4. إذا لبستَ ما أباحه الله لك من الثياب مظهراً لنعمة الله عليه : فإنك مأجور على ذلك ، ولو كانت ثيابك في غاية النفاسة والرفعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومن تناول ما أباحه الله من الطعام واللباس مُظهراً لنعمة الله ، مستعيناً على طاعة الله : كان مُثاباً على ذلك
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 137 ) .
وقال – رحمه الله - :
ومَن لبس جميل الثياب إظهاراً لنعمة الله واستعانة على طاعة الله : كان مأجوراً ، ومَن لبسه فخراً وخيلاء : كان آثماً ؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 139 ) .
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - :
لبس الدنيِّ من الثياب يذمّ في موضع ، ويحمد في موضع : فيُذم إذا كان شهرة وخيلاء ، ويُمدح إذا كان تواضعاً واستكانةً ، كما أن لبس الرفيع من الثياب يُذمّ إذا كان تكبّراً وفخراً وخيلاء
ويُمدح إذا كان تجملاً وإظهاراً لنعمة الله .
" زاد المعاد " ( 1 / 146 ) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
والذي يجتمع من الأدلة : أنَّ مَن قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه ، مستحضراً لها ، شاكراً عليها ، غير محتقر لمن ليس له مثله : لا يضره ما لبس من المباحات
ولو كان في غاية النفاسة ، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة مِن كِبْر
فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق ، وغمط الناس ) ، وقوله ( وغَمْط ) بفتح المعجمة وسكون الميم ثم مهملة : الاحتقار .
" فتح الباري " ( 10 / 259 ، 260 ) .
5. لا يُلزم المسلم بشراء الثياب الغالية الثمن ، بل قد يُنهى عنه إذا كان لا يجد المال الذي يشتري به ، أو إذا قصد الفخر والخيلاء ، وقد يؤجر على تركه شراء تلك الثياب بشرطين :
أ. أن يكون ذلك الترك للشراء تواضعاً لا بُخلاً .
ب. أن لا يلتزم الترك مطلقاً ، بل يشتريها أحياناً لمناسبة زواج ، أو غيرها ، أو إذا أُهديت له ، والمهم أن لا يلتزم ترك لباسها مطلقاً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومَن ترك لبس الرفيع من الثياب تواضعاً لله ، لا بخلاً ، ولا التزاماً للترك مطلقاً : فإنَّ الله يثيبه على ذلك ، ويكسوه مِن حلل الكرامة .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 138 ) .
6. التوسط في الأمور حسن ، فلِمَ تحصر نفسك بين منعها من الغالي من الثياب ، وبين إلباسها البالي منها ؟! وأين أنت من الثياب الوسط بينهما ؟ .
قال أبو الفرج ابن الجوزي
: كان السّلف يلبسون الثّياب المتوسّطة ، لا المترفّعة ، ولا الدّون ، ويتخيّرون أجودها للجمعة والعيدين وللقاء الإخوان ، ولم يكن تخيّر الأجود عندهم قبيحاً .
انظر " تفسير القرطبي " ( 7 / 197 ) و " الموسوعة الفقهية " ( 6 / 139 ) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله
: " والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر ، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات ؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا ، فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور
كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلى التنطع المنهي عنه ، ويرد عليه صريح قوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } كما أن الأخذ بالتشديد
في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها ، وملازمة الاقتصار على الفرائض ـ مثلا ـ وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة ، وخير الأمور الوسط . "
انتهى من فتح الباري (9/106) .
7. وليس كل ثوب رخيص الثمن يكون لبسه من الزهد ، فأهل العلم والزهد لم يتعارض زهدهم مع اللباس الجيد الرفيع ، ومن نظر للزهد على أنه في الثياب ـ فقط ـ فهو مخطئ
فترى الرجل يتمتع بأنواع الفرش في بيته والسيارات والمأكولات والمشروبات ، ويحصر زهده في ثوبه ونعله ! ولم يكن هذا هدي سلف هذه الأمة من العُبَّاد والزهَّاد والعلماء .
قال القرطبي – رحمه الله -
:
وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها ، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد ، وكان ثوب أحمد بن حنبل يُشترى بنحو الدينار .
أين هذا ممن يرغَب عنه ، ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب ! ، ويقول : " ولباس التقوى ذلك خير " هيهات ! أتَرى مَن ذكرنا تركوا لباس التقوى
لا والله ! بل هم أهل التقوى ، وأولو المعرفة والنُّهى ، وغيرهم أهل دعوى ، وقلوبهم خالية من التقوى .
" تفسير القرطبي " ( 7 / 196 ) .
8. فإن قلتَ إن هذا من جهاد النفس ! وإن أفعالنا إنما تكون لله لا للخلق ! : فالجواب :
قال القرطبي – رحمه الله - :
إن قال قائل : تجويد اللباس هوى النفس ، وقد أُمرنا بمجاهدتها ، وتزينٌ للخلْق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق ! .
فالجواب :
ليس كل ما تهواه النفس يُذم ، وليس كل ما يُتزين به للناس يكره ، وإنما يُنهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه ، أو على وجه الرياء في باب الدِّين .
فإن الإنسان يجب أن يُرى جميلاً ، وذلك حظ للنفس لا يلام فيه ، ولهذا يسرِّح شعرَه ، ويَنظر في المرآة ، ويسوِّي عمامته
ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل ، وظهارته الحسنة إلى خارج ، وليس في شيء من هذا ما يكره ، ولا يذم .
"
تفسير القرطبي " ( 7 / 197 ) .
9. اللباس غالي الثمن يكون – غالباً – أفضل للبدن ، وأطول حياةً ، هكذا الأمر بالنسبة للنعل ، فإنه يكون أكثر راحة للقدمين ، ويعمِّر طويلاً ، فحرص المسلم على راحته وبذل الثمن المرتفع من أجل ذلك : لا يحرَّج عليه فيه .
10. وانظر أخي الفاضل لقلبك وتفقد أحوالك من حيث الأوامر والنواهي ، وإياك أن تجعل ميزانك في قربك من ربك تعالى : قدَم ثيابك وترقيعها
ولذا كان بكر بن عبد الله المزني رحمه الله يقول : البسوا ثياب الملوك ، وأميتوا قلوبكم بالخشية .
وقد ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول
:
أَجِدِ الثيابَ إذا اكتسيتَ فإنَّها
*** زين الرجال بها تُعزُّ وتُكرم
ودع التواضع في الثياب تخشعا
*** فالله يعلم ما تَجنُّ وتَكتُم
فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة
*** عند الإله وأنت عبد مجرم
وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن
*** تخشى الإله وتتقي ما يحرم
وعلَّق عليها ابن كثير بقوله :
وهذا كما جاء في الحديث : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ثيابكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) – رواه مسلم - ، وقال الثوري : " ليس الزهد في الدنيا بلبس العبا
ولا بأكل الخشن ، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل " .
" البداية والنهاية " ( 8 / 11 ) .
والخلاصة :
أن الذي ينبغي للمرء من اللباس هو ما يناسب حاله : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) ؛ فمن لبس رفيع الثياب : إظهارا لنعمة الله عليه
وتمتعا بما يباح له من الطيبات ، من غير إسراف ولا مخيلة ، فله ذلك ، ولا ينقص من قدره ولا ورعه شيئا ، بل يؤجر ـ إن شاء الله ـ على قصده الحسن .
ومن ترك رفيع الثياب ، تواضعا واستكانة لله تعالى ، فهو أمر حسن ، لكن على ألا يخرج من ذلك إلى شيء من الشهرة ، أو يحرم على نفسه
أو غيره ـ شيئا من الطيبات ، أو يفعل ذلك على جهة الالتزام المطلق ، مهما كانت حاله .
وَسُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
: " عَنْ الْمُتَنَزِّهِ عَنْ الْأَقْمِشَةِ الثَّمِينَةِ مِثْلِ الْحَرِيرِ وَالْكَتَّانِ الْمُتَغَالَى فِي تَحْسِينِهِ وَمَا نَاسَبَهَا : هَلْ فِي تَرْكِ ذَلِكَ أَجْرٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْحَرِيرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ ...
وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ : فَيُثَابُ عَلَى تَرْكِ فُضُولِهَا
وَهُوَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ ، كَمَا أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْمُبَاحَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ النَّارِ : { إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } { وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا }
{ إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } . وَالْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَهُوَ مِنْ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ ، وَتَرْكُ فُضُولِهَا هُوَ مِنْ الزُّهْدِ الْمُبَاحِ .
وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا ؛ كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ أَوْ لُبْسِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَلَا يَلْبَسُ إلَّا الصُّوفَ ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ
وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ فَهَذَا جَاهِلٌ ضَالٌّ مِنْ جِنْسِ زُهَّادِ النَّصَارَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }
{ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ
. كَاللَّحْمِ وَنَحْوِهِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَيَقُولُ الْآخَرُ :
أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ . فَقَالَ : مَا هَذَا ؟
قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مُرُوهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ وَأَنْ يَتَكَلَّمَ وَأَنْ يَجْلِسَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ } .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } . فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالشُّكْرِ لَهُ ، وَالطَّيِّبُ هُوَ مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ
وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَهُوَ مَا يَضُرُّهُ ، وَأَمَرَ بِشُكْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ ؛ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظورِ ... "
انتهى من مجموع الفتاوى (22/133-134) .
تنبيه :
وكل ما قلناه عن اللباس فإنه يشمل النعل كذلك ، وقد اجتمعا في حديث ابن مسعود والذي فيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخبره أن الرجل " يحب أن يكون ثوله حسناً ، ونعله حسنة ) .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ) .
رواه النسائي ( 2559 ) وابن ماجه ( 3605 ) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح النسائي " .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ .
رواه البخاري عنه في صحيحه ، في كتاب اللباس ( 5 / 2180 ) .
والله أعلم