منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - فهرس القرآن وعلومة وتفسير القرآن الكريم
عرض مشاركة واحدة
قديم 2018-03-10, 16:25   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
*عبدالرحمن*
مشرف عـامّ
 
الصورة الرمزية *عبدالرحمن*
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

لماذا ذكر في سورة مريم لفظ "يوم يموت" في صيغه الماضي؟

السؤال
:

لماذا ذكر الله تعالى في سوره مريم (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) يوم ولد في الماضي ، ويوم يموت ويوم يبعث حيا في المستقبل ، هل سيدنا يحيى لم يمت حين أنزلت هذه الآية ؟


الجواب :


الحمد لله


أولا :

ثبوت قتل يحيى في كلام كثير من السلف :

ذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه "البداية والنهاية" (2/411) تحت عنوان : "بيان سبب قتل يحيى عليه السلام " قصة مقتله واختلاف السلف في مكان قتله، وذكر بعض الآثار عن السلف في ذلك. وقال ابن جرير الطبري في تفسيره (6/284) :

"وأما قوله: (ويقتلون النبيين بغير حقّ)، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى، وما أشبههما من أنبياء الله" انتهى .

وقال ابن القيم رحمه الله:

"فهذه الأمة الغضبية معروفة بعداوة الأنبياء قديما ، وأسلافهم وأحبارهم قد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أذاهم لموسى ، ونهانا عن التشبه بهم في ذلك .. وأما خلفهم فهم قتلة الأنبياء اليهود : قتلوا زكريا وابنه يحيى ، وخلقا كثيرا من الأنبياء ، حتى قتلوا في يوم سبعين نبيا ، وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئا . واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه فصانه الله تعالى وأكرمه أن يهينه على أيديهم ، وألقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه . وراموا قتل خاتم النبيين مرارا عديدة ، والله يعصمه منهم" انتهى من "هداية الحيارى" (251).

ثانيا:

معنى السلام المذكور في الآية :

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:

"وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) قال ابن جرير: وسلام عليه، أي: أمان له .

وقال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف من الأمان ; لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه ، وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه ، في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة ، والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول . انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية .

ومرجع القولين إلى شيء واحد" انتهى من "أضواء البيان" (3/381).

وقال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله:

" فالمعنى: أن إكرام الله متمكن من أحواله الثلاثة المذكورة .

وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هنا أحوال ابتداء أطوار : طور الورود على الدنيا ، وطور الارتحال عنها ، وطور الورود على الآخرة . وهذا كناية على أنه بمحل العناية الإلهية في هذه الأحوال .

والمراد باليوم : مطلق الزمان الواقع فيه تلك الأحوال .

وجيء بالفعل المضارع في ( ويوم يموت ) لاستحضار الحالة التي مات فيها ، ولم تذكر قصة قتله في القرآن إلا إجمالا " انتهى من "التحرير والتنوير" (16/78).

وقد استدل بعض العلماء أن في هذه الآية إشارة وتنبيها على قتل يحي عليه السلام .

قال أبو حيان :

" (ويوم يبعث حيا) فيه تنبيه على كونه من الشهداء ؛ لقوله تعالى فيهم: (بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران/169]" انتهى من"البحر المحيط" (7/246).

قال الشيخ الأمين الشنقيطي:

"وجه هذا الاستنباط أن الحال قيدٌ لعاملها ، وصفٌ لصاحبها ، وعليه فبعثه مقيدٌ بكونه حيًّا ، وتلك حياة الشهداء .

وليس بظاهرٍ كل الظهور "

انتهى من"أضواء البيان" (3/383).

ثالثا:

الانتقال في الخطاب القرآني من صيغة الماضي (يوم ولد) إلى صيغة المضارع (ويوم يموت) لا يدل – بحال – على ما ورد في السؤال ، من حياة يحي عليه السلام عند نزول هذه الآية ؛ فإن "من شأن العرب أن تبتدئ الكلام أحيانًا على وجه الخبر عن غائب ، ثم تعود إلى الخبر عن المخاطب ، والعكس . وتارةً تبتدئ الكلام على وجه الخبر عن المتكلم ، ثم تنتقل إلى الخبر عن الغائب ، والعكس . وأحيانًا تبتدئ الكلام على وجه الخبر عن المتكلم ، ثم تنتقل إلى الخبر عن المخاطب . كما تنتقل من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع إلى خطاب الآخر . وتنتقل من الإخبار بالفعل المستقبل إلى الأمر، ومن الماضي إلى المضارع , والعكس".

"قواعد التفسير" (1/271).

فهذا أسلوب عظيم من أساليب البلاغة يسمى بـ "الالتفات" .

قال السيوطي رحمه الله :

"وحقيقته : نقل الكلام من أسلوب إلى آخر ، أعني : من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول ، وهذا هو المشهور .

وقال السكاكي: إما ذلك ، أو : التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره .

وله فوائد ؛ منها: تطرية الكلام ، وصيانة السمع عن الضجر والملال ؛ لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات ، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد ، وهذه فائدته العامة ، ويختص كل موضعٍ بنكتٍ ولطائف باختلاف محله"

انتهى من "الإتقان" (3/289).

وقال الضياء ابن الأثير:

"واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصيةٍ اقتضت ذلك ، وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة ، الذي اطلع على أسرارها ، وفتش عن دفائنها ، ولا تجد ذلك في كل كلامٍ ؛ فإنه من أشكل ضروب علم البيان وأدقها فهمًا ، وأغمضها طريقًا" انتهى من "المثل السائر" (2/12).

ثم قال: "القسم الثالث: في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل ، وعن المستقبل بالماضي ، فالأول الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي:

اعلم أن الفعل المستقبل إذا أُتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل ، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي ؛ وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها ، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها ، وليس كذلك الفعل الماضي ...

كقوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) فإنه إنما قال: (فتثير) مستقبلا ، وما قبله وما بعده ماض ؛ لذلك المعنى الذي أشرنا إليه ، وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب ، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة .

وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييزٍ وخصوصيةٍ ، كحال تستغرب ، أو تهمّ المخاطب ، أو غير ذلك.

وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه في غزوة بدر ؛ فإنه قال: (لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص ، وهو على فرس وعليه لَأْمَةٌ كاملةٌ ، لا يُرَى منه إلا عيناه ، وهو يقول: أنا أبو ذات الكؤوس! وفي يدي عنزة ، فَأَطْعُنُ بها في عينه ، فوقع ، وأطأ برجلي على خده ، حتى خرجت العنزة متعقّفة) .

فقوله: «فأطعن بها في عينه، وأطأ برجلي» : معدول به عن لفظ الماضي إلى المستقبل ؛ ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل ، من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم !

ألا ترى أنه قال أولا: (لقيت عبيدة) بلفظ الماضي، ثم قال بعد ذلك: (فأطعن بها في عينه) ؟!

ولو عطف كلامه على أوله لقال: فطعنت بها في عينه.

وعلى هذا ورد قول تأبّط شرّا :

بأنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْوي ... بسَهْبٍ كالصَّحِيفةِ صَحْصَحان

فَأَضْرِبها بلا دهَشٍ فَخرَّتْ ... صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وللجِرانِ

فإنه قصد أن يصوّر لقومه الحال التي تشجّع فيها على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها مشاهدةً ؛ للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ولو قال: (فضربتها) عطفا على الأول ، لزالت هذه الفائدة المذكورة.

فإن قيل: إن الفعل الماضي أيضا يتخيّل منه السامع ما يتخيله من المستقبل ؟

قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معًا ، لكنه في أحدهما -وهو المستقبل- أوكد وأشد تَخَيُّلا ؛ لأنه يستحضر صورة الفعل، حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه؛ ألا ترى أنه لما قال تأبط شرا : «فأضربها»، تخيل السامع أنه مباشرٌ للفعل، وأنه قائمٌ بإزاء الغول ، وقد رفع سيفه ليضربها ؟! وهذا لا يوجد في الفعل الماضي ؛ لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلا قد مضى ، من غير إحضارٍ للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه . وهذا لا خلاف فيه .

وهكذا يجري الحكم في جميع الآيات المذكورة ، وفي الأثر عن الزبير رضي الله عنه ، وفي الأبيات الشعرية.

وعليه ورد قوله تعالى أيضًا وهو: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)

فقال أولا: (خرّ من السّماء) بلفظ الماضي ، ثم عطف عليه المستقبل الذي هو (فتخطفه) و (تهوي) ، وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهويّ الريح به ، والفائدة في ذلك ما أشرت إليه فيما تقدم ، وكثيرا ما يراعى أمثال هذا في القرآن "

انتهى، باختصار، من "المثل السائر" (2/12).

وقال الطوفي :

"موضعه : ما إذا كان في بعض أحوال القضية الخبرية مشتملا على نوع تميزٍ وخصوصيةٍ ، لاستغرابٍ أو أهميةٍ ، فَيُعْدَلُ فيها إلى المضارع المستعمل للحال ؛ إيهامًا للسامع حضورَها حال الإخبار ومشاهدتَها ؛ ليكون أبلغ في تحققها له" انتهى من "الإكسير" (145).

وقال الشيخ خالد السبت ، حفظه الله :

"والفعل المضارع يدل على الحال أي على وقوع الحدث الآن، وهذه دلالته الأصيلة، ومن هنا كانت صيغته أقدر الصيغ على تصوير الأحداث؛ لأنها تحضر مشهد حدوثها، وكأن العين تراها وهي تقع، ولهذا الفعل مواقع جاذبة في كثير من الأساليب حين يقصد به إلى ذلك، وترى المتكلمين من ذوي الخبرة بأسرار الكلمات يعبرون به عن الأحداث الهامة التي يريدون إبرازها، وتقريرها في خيال السامع ...

وهذا كثير جدا، ومما يبلغ فيه الغاية قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} ، قال: يسبحن والسياق أن يقول: مسبحات؛ لأن التسبيح قد وقع في زمن داود عليه السلام، ولكن لما كان تسبيح الجبال من أعجب الأحداث، وأدلها على قدرة العزيز الرحيم عبر عنها بصيغة المضارع التي نقلت الحدث من الماضي السحيق، وأحضرته في مقام المشاهدة، وكأنه يقع الآن، وكأنك ترى هذا المشهد الجليل من مشاهد القدرة الباهرة.

قال الزمخشري: "فإن قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسحبات؟ قلت: نعم وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك، وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء، وحالا بعد حال، وكأن السامع حاضر تلك الحال يراها تسبح".

فـ "من شأن العرب التعبير عن الماضي بالمضارع؛ لإفادة تصوير الحال الواقع عند حدوث الحدث" انتهى من "قواعد التفسير" (1/290).

وبذلك يتبين الجواب ، لمن جهل أساليب العرب في بيانها ، ومجاري البلاغة في لسانها ، فأنكر أن يعبر عن موت يحي عليه السلام بـ : ( يوم يموت ) ؛ وظن أن التعبير بالفعل المضارع "يموت" ، يقتضي أنه لم يمت بعد ؟!

والله أعلم .