ، والعز بن جماعة وغيرهما .
فقبح الله تعالى الجهل أين يصل بصاحبه .
الدليل العاشر : ذكر القسطلاني في " المواهب اللدنية " ، والسمهودي في " الوفا" قال : روى أبو سعد السمعاني عن علي كرم الله وجهه أن أعرابياً قدم علينا بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره ، وحثا من ترابه على رأسه وقال :
يا رسول الله ، قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك . وكان فيما أنزل إليك : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي .
فنودي من القبر : " غفر لك " .
أقول : ويعضد هذا الأثر ، الأثر المتقدم الذي تلقاه الأئمة بالقبول حتى الشيخ ابن تيمية مع أنه تشدد في ذلك كما ترى .
الدليل الحادي عشر : ذكر القاضي عياض في " الشفا " بسنده الحسن أن الإمام مالك بن أنس تناظر مع أبي جعفر المنصور ، فقال الإمام مالك : يا أمير المؤمنين ، إن الله أدّب أقواماً فقال : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي .. } ، ومدح قوماً فقال:{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله … }
وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً .
فاستكهن لها أبو جعفر فقال : يا أبا عبد الله ، أستقبل القبلة فأدعو ، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟
فقال مالك رحمه الله تعالى : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ؟! بل استقبله وتشفع به فيشفعك الله ، قال الله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } الآية .
نقل هذا الأثر السبكي في " شفاء السقام " ، والقسطلاني في " المواهب اللدنية " ، والسمهودي في : الوفا" و " خلاصة الوفا " ، وابن حجر في " الجوهر المنظم " وغيرهم .
الدليل الثاني عشر : ذكر ابن الجوزي في كتابه " الوفا في فضائل المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم " بسنده إلى أبي يكر المقرئ ، والطبراني ، وأبى الشيخ قالوا :
كنا في حرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكنا في حالة قد أثر فينا الجوع ، فواصلنا ذلك اليوم .
فلما كان وقت العشاء ، حضرت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقلت : يا رسول الله الجوع الجوع ، وانصرفت .
قال أبو بكر : فنمت وأبو الشيخ ، والطبراني جالس ينظر في شيء ، فحضر بالباب علوي فدق الباب ، ففتحنا له ، فإذا معه غلامان مع كل غلام زنبيل فيه شيء كثير ، فجلسنا فأكلنا ، فولى وترك الباقي عندنا .
فلما فرغنا من الطعام ، قال العلوي : يا قوم ، شكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ فإني رأيته في المنام فأمرني بحمل شيءٍ إليكم ، انتهى .
وذكر هذا الأثر جماعة من المحدثين ، وذكر مثله تقي الدين في " اقتضاء الصراط المستقيم " .
قال : وكذلك ما حكى أن بعض المجاورين في المدينة أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاشتهى نوعاً من الأطعمة ، فجاء بعض الهاشميين إليه فقال : إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث إليك ذلك النوع من الأطعمة ، ويقول لك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : اخرج من عنده ، لا تشتهي مثل ذلك .
وآخرون قضيت لهم حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا ، لاجتهادهم أو تقليدهم أو قصورهم في العلم ، فإنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره ، انتهى .
الدليل الثالث عشر : ذكر ابن الجوزي في كتابه " صفة الصفوة " بسنده إلى أبى الخير التيناتي قال : دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا بفاقة فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقاً ، تقدمت إلى القبر الشريف وسلمت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله . وتنحيت فنمت خلف المنبر ، فرأيت في المنام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله ، وعلي بن أبي طالب بين يديه . فحركني علي رضي الله تعالى عنه وقال : قم ، لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فقمت فقبلت بين عينيه ، فدفع إلي رغيفاً فأكلت بعضه ، فنتبهت فإذا النصف الآخر بيدي " انتهى.
الدليل الرابع عشر : ذكر ابن تيمية في " الكلم الطيب " والحافظ ابن أبي جمرة في " شرح مختصر البخاري " عن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن أحدهما خدرت رجله ، فقيل له : اذكر أحب الناس إليك .
فقال : يا محمد ، فذهب الخدر عن رجله .
فهذا يدل على نداء أحب الناس إلى الإنسان ، ولو لم يكن نداء الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، جائز ، وأنه مذهب لهذه العلة ، فكيف إذا كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟!!
فلو كان نداء الغائب والميت ممنوعاً ، لكان هذان الصحابيان الجليلان أحق بالمنع من ذلك ! ولهذا ذكرمثل هذا الأثر ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في الأذكار التي يسن استعمالها .
وذكر ابن الأثير في " تاريخه " الذي ذكر أنه اختصره من تاريخ ابن جرير السني : أن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم كان شعارهم في الحرب : " يا محمد " . وذكر مثله الواقدي في كتابه " فتوح الشام " .
وذكر السيوطي في " شرح الصدور " عن ابن الجوزي بسنده إلى بعض التابعين : أنهم لما أمرهم الكفار وراودوهم على الكفر وامتنعوا ، غلوا لهم زيتاً في قدر فألقوهم فيه ، فنادوا : " يا محمداه " .
ولا شك أن هذا النداء في هذه المواضع المهلكة ، ما هو إلاتوسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وطلب لشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإلا فلا معنى لندائه .
وفي ترجمة سعيد بن عامر بن حذيم الصحابي رضي الله تعالى عنه قال : شهدت مصرع خبيب وقد بضعت قريش لحمه ، ثم حملوه على جذعه ، ثم نادى : " يا محمد " . فما ذكرت ذلك وتركى نصرته وأنا مشرك ، وإلا ظننت أن الله لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً ، فتصيبني تلك الغنطة .. إلى آخر الأثر .
فهذا يدل على أن نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الشدائد أمر معهود ، لأن خبيباً رضي الله تعالى عنه فعل ذلك في مكة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة حينئذ ، والله تعالى أعلم .
وأما الألفاظ التي صدرت في زمانه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما فيها حصر الشفاعة به وأمثاله ذلك مما هو مثل قول البوصيري :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
فكثيرة جداً ، منها ما ذكر القسطلاني في " المواهب اللدنية " في ( باب الاستسقاء ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : يا رسول الله ، أتيناك وما لنا صبي يغط ، وبعير يئط ، وأنشد :
أتيناك والعذراء يدمي لبانها
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وليس لنا إلا إليك فرارنا
وأين فرار الناس إلا الرسل
فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجر رداءه ورفع يديه إلى السماء ثم قال : " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً غدقاً طبقاً نافعاً غير ضار عاجلاً " .
قال رضي الله تعالى عنه : فما رد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديه إلى نحره ، حتى ألقت السماء بأبراقها ، وجاء أهل البطانة يضجون : الغرق الغرق .
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " حوالينا ولا علينا " فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل ، وضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بدت نواجذه ، ثم قال : " لله در أبي طالب ، لو كان حياً لقرت عيناه من ينشدنا قوله ؟ " .
فقال علي رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ، كأنك تعني قوله :
وأبيض يستسقي الغمام بوجه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة في وفواضل
فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أجل " ، رواه البيهقي .
قال القسطلاني رحمه الله تعالى : والثمال - بكسر الثاء - : اللجاء والغياث في الشدة . وعصمة للأرامل : يمنعهم عن الضياع والحاجة ، والأرامل : المساكين .
وروى ابن عبد البر في " الإستيعاب " في ترجمة سواد بن قارب الصحابي رضي الله تعالى عنه وقوله في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة
بمغنٍ فتيلاً عن سواد بن قارب
ونقل ذلك جميع أهل السير في معجزاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لأن الجن أمروا سواداً بالإسلام به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأتاه وأسلم وأنشد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبياتاً ، هذا البيت منها .. ومنها :
وأشهد أن الله لا رب غيره
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فلم ينكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلب الشفاعة منه في القيامة ، وجعله وسيلة ، وأنه مأمون على كل غائب .
وعن ابن عساكر من طريق أبي الزبير ، عن جابر رضي الله تعالى عنه ، أن امرأة من قريش عارضت سعد بن عبادة ، فأنشدت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
يا نبي الهدى إليك لجائي
لقريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأرض
وعاداهم إله السماء
إن سعداً يريد قاصمة الظهر
بأهل الحجون والبطحاء
فلما سمع هذا الشعر صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، دخلته رأفة لهم ورحمة ، فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابن قيس .
وذكر القسطلاني في : " المواهب " أن عمته صفية رضي الله تعالى عنها رثته بمراثي ، منها قولها :
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا
وكنت بنا براً ولم تك جافياً
وكنت رحيماً هادياً ومعلماً
ليبك عليك اليوم من كان باكياً
إلى آخر كلامها رضي الله تعالى عنها ..
وذكر ابن القيم في كتابه " كتاب الكبائر " في السنة ، و " البدعة " في بيان بدعة الرفض ، قال الشيخ الحافظ السلفي نزيل الإسكندرية بسنده إلى يحيى بن عطاف المعدل ، حكى عن شيخ دمشقي جاور بالحجاز سنين قال :
كنت بالمدينة المنورة في سنة مجدبة ، فخرجت يوماً إلى السوق لأشتري دقيقاً برباعي ، فأخذ الدقاق الرباعي وقال لي : العن الشيخين حتى أبيعك الدقيق .
فامتنعت من ذلك ؛ فراجعني مرات وهو يضحك . فضجرت منه وقلت : لعن الله من يلعنهما .
قال : فلطم عيني فسالت على خدي ؛ فذهبت إلى صاحب لي فأخبرته ، فرجعت إلى المسجد فجئت الحجرة فقلت : السلام عليك يا رسول الله قد جئناك مظلومين فخذ بثأرنا ، ثم رجعنا .
فلما جنّ الليل نمت ، فلما استيقظت وجدت عيني صحيحة أحسن ما كانت ، .. إلى آخر ما قال .
وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في هذين الكتابين عن كمال الدين بن العديم في : " تاريخ حلب " قال : أخبرني أبو العباس أحمد بن عبد الواحد ، عن شيخ من الصالحين يعرف بـ : عمر بن الرعيني قال : كنت مقيماً بمدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرجت بعض السنين في يوم عاشوراء الذي تجتمع فيه الإمامية لقراءة المصرع في قبة العباس ، فوقفت على باب القبة فقلت : أريد شيئاً في محبة أبى بكر .
قال : فخرج إلي واحد منهم وقال : إجلس حتى أفرغ .
قال : فلما خرج ، أخذ بيدي ومضى بي إلى داره وأنا أظن أنه يريد أن يعطيني شيئاً فقال : ادخل . فدخلت فسلط علي عبدين فكتفاني وأوجعاني ضرباً ، ثم أمرهما فقطعا لساني ، ثم قال : اخرج إلى الذي طلبت لأجله ليرد عليك لسانك .
قال : فخرج من عنده مقطوع اللسان ، فجاء وهو يستغيث من الوجع إلى حجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجعل يقول : يا رسول الله . قطع لساني في محبة صاحبك . فإن كان صاحبك حقاً ، فأحب أن ترجع علي لساني . وبات يستغيث بقلبه .
قال : فأخذتني سنة من النوم ، فاستيقظ فوجد لسانه في فيه صحيحاً كما كان ، وأن الذي قطع لسانه من الرافضة انقلب قرداً .
وفي السنة الثانية ذهب إلى ذلك المكان فوجد ابنه ، فأسلم هو وأهله وولده وتابوا من الرفض .
ففي هذين النقلين لابن القيم عن أكابر المحدثين وإقرارهما ورضاه بهما ولم يتعرض لهما باعتراض ، بل ذكرهما في مقام الافتخار بالاستغاثة بسيد المرسلين ، وأن شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثابتة .
وكفى بنقل هذا العالم الذي هو معلوم تشديده في مثل هذه الأمور ، مع أن في هذين النقلين النداء له صلى الله عليه وعلى آله وسلم والسؤال منه ، ما هو عظيم خارق للعادة .
يتبع.....