7- مجاهدة النفس على القيام :
وهذا من أعظم الوسائل المعينة على قيام الليل لأن النفس البشرية بطبيعتها أمارة بالسوء تميل إلى كل شر ومنكر فمن أطاعها فيما تدعو إليه قادته إلى الهلاك والعطب ، وقد أمرنا الله تعالى بالمجاهدة فقال : ( وجاهدوا في الله حق جهاده)
وقال سبحانه : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) وقال تعالى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ) وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المجاهد من جاهد نفسه في الله "
رواه الترمذي وابن حبان ، الصحيحة 549 .
وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرجل من أمتي يقوم من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقَد ، فإذا وضأ يديه انحلت عقدة ، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة ، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة ، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة ، فيقول الله عز وجل للذين من وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ، ويسألني ، ما سألني عبدي فهو له "
رواه أحمد وابن حبان ، صحيح الترغيب 627 .
قال محمد بن المنكدر :
كابدت نفسي أربعين عاماً حتى استقامت لي .
وقال ثابت البناني :
كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة .
وقال عمر بن عبد العزيز :
أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس .
وقال عبد الله بن المبارك :
إن الصالحين فيما مضى كانت تواتيهم أنفسهم على الخير ، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره فينبغي لنا أن نكرهها .
وقال قتادة :
يا ابن آدم : إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا بنشاط ، فإن نفسك إلى السآمة وإلى الفترة وإلى الملل أميل ، ولكن المؤمن هو المتحامل .
8- اجتناب الذنوب والمعاصي :
فإذا أراد المسلم أن يكون مما ينال شرف مناجاة الله تعالى ، والأنس بذكره في ظلم الليل ، فليحذر الذنوب ، فإنه لا يُوفّق لقيام الليل من تلطخ بأدران المعاصي ، قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء ؟ فقال : لا تعصه بالنهار
وهو يُقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف ، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف .
وقال رجل للحسن البصري :
يا أبا سعيد : إني أبِيت معافى ، وأحب قيام الليل ، وأعِدّ طهوري ، فما بالي لا أقوم ؟ فقال الحسن : ذنوبك قيدتْك .
وقال رحمه الله :
إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ، وصيام النهار .
وقال الفضيل بن عياض :
إذا لم تقدر على قيام الليل ، وصيام النهار ،
فأعلم أنك محروم مكبّل ، كبلتك خطيئتك .
9- محاسبة النفس وتوبيخها على ترك القيام :
فمحاسبة النفس من شعار الصالحين ، وسمات الصادقين قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) .
قال الإمام ابن القيم :
فإذا كان العبد مسئولاً ومحاسباً على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً ) فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب .
وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله تعالى ، وتجعله قادراً على التغلب على مغريات الحياة الفانية ، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات ، ونامت العيون وتقلب النّوام على الفرش .
ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة ، وسمات النفوس الكبيرة ، وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى : ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) .
وقيام الليل سنة مؤكدة حث النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها بقوله : " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، ومقربة إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم مطردة للداء عن الجسد "
رواه الترمذي وأحمد .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل " ، وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل ، ولم يتركه سفراً ولا حضراً ، وقام صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حتى تفطّرت قدماه ، فقيل له في ذلك فقال : " أفلا أكون عبداً شكوراً "
متفق عليه .
وهكذا كان حال السلف الكرام عليه رحمة الله تعالى ؛ قال أبو الدرداء رضي الله عنه : صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور .
وقال أحمد بن حرب :
عجبت لمن يعلم أن الجنة تزيّن فوقه
والنار تضرم تحته ، كيف نام بينهما .
وكان عمر بن ذر إذا نظر إلى الليل قد أقبل قال :
جاء الليل ، وللّيل مهابة ، والله أحق أن يهاب
ولذا قال الفضيل بن عياض :
أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال : ليس هذا لكِ ، قومي خذي حظك من الآخرة .
وقال الحسن :
ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ، ونفقة المال ، فقيل له : ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً ؟ قال : لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره .
وكان نساء السلف يجتهدن في قيام الليل مشمرات للطاعة ، فأين نساء هذه الأيام عن تلك الأعمال العظام .
قال عروة بن الزبير أتيت عائشة رضي الله عنها يوماً لأسلم عليها فوجدتها تصلي وتقرأ قوله تعالى : ( فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ) ترددها وتبكي ، فانتظرتها فلما مللت من الانتظار ذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت إلى عائشة فإذا هي على حالتها الأولى تردد هذه الآية في صلاتها وتبكي .
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال لي جبريل : راجع حفصة فإنها صوامة قوامة .
رواه الحاكم ، صحيح الجامع 4227 .
وقامت معاذة العدوية من التابعيات الصالحات ليلة زفافها هي وزوجها صلة بن أشيم يصليان إلى الفجر ، ولما قتل زوجها وابنها في أرض الجهاد ، كانت تحيي الليل كله صلاة وعبادة وتضرعاً ، وتنام بالنهار ، وكانت إذا نعست في صلاتها بالليل قالت لنفسها : يا نفس النوم أمامك .
وكانت حبيبة العدوية إذا صلت العشاء ، قامت على سطح دارها وقد شدت عليها درعها وخمارها ، ثم تقول : إلهي ، غارت النجوم ، ونامت العيون ، وغلقت الملوك أبوابها ، وبابك مفتوح ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، وهذا مقامي بين يديك ، ثم تقبل على صلاتها ومناجاتها لربها إلى السحر
فإذا جاء السحر قالت : اللهم هذا الليل قد أدبر ، وهذا النهار قد أسفر ، فليت شعري هل قبلت مني ليلتي فأهني ، أم رددتها علي فأعزي .
وقامت عمرة زوج حبيب العجمي ذات ليلة تصلي من الليل ، وزوجها نائم ، فلما دنا السحر ، ولم يزل زوجها نائماً ، أيقظته وقالت له : قم يا سيدي ، فقد ذهب الليل ، وجاء النهار ، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل ، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ، ونحن قد بقينا .
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته
وصلى الله على نبينا محمد .
الشيخ محمد صالح المنجد