الدروس المصرية (مقدمة)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين.
إن مصر، وإن لم تكن أولى الدول العربية المسلمة تعرّضا لموجة التغيير في هذه الفترة من الزمان، فإنها النموذج الأكمل من حيث وضوح التفاعلات السياسية والاجتماعية التي لن تسلم منها دولة بعدها. لذلك فإننا سنتناول بعض الأمور بما يناسبها من التحليل، حتى نتبين ما يُمكن أن يكون معالم في طريق المستقبل القريب والمتوسط إن شاء الله.
كثير من الناس، كانوا يظنون أن أنظمة الاستبداد السابقة، كانت هي السبب الوحيد الحائل دون عيش الشعوب في جنة الأرض؛ متناسين أن تلك الأنظمة مرتبطة إما طردا وإما عكسا بكل مكونات مجتمعاتها. بل إن تلك الأنظمة من منطلق قهرها، عملت على تأجيل المواجهات الداخلية في تلك المجتمعات، وإن لم يتفطن كل الناس إلى ذلك. هذا لا يعني أننا نفضل تلك المرحلة على هذه، لأن معاندة القدر ليست من دأبنا؛ ولكننا نريد للعقلاء أن يعرفوا لكل مرحلة ميزاتها. والحكم على مرحلة بمعايير مرحلة أخرى، لن يزيد الأمور إلا تفاقما.
وأول ما ينبغي أن نوضحه، هو شروط صحة النظر السياسي:
1. إدراك الواقع:
قد يتوهم بعض الناس أن إدراك الواقع، صار في هذا الزمان أسهل مما كان في سابق الأزمان؛ خصوصا إن اعتبرنا التطور التكنولوجي الذي أصبح من أهم عناصر المعادلة. وقد يستدل أصحاب هذا الرأي، بما يرونه من مشاركة عموم الناس في العمل السياسي، بحسب ما هو متعارف عليه اليوم. والمتعلمون منهم -والشباب خصوصا- صاروا من أكثر المحللين للأحداث على الفضائيات وعلى الصحف اليومية؛ مما يؤكد ما سبق ذكره. ورغم كل هذا، فإننا ننبه إلى أن كل ما ذكر من مواصفات، لا يدخل في الشروط التي ننبه إليها.
إن من نراهم مؤهلين للكلام، ليسوا هم كل من يحسنون الكلام، أو يجيدون توصيف الواقع، وما أكثرهم؛ إنما هم من يستشفون الواقع قبل أن يحل. هم من يتقنون قراءة المعطيات كلها، ولا يخرجونها عن سياقها بدافع الأهواء الطاغية؛ وما أقلهم!
كنت أعجب كثيرا، عندما أرى أحد المذيعين يضع الميكروفون أمام أفواه العامة من الناس، ويأخذون في الكلام عن السياسة الداخلية والخارجية للدولة بمنتهى الثقة! وقد يتصدق أحدهم بنصيحة للرئيس، يعلّمه كيف يدير شؤون البلاد! وويل له، إن لم يستمع إلى النصائح المتعددة التي قد يُتابعها أصحابها، المتربصون على برامج "التوك شو".
لا بد لمن ينظر إلى ما يحدث أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ». قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يا رسول الله؟ قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»[رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وأبو يعلى]. هذا يعني أن كلام السفهاء في الشؤون العامة، سيزيد من حدة الفتنة في هذه السنين الخداعة. والحديث يشير إلى النتائج التي وصل إليها الناس في معاملاتهم، والتي تدل على أنهم قد انعكس منهم الإدراك؛ سواء أعلموا ذلك أم لم يعلموا. ولولا انعكاس الإدراك، ما كانوا صدقوا الكاذب، ولا خوّنوا الأمين!..
2. إدراك الفرق بين المتاح، وما ينبغي أن يكون:
لا بد للمستقري السياسي، أن يُدرك الفرق بين ما يدخل ضمن علمه المجرد، وبين ما يدخل ضمن المعاملات في الواقع، التي تتطلب مرونة ومراعاة للحكمة. وهذا هو ما يجعل الشخص العامي ينتقد من يكون القرار بيده؛ نعني أنه من بين أسباب الاعتراض. وذلك لأن ذا المنصب يتعامل مع الواقع المتشعب؛ بينما العامي يحكم عليه من منطلق العلم المجرد. ومَثلهما كمن يعلم مسار سباق الجري، ومن يسابق فعلا. فالناظر لا يرى إلا صورة الشخص متحركة على المسار؛ بينما المتسابق تدخل في نظرته أمور أخرى هي كل المصاعب التي تحول دونه وما يرمي إليه من الفوز بالسباق. وأقل هذه المصاعب الريح المعاكسة له أثناء جريه.
3. الخروج عن تحكم الأهواء:
وهذا من أصعب الأمور في هذا الزمان، بسبب كون المرء لا بد له من أن يكون الواقع الراهن أو الواقع المتوقَّع إما ملائما لأغراضه أو منافرا لها. والحكم على الأمور من منطلق الأغراض الشخصية الدنيوية، هو ما نسميه هوى. هذا يعني أن الأهواء مختلفة باختلاف الأفراد والجماعات. وإن كانت الأهواء مختلفة، فإن الأحكام على الأمور، لن تكون إلا مختلفة. وهذا أمر لا يُفضي إلا إلى الصراع والاحتكام إلى القوة المادية في النهاية. ومن أجل بلوغ أقصى حد من التوافق، بغية توفير أدنى حد من شروط العيش المشترك، فلا بد من الخروج عن تحكم الأهواء بقدر المستطاع. ولا يخرج المرء عن تحكم الهوى، إلا إذا حكّم في نفسه العلم. نعني أنه لا بد أن ينظر العاقل إلى نفسه بتجرد، مثلما ينظر إلى غيره من الناس، وهذا نادر جدا؛ مما يجعل المجال السياسي أكثر المجالات استدعاء للأهواء.
4. عدم التعميم في الأحكام:
وهذه الصفة تنتشر بين العامة كثيرا، فهم إن قبلوا يقبلون جملة، وإن رفضوا يرفضون جملة وتفصيلا. وهذا لا يمكن أن يصح؛ لأن الأمور لا توجد في الواقع منفصلة بعضها عن بعض انفصالا تاما، حتى يُمكنَ معاملتها باستقلالية؛ بل العكس هو الصحيح. ذلك أن الأمور نسبية، بما يفيد أنها متداخلة بعضها مع بعض، تداخلا متفاوتا بحسب الظروف والأحوال التي تقوي أحيانا ذلك التفاوت أو تضعفه.
5. التفلت من الخطاب الديماغوجي الموجه:
من المعلوم أن لكل رأي خطابا، يتوجه إلى عموم المخاطَبين، من أجل اكتساب أكبر عدد من الأنصار. لكن الرأي الذي لا يستند إلى العلم، ويتبع الهوى، لا يمكنه أن يخاطب الناس إلا بخطاب ملفق يكتسي ملامح علمية في بعض أجزائه بغية بلوغ غاية الإقناع للغير؛ مستعملا في ذلك كل ما يمكن أن يمرّ دون أن يشعر المخاطب أنه مخدوع فيه. وهذا هو ما يسمى الديماغوجيا. ولقد طغى هذا الصنف من الخطاب في عصرنا، وتبنته الوسائل الإعلامية، على حسب ما يعطيه الهوى المدفوع له. ولقد صار المجال الإعلامي اليوم سوقا، يُباع فيها الخطاب؛ وتخصَّص إعلاميون في المناداة على بضائعهم في هذه السوق، كما يُنادي أصحاب الخضار والفاكهة على بضائعهم في الأزقة الشعبية. وبهذا أصبح الإعلام موجِّها لإدراك العامة، ولا رقيب إلا الله.
والعوام، ليست لهم إمكانات نقدية حتى يميّزوا بين الغث والسمين من الخطاب، زد على ذلك أنهم يقعون تحت تحكم الهوى أكثر من غيرهم؛ مما يجعلهم يُساقون إلى حيث يُراد لهم، وهم لا يشعرون.
6. التخلص من عيوب العقل الجمعي:
لا شك أن العقل الجمعي، ونخص به هنا العقل العربي، له عيوب كثيرة تصبح في أحيان كثيرة من ضرب المسلمات لدى أصحابه. وهذا لا يُمكن أن يقبله العلم! الذي هو وحده الوسيلة إلى الحق والصواب. ولقد امتاز العقل العربي، بجمعه بين متناقضات كثيرة، هي وحدها كفيلة بضمان عدم تحقيقه لأغلب ما يصبو إليه. ومن هنا كانت الأماني أكثر بكثير من التحققات. والعجيب، أن العوام لا يشعرون بهذه العيوب، مع كونها متحكمة في كل مفاصل عيشهم. وهذا لا نجد له شبيها إلا في عالم الدواب، عندما تكون إحداها مربوطة وتروم التفلت؛ فهي لا تنظر إلى طريقة التخلص من الوِثاق، بل تقوم بحركة متكررة تدل على أنها تريد التخلص، من غير ملل. فالأمنية لديها بعيدة عن النتيجة، بسبب كون العلاقة بين الفعل والغاية مفقودة. وهذا يعود إلى بساطة الإدراك. هذا يعني أن العامة إدراكهم أبسط مما ينبغي أن يكون عليه إدراك من يريد أن يتكلم في الشؤون العامة. ولسنا نعني بالعامة هنا غير الدارسين؛ وإنما نعني كل من لم تتحقق لديه شروط الفعل العقلي المعتبر، وإن كان من أكبر المدرّسين والمنظرين. وهذا أيضا باب، من أبواب عيوب العقل الجماعي في تصنيف الإدراكات لدى الناس.
(يُتبع...)