وأما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – المشار إليه في السؤال فهو قوله :
قد دلَّت نصوص الكتاب والسنَّة : على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب : أحدها : التوبة ، وهذا متفق عليه بين المسلمين ... .
السبب الثامن : ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والرَّوعة ، فإن هذا مما يكفر به الخطايا .
" مجموع الفتاوى " ( 7 / 487 – 501 )
وينظر أيضا : "مجموع الفتاوى" (10/45) .
ثانيا :
إذا كان الإشكال عند السائل هو فيمن لم ينج من عذاب القبر ، من عصاة الموحدين ؛ وكيف أن عذاب القبر سوف يكون تكفيرا لسيئاته ، مع أن ما بعد القبر وعذابه أشد منه ، كما في الحديث ، فيقال في الجواب عن ذلك :
1-أنه لا يلزم من كون عذاب القبر من أسباب المغفرة : أن تكون المغفرة عامة للذنوب جميعها ، بل قد يكون سببا لمغفرة بعض ذنوبه ، ثم يبقى يعذب ببعضها الآخر ، وعذابه في جهنم لا شك أنه أشد مما مر عليه في قبره ، خاصة إذا كان عذاب القبر قد استمر مدة ، ثم انقطع ، ولم يبق متواصلا معه إلى البعث . ولذلك يقول العبد الفاجر ، أو المنافق ، وهو من أهل التشديد عليه في القبر وعذابه ، يقول حين يرى مقعده من النار : ( ربِّ لا تُقِمِ الساعة )
رواه أحمد (18063) وصححه الألباني .
2-ولعل مما يقوي ذلك أن عذاب القبر قد ورد في ذنوب معينة ، فيكون تكفيره لهذه الذنوب التي عذب بسببها ، كما لو أقيم عليه الحد في الدنيا .
3- هذا الذي مر في الوجهين السابقين إنما يقال على تقدير ثبوت النص الشرعي بأن عذاب القبر هو كفارة لصاحبه ، فيجمع بين النصوص الواردة في ذلك ؛ أو على تقدير أن أهل العلم يقررون ذلك ، فيوضح به مرادهم ؛ وإلا فنص شيخ الإسلام ابن تيمية المذكور أعلاه ، ومثله نصوصه التي وقفنا عليها في أكثر من أربعة مواضع من كتبه ، لم نر في موضع واحد منها تصريحه بـ ( عذاب القبر ) وأنه من أسباب المغفرة ؛ بل الذي تم الوقوف عليه هو ما ورد في النص المنقول ، ومثله قوله في موضع آخر : " ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين .. "
" منهاج السنة" (6/146) .
وهو ما يقرره ـ أيضا ـ تلميذه الإمام ابن القيم ، حيث يقول ـ في سياقه لنفس الأسباب العشرة لتكفير الذنوب ـ : " ... وبالامتحان في البرزخ ، وفي موقف القيامة.. " انتهى .
"إعلام الموقعين" (2/304) .
ولا شك أن فتنة القبر ، وضمته ، والامتحان فيه : هي أعم من العذاب الخاص بالقبر ؛ فالمحنة ، وهول القبر وروعته ، وضمته : هذه عامة لكل أحد ، والعذاب بمعناه الخاص الذي هو عقوبة على ذنوب معينة : ليس عاما لكل أحد ، كما هو ظاهر معلوم .
وكما أننا لا نستطيع أن نفهم ، أو على الأقل : لا نستطيع أن نجزم ، بأن مراد شيخ الإسلام هو الحديث عن العذاب الخاص ، لأن ظاهر كلامه ، وكلام تلميذه ، إنما هو على أهوال القبور وفتنتها ، فكذلك لم نقف على نص خاص يصرح بأن عذاب القبر هو تكفير لسيئات من يصيبه.
وحينئذ : فلا إشكال ولا تعارض بين النصوص ، ثم إن الحديث المشار إليه في السؤال لا يشكل على كلام شيخ الإسلام وتقريره ؛ فلا شك أن من نجا من فتنة القبر ، وأفلح في جواب الملكين : قد عجل الله له البشرى في قبره بالتثبيت ، ووعده الحديث المذكور بأن يكون ما بعده أهون له ، وأسهل عليه .
والله أعلم .