ثانياً:
إذا فهمنا هذه القاعدة المهمة في باب أسماء الله وصفاته ، تبين لنا أن الله جل جلاله هو الخالق حقيقة لكل ما في الكون ، لا يشركه في ذلك أحد من خلقه
وأن تسمية بعض خلقه بالخالقين ، لا يعني أنه شريك لله في شيء من خلقه ، أو شبيه له في صفة من صفاته ، بل هذا جار على ما هو معروف من لغة العرب ، من تسمية بعض أفعال المخلوقين "خلقا" .
وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى عن نفسه المقدسة : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون /14
وقوله سبحانه : ( أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) الصافات / 125 .
فقيل : المعنى : أحسن الصانعين . قال مجاهد : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين
.
"تفسير الطبري" (19 / 19)
ورجحه ابن جرير رحمه الله
وقال : " لأن العرب تسمي كل صانع خالقاً ، ومنه قول زهير:
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي
"تفسير الطبري" (19 / 19)
وقال القرطبي رحمه الله :
" ( أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) : أتقن الصانعين . يقال لمن صنع شيئاً : خلقه .
ولا تُنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع ؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم "
انتهى من "الجامع لأحكام القرآن" (12 / 110)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" (الخالق والمصور ) : إن استعملا مطلقين غير مقيدين لم يطلقا إلا على الرب
كقوله : ( الخالق البارئ المصور ) ، وإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد
كما يقال لمن قدَّر شيئا في نفسه ، أنه خلقه . قال :
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي
أي : لك قدرة تُمضي وتنفذ بها ما قدَّرته في نفسك
وغيرك يقدِّر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها ، وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد
في قوله تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين )
أي : أحسن المصورين والمقدرين ، والعرب تقول : قدرت الأديم ، وخلقته : إذا قسته لتقطع منه مزادة أو قربة ونحوها . قال مجاهد : يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين
. وقال الليث : رجل خالق
أي : صانع ، وهن الخالقات : للنساء . وقال مقاتل : يقول تعالى : هو أحسن خلقاً من الذين يخلقون التماثيل وغيرها ، التي لا يتحرك منها شيء .
وأما البارئ : فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه ؛ فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها "
انتهى من "شفاء العليل" (ص 131)
وينظر : "أضواء البيان" ، للشنقيطي (26 / 41) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ما ورد من إثبات خلق غير الله
كقوله تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين )
وكقوله صلى الله عليه وسلم في المصورين: ( يقال لهم أحيوا ما خلقتم )
فهذا ليس خلقاً حقيقة ، وليس إيجاداً بعد عدم ، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال
وأيضاً ليس شاملاً ، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه ، ومحصور بدائرة ضيقة
فلا ينافي قولنا : إفراد الله بالخلق " انتهى .
"القول المفيد" (1 / 1-2) .
ومن ذلك يتبين أن هذه الآية الكريمة ، وما يشابهها، ليس فيها شيء من تشبيه أحد بالخالق سبحانه
فيما يختص به من صفة الخلق ، أو غير ذلك من الصفات ، وأن ما سمي به المخلوق من أسماء الخالق
فإنما تحمل على ما يليق بالمخلوق ، وأما أسماء الله تعالى وصفاته ، فهي على ما يليق بكماله ، وجماله ، وجلاله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
وهذا هو عين ما تدل عليه سورة الإخلاص :
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .
فليس لله من خلقه ، شبيه ، ولا مثيل ، ولا ند ، ولا نظير .
وهذا أصل محكم في دين الله ، لا يعارضه
ولا يشكل عليه شيء من نصوص الكتاب والسنة.
والله أعلم