منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - تحريـــر محلّ النزاع ..... !!
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-06-24, 01:04   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
علي الجزائري
عضو محترف
 
الصورة الرمزية علي الجزائري
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز لسنة 2013 وسام التميز 
إحصائية العضو










افتراضي


أهمية تحرير محل النزاع:

تظهر أهمية أي مسألة في جانبين: الجانب الإيجابي، والجانبي السلبي.
والمقصود بالجانب الإيجابي: أثر تطبيق المسألة في الواقع.
والمقصود بالجانب السلبي: أثر غياب المسألة في الواقع.

وبالنسبة لمسألة تحرير محل النزاع في جانبها الإيجابي، فلا تكاد تخلو مسألةٌ من مسائل الشريعة،
في أي باب من أبواب العلم، من تحرير محل النزاع، يظهر ذلك في الكتب والمؤلفات قديمًا وحديثًا،
وخاصة الأبحاثَ العلمية الأكاديمية، والمناظرات المكتوبة والمسموعة؛ بل تحرير محل النزاع قبل الخوض
في غمار مسألة من المسائل أصبح من علامات البحث العلمي الدقيق في الجانب البحثي، وقوة المناظر
في الجانب الجدلي، والهدف الوصول للمسألة المراد بحثُها من أقرب طريق، بعيدًا عن الاستطراد خارج
محل النزاع، وإلزام الخصم بنقطة النزاع التي تم تحريرُها؛ وصولاً للهدف من المناظرة، وفي كلا الصورتين
- البحثية والجدلية - ستكون النتيجة وضوح الرؤية للسامع والقارئ دون تشويش أو تشتيت.

والجدير بالذكر أن مسألة تحرير محل النزاع لا ترتبط بالعلوم الشرعية فحسب؛ بل تشمل سائر العلوم الدينية
والدنيوية؛ بل أعظم من ذلك؛ فهي ميزان لرجاحة العقل وسلامته في سائر شؤون الحياة: مع زوجتك وأولادك
في البيت، مع جيرانك وأقاربك، مع أصدقائك ورؤسائك في العمل؛ بل لا تعجب إن قلت لك: مع نفسك؛
فأنت تحتاج تحرير محل النزاع معها.
ورغم أن المسألة تبدو من المسائل العقلية التي يشترك في الاهتمام بها كلُّ باحث، سواء كان مسلمًا
أم غير مسلم؛ غيرَ أن من فضل الله على هذه الأمة أنْ هداها لأقوم السُّبل وأعدلِها، فقد جعل لها الله
ميزانًا عظيمًا، وقواعدَ في منتهى الدقة، جعلتها - بحق - خيرَ أمة أُخرجتْ للناس، فكانت الحضارة
الإنسانية في تقدمها مَدِينة للإسلام بوضع أسس البحث العلمي، الذي حجر أساسه تحريرُ محل النزاع.


أما أهمية مسألة تحرير محل النزاع في جانبها السلبي، فيكفيك حضورُ مناظرة لترى وتسمع العجب العجاب،
وكأنه حديث الطرشان - كما يقول بعض أهل العلم - هذا يتكلم في وادٍ، وهذا في وادٍ آخر، وأعجب من ذلك
لو تبيَّن لك أن كلاًّ منهما لا يتكلم في محل النزاع؛ بل يحشد النصوص من هنا وهناك، وكأنه المعيار للترجيح،
بغض النظر عن هذه النصوص هل تصلح في محل النزاع أو لا؟ ووالله لقد سألتُ أحد المناظرين عن تحديد
محل النزاع في المناظرة التي استمرت لمدة ساعتين، فما عرف موضوع المناظرة أصلاً، فضلاً عن تحرير
محل النزاع؛ بسبب كثرة التفريعات والاستطرادات في الحوار؛ انتصارًا للرأي، وتشغيبًا على المخالف!
ولو ضربتُ الأمثلة في هذا الباب لطال المقام مع المقالة، ولكن لا غنى عن بعض الأمثلة:


المثال الأول: مناظرة في مسألة العذر بالجهل:
يستدل القائل بالعذر بقوله - تعالى -: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150].
فلما قلت له: ما وجه الاستدلال بالآية؟
قال: إلقاء الألواح كفر، والله عذَرَ موسى بالجهل (والعياذ بالله).
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس أحد أحب إليه العذرُ من الله))؛ وهو حديث صحيح.
فقلت للثاني: وما ردُّك على هذا؟
قال: شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، وعندي دليل صريح على عدم العذر بالجهل؛ قال - تعالى -:
{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14، 15].
الإشكال:
عدم البدء بتحرير محل النزاع: ما معنى العذر؟ هل كل عذرٍ معتبر؟ هل الجهل من الأعذار المعتبرة؟
وما معنى الجهل المعتبر؟ وما الدليل على المسألة؟ وما وجه الاستدلال؟ وهل خالف في ذلك أحدٌ؟
وما وجه المخالفة، ومدى اعتبارها؟ وما الردُّ على المخالف؟... وهكذا.


المثال الثاني: في حكم المعازف:
قال أحد المناظرين: المعازف حلال؛ لأن الطيور أصواتُها جميلةٌ ومبهجة للنفس، والمعازفُ كذلك، وبما أنهما
مشتركان في العلة؛ فإن الله لا يفرق بين المجتمِعَينِ، ولا يجمع بين المختلفين؛ كما قال - تعالى -:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فقلت للثاني: ما تقول في ذلك؟
قال: لا أسلم له بهذه القاعدة؛ لأن الله ممكن أن يجمع بين المتفرقات، ويفرق بين المجتمعات؛ لأنه - سبحانه -
لا يُعجِزه شيءٌ؛ قال - تعالى -: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
الإشكال:
عدم البدء بتحرير محل النزاع: ما معنى المعازف؟ وما الدليل على تحريمها؟ وما مدى صحة الدليل؟
وما وجه الاستدلال؟ وهل خالف في ذلك أحد؟ وما وجه المخالفة، ومدى اعتبارها؟ وما الرد على المخالف؟
وهل تعلق الحكم بتحريمها على علة؟ وما الفرق بين الحكمة والعلة؟ وهكذا.


المثال الثالث: مسألة كفر تارك الصلاة:
قال أحد المناظرين: ترك الصلاة ليس كفرًا؛ والدليل قول الله - عز وجل -:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
فقلت له: وما وجه الاستدلال بالآية؟
قال: إن الله يغفر كلَّ شيء إلا الشرك، وتركُ الصلاة ليس شركًا؛ فالله يغفر لتاركها.
فقلت للثاني: وما ردك على ذلك؟
قال: الله يقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، والله لم يشأ أن يغفر لتارك الصلاة؛ لذلك جاءت النصوص
تدلُّ على كفر تارك الصلاة؛ كحديث: ((من تَرَكَ الصلاة، فقد كفر)).
الإشكال:
عدم البدء بتحرير محل النزاع: ما معنى ترك الصلاة؟ هل هو الجحد أو التكاسل؟ وما معنى الجحود؟
هل جحود اعتقاد الوجوب أو جحود العمل؟ وما حد التكاسل؟ وما الدليل على التفريق؟ وما وجه الاستدلال؟
وهل خالف في ذلك أحد؟ وما وجه المخالفة، ومدى اعتبارها؟ وما الرد على المخالف؟ وما معنى الكفر؟
وهل الكفر غير الشرك؟ وهل الكفر يدخل تحت قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}؟... وهكذا.


وهذا - واللهِ - حوارُ طلبة علم - في ظنهم - وليس حوار عامة الناس، والخَطْب ليس في المناظرات فحسب،
ولو كان كذلك، لكان هينًا؛ ولكنه كذلك في الكتب والأبحاث والفتاوى، ونشير إلى مثالين:

المثال الأول: اللحوم المستوردة التي لم يُعلَم تذكيتها:
صاحب كتاب يتكلم عن حكم اللحوم المستوردة، فيحشد النصوص في إثبات أن الأصل في الأشياء الإباحة
ويطيل في ذلك؛ مثل قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وقوله - تعالى -: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]،
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]،
{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]،
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
ويُنهي البحث بعد سرد النصوص بالوصول إلى النتيجة التي لا ينبغي أن يخالفه فيها أحدٌ، وإلا فسيكون
أحد أمرين: إما مكذبًا بالنصوص، أو رادًّا لها، وكلاهما كفر؛ فلا يملك إلا التسليم بكون اللحوم المستوردة
حلال؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
وليس المقام في بسط المسألة، ولكن في ضرب مثال بعدم تحرير محل النزاع، فهل الخلاف في الذبائح
المستوردة دائرٌ على نوع المذبوح، فإن جهلْنا نوعَه، نردُّ المسألة للأصل، والأصل في الأشياء الإباحة -
كما قرر الباحث - يقول ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": "الأصل في الأشياء الإباحة بأدلة الشرع،
وقد حكى بعضهم الإجماعَ على ذلك"["جامع العلوم والحكم"، الحديث الثلاثون، ص 317،]؟
أو أن الخلاف في طريقة الذبح (التذكية): هل هي شرعية، فتصير حلالاً، أو غير شرعية، فتصير ميتة؟
وهذا بعيدٌ كل البعد عن تقرير الباحث، يقول ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" أيضًا: "ومن هذا أيضًا ما أصله الإباحة؛ كطهارة الماء، والثوب، والأرض، إذا لم يتيقن زوال أصله، فيجوز استعماله، وما أصله الحظر؛
كالأبضاع( أي الفروج )، ولحوم الحيوان، فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء
من ذلك؛ لظهور سبب آخر، رجع إلى الأصل فيبنى عليه، فيتبين فيما أصله الحرمة على التحريم؛
ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائدُ أثرَ سهمٍ غيرِ سهمه،
أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في ماء، وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره؟"
["جامع العلوم والحكم"، الحديث السادس، ص 78.].
يقول الشيخ ناصر السعدي:
وَالأَصْلُ فِي الأَبْضَاعِ وَاللُّحُوم تَحْرِيمُهَا حَتَّى يَجِيءَ الحِلّ فالذين يقولون بالحرمة من أهل العلم، لا ينازعونه
فيما يقول، من أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ ولكن ينازعونه في أن ذلك هو محل النزاع.

والمثال الثاني: مصافحة الرجل الكبير للنساء:
فتوى لشيخ: ما حكم مصافحة الرجل الكبير للنساء؟
فيقول: لا بأس؛ لأمرين: الأول: أن هذا الرجل يُؤمَن عليه الفتنة؛ لكبَرِه، والثاني: القياس على القواعد من النساء.
فجعل العلة (أمن الفتنة)، وهو وصف لا ينضبط، وهذا باطل عند أهل الأصول، وقاس على ما هو داخل في محل
النزاع، وجعله أصلاً في القياس، فسلامُ القواعد من النساء على الأجانب لا يصح القياس عليه؛ لأنه يحتاج
أولاً لصحة الاستدلال عليه.
• • •

ملاحظة : هذه الأمثلة؛ للتمثيل على عدم تحرير محل النزاع، فيتوارد النفي والإثبات على غير محل النزاع،
أو على معنى باطل، ولم تُذكر لتحرير محل النزاع فيها.









رد مع اقتباس