الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على عبده ورسوله محمَّدٍ الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أما بعدُ، أيُّها الإخوة الفُضلاء النبلاء – أكرمكم الله بالإكثار من طاعته وأسعدكم بِرضوانه -:
فهذا جزءٌ لطيفٌ في: «إثباتُ سُنِّية صومِ أيام العشر من شهر ذِي الحِجَّة المُحرَّم».
وسببُ كتابة هذا الجزء وطرحه بين يدى القراء – سدَّدهم الله وأكرمهم بمرضاته – هو سماعي من بعض الناس في هذا الزمن عدم استحباب صيام هذه الأيام، أو كراهته، أو أنه بدعة.
وأسأل الله الكريم أن ينفع به الكاتب والقارئ والناشر، إنه سميع الدعاء.
وسوف يكون الكلام عن هذه المسألة في سبع وقفاتٍ، ليسهل ضبطها والإلمام بها، فدونكم هذه الوقفات:
الوقفة الأولى / عن المراد بالأيام العشر من ذي الحجة التي يُسن صيامها.
قال النووي – رحمه الله – في «شرح صحيح مسلم» (8/ 320 – عند رقم:1176):
قال العلماء: والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يُتأول.اهـ
وقال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في كتابه «لطائف المعارف»(ص: 279):
وهذا كما يقال: صام عشر ذي الحجة، وإنما صام منه تسعة أيام، ولهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال: صام عشر ذي الحجة، وقال: “إنما يقال: صام التسع”، ومن لم يكره وهم الجمهور، فقد يقولون: الصيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه، وهو ما عدا يوم النحر، ويطلق على ذلك العشر، لأنه أكثر العشر.اهـ
الوقفة الثانية / عن مستند سُنِّية صيام أيام عشر ذي الحجة.
يدلُّ على الترغيب في صيام أيام عشر ذي الحجة، وأنه سُنَّة محمودة يستحب للمسلم والمسلمة العمل بها، أمران:
الأول: ما أخرجه البخاري في «صحيحه»(969) واللفظ له، وأحمد (3139و3228)، وأبو داود (2438)، وابن ماجه (1727)، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟ قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ )).
وأخرجه الترمذي في «سننه»(757) بلفظ:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
وقال عقبه: حديث ابن عباس حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب.اهـ
وأخرجه الدارمي في «سننه»(1815) بلفظ:
(( مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ-، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وإسناده حسن.
وفي لفظ آخر(1814):
(( مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ )).
وإسناده صحيح.
وممن صحَّح الحديث أيضًا:
ابن خزيمة، وابن حبان، وأبو نعيم الأصفهاني، والبغوي، وابن قدامة المقدسي، والنووي، وابن قيم الجوزية، وابن كثير، وأبو زرعة العراقي، والشوكاني، والألباني.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث:
أن العمل الصالح المذكور فيه عام، فيدخل فيه الصيام، لأنه من الأعمال الصالحة؛ بل من أفضلها وآكدها.
الثاني: ما أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في «مصنفه»(4/ 257 – رقم:7715):
عن الثوري، عن عثمان بن مُوهب قال:
(( سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ، أَفَأَصُومُ الْعَشْرَ تَطَوُّعًا؟ قَالَ: لَا، وَلِمَ؟ ابْدَأْ بِحَقِّ اللَّهِ، ثُمَّ تَطَوَّعْ بَعْدَمَا شِئْتَ )).
وإسناده صحيح.
ووجه الاستدلال من هذا الأثر:
أن أبا هريرة – رضي الله عنه -لم ينكر على الرجل التطوع بصيام العشر، بل أقرَّه على ذلك إذا قضى ما بقي عليه من شهر رمضان.
وهذا يدلُّ على أن صيامها معروفٌ في عهد السلف الصالح، وعلى رأسهم الصحابة – رضي الله عنهم -.
منقول
يتبع ...