الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, وبعد:
يقول ابن خلدون:"إن قوة اللغة في أمة ما تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ
دورها بين بقية الأمم, لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها,
ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم."
وهذا حق, وهو يفسر تراجع مكانة اللغة العربية,
اليوم, أمام الإنجليزية والفرنسية, على سبيل المثال,
والتي تقف خلفها دول تنفق على نشرها بسخاء, من أجل نشر حضارتها في العالم,
مجتاحة بها العالم عن طريق كل وسائل الاتصال الحديثة,
لتفرض على الناس طريقة عيشها, وأسلوب تفكيرها,
وحلول المشاكل من وجهة نظرها.

إن نزول الإسلام {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}الشعراء195 جعل اللغة العربية أشرف لغة,
وجعل الحفاظ عليها من الحفاظ على الدين, إذ لا يمكن فهم الدين,
والعمل به إلا بفقه هذه اللغة, وتعليمها وتعلمها.
وهذا ما أدركه المسلون الأوائل, فكان الاهتمام باللغة العربية,
وعلومها من أسس عمل الدولة, ومن سياستها.
فهذا رسول الله,
, يقول حين لحن رجل بحضرته:"أرشدوا أخاكم فقد ضل" ,
وها هو يقضي, بوصفه رئيس دولة,
بأن يعلم كل أسير, في معركة بدر, ليس له فداء, أولاد الأنصار,
كتابة اللغة العربية, وها هو يراسل قادة الدول باللغة العربية.
وهذا عمر, رضى الله عنه, يأمر بألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة,
ويأمر أبا الأسود ليضع النحو,
ويقول:"تعلموا العربية فإنها تثبت العقل, وتزيد المروءة",
ويقول:"إياكم ورطانة الأعاجم",
ويقول:"تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض."
وهذا علي, كرم الله وجهه, يطلب من أبي الأسود أن يكتب كتابا, في أصول العربية,
فيرد عليه:"إن فعلت هذا أحييتنا, وبقيت فينا هذه اللغة."
وهذا يدل على أن الاهتمام باللغة, ورفع شأنها, كان قرارا سياسيا اتخذه قادة المسلمين. واستمر خلفاء المسلمين في الحفاظ على اللغة العربية,
وعلومها, خدمة للإسلام, فكان التعريب للدواوين والنقود,
وكان وضع أسس الإعجام (للمصحف بالنقاط والشكل),
وكانت الدول المفتوحة تستخدم اللغة العربية, كلغة رسمية,
وصارت العربية لغة العلوم والفنون بفضل الترجمة, وبقيت هذه اللغة
في العصور اللاحقة ترتقي وتنهض وتزدهر,
لغة للعلم والآداب, فنمت الحركة الثقافية, والعلمية,
في حواضر العالم الإسلامي بازدهارها.
وكان الخلفاء يعقدون المناظرات بين علماء اللغة في مجالسهم,
وكانوا يشجعون الشعر والشعراء, وكانوا يغدقون عليهم الأعطيات,
فضلا عن إنشائهم الكتاتيب والمدارس والجامعات, لخدمتها.
وقد كانت اللغة العربية تنزل, من علوم الإسلام ومعارفه, منزلة القلب من الجسد,
وكان المسلمون يتعلمون اللغة العربية كما يتعلمون حفظ القرآن,
وكانوا ينظرون إلى النحو والصرف وغيرها كما ينظرون إلى علم التفسير والحديث,
وكانوا ينظرون إلى ألفية ابن مالك كما ينظرون إلى تفسير القرطبي,
وإلى الكافية كما ينظرون إلى صحيح البخاري, دون نقصان.
ورحم الله الشافعي الذي اعتبر العلم بلسان العرب "كالعلم بالسنن عند أهل الفقه."
وهكذا أخذت اللغة العربية دورا عظيما في بناء صرح الإسلام,
وسمت بين اللغات, وعلا نجمها عند الناس, وانتشرت انتشارا مهولا,
بانتشار الفتوحات في الأمصار.
ثم ضعف الاهتمام باللغة العربية في العصور المتأخرة للدولة الإسلامية,
ما ساعد على انهيارها, خصوصا مع ما رافق ذلك من غزو فكري وجه,
ليس فقط للإسلام, بل لأداة فهمه - اللغة العربية,
إذ نجح الكافر المستعمر في إبعاد المسلمين عن الاهتمام باللغة, ودراستها,
والتعمق فيها, ودرجت اللهجات العامية في بلاد المسلمين, فضعف الفهم للإسلام,
وكذلك الاجتهاد, الذي يعتبر الفقه في اللغة شرطه الأساسي.
وبعد أن سقطت الخلافة, وصار الكافر المستعمر صاحب القرار,
في بلاد المسلمين, اتخذ إجراءات عديدة أبعدت اللغة العربية عن مركز الاهتمام
لدى الأمة الإسلامية, وجعلتهم يتوجهون قبلة لغاته لدراستها, أبرزها:
1. تضليل المسلمين بأن اللغة العربية لغة جامدة وصعبة,
وأن لغته هي لغة العصر, وأنها لغة العلم والثقافة,
وأن اللغة العربية لا يمكنها مواكبة العصر, وليست مرنة,
ولا تتسع للمصطلحات الحديثة, من أجل تنفيرهم وإبعادهم عنها.