منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-16, 22:15   رقم المشاركة : 38
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

جماليّة الإيقاع في المعلّقات


لماذا نقف هذه المقالة على الإيقاع في المعلّقات؟ وهلاّ انصرفْنا إلى سَوَائِهِ ممّا قد يكون أهمّ منه شأْناً، وأَخْطَرَ أمْراً؟ لكن أي شيءٍ يمكن أن يكون أهمّ من الإيقاع في مُدارسَةِ النص الشعريّ وتحليله؟ وإذا سلّمنا بأهمّيّة هذا الإيقاع، ومالنا إلاّ أن نسلّم بذلك؛ فماذا يمكن أن يُلاصَ، لدينا، منه: وقد قرّرْنا اختصاصَه، في هذه الدراسة، بهذه المقالة، على حِدَةٍ؟ أيُلاَصُ منه الحديثُ عن التركيبِ العَروضيّ الخالِص، أمْ أنَّه ذَهابٌ إلى مايمكن من المذاهب في تأويليّة الصوت، ودلالة النغَم، وتناسق اللّفظ، وائْتِلاف التركيب؟ ثمّ هل يمكن ربْطُ الإيقاع بالنسج، والنسج بالإيقاع، وتعليل لماذيّة هذا، بلماذيّة ذاك؟
وعلى أنّا لا نريد بمفهوم الإيقاع إلى الميزان العروضي بالمعنى التقني للاصطلاح الخليليّ. فإنّما العَرَوض تنهض على التماس الميزان الدقيق، وإنما كان الميزان دقيقاً، في الأعارِيض، لأنه ينهض على تَقدير زَمنّي شديدِ الصرامة. فكأنّ العَروضَ تعني، قبل كلّ شيء، حساب الزمن، ودقّته وصرامته، مَثَلُها مثلُ الموسيقى في تحديدِ أنغامِها، وضبط ألحانِها، بالميزان الصوتيّ الدقيق.
وإذاً، فليس الإيقاعُ الذي نريد إليه: ذلك؛ ولكنه مجموعة أصوات متجانسة متناغمة، ومتشاكلة متماثلة، ومتضافرة متفاعلة: تتشكّل داخل منظومة كلاميّة لتجسّد، عبر نظام صوتيّ ذاتيّ ينشأ عن تلقائيّات النسج بالسِّمِاتِ اللفظية، نِظاماً إيقاعِيّاً يقع وَسَطاً بين دقّة العروض في ميزانها، وتساهل النثر في فوَضْاهُ.
ويختلف الوزن عن الإيقاع لدى منظّري الشعر اختلافاً محسوساً بحيث إنّ الوزن ينصرف معناه إلى انقسام إبداع موسيقيّ إلى أقسام: يكون لها، كلّها، المدّة الزمنيّة نفسها: تتوزّع بينها على سَواءٍ، على حين أنّ الإيقاع يتشكّل من انقسام، من جنس آخر، مختلفٍ عنه كلّ الاختلاف، ومِقدّرٍ لأقسام التركيب الماثل: مُدَداً زمنيّة ليست بالضرورة متساوية"(1).
وأياً كان الشأنُ، فإنه لا يمكن تحليلُ أيّ نصٍّ شعريّ دون المَعاج على إيقاعه لمُدارسَةِ جماله، وتحديد عناصر هذا الجمال، وبلْوَرَةِ علاقة التعاطِي والتضافر فيما بينها، عبر ذلك النّصّ، ويمكن الخوض، أثناء ذلك، في تأويل علّة اختيار ذلك الإيقاع بذاته، أو اختيار تلك الطائفة من الإيقاعات الجزئيّة التي تشّكّل، في مُثولها العامّ عبر النص الشعريّ المطروح للتحليل، نظام الإيقاع المركزيّ الذي غالِباً ماتكون وظيفتُه جماليّةً أولاً، ثم دلاليّة آخِراً.
وينشأ عن تمثّلنا لهذا الإيقاع وربطه بفنيّة الجمال، ثمّ ربط جماليّته بالدلالة: أنّا نتناوله تحت إجراء التأويليّة، وذلك كيما نتّخذّ في قراءتنا، وقد نكون، في بعض ذلك، على قدر كبير من الحق، حرّيَّةَ التمثُيلِ في قراءة الإيقاع عبْرَ نصّه الماثل فيه. أي أنّنا لا نزعم أنّنا نخضعه لسلطان نظريّة علميّة صارمة، ولكننا نزعم أنّنا نُخضعه لإجراءِ التأويليّة القائم، أساساً، على التعامل مع النّصّ الأدبيّ بحرّيّة تنهض على التماس المخارج والمَوالج للنّصّ، والسلوك بقراءته في مُضْطَرباتٍ جماليّة وسيمائَيِاتيّةٍ: تكون في الغالب مفتوحةَ الحدود، غير منغلقة الآفاق.
ولعلّ التأويليّة -أو الهرمينوطيقا بلفظها الأصليّ- جاءت إجراءً فعّالاً لتخليص النقد الأدبيّ الذي القراءة الأدبيّة فرع منه: من بعض وَرْطتهِ حيث إنّه ما أكثر ما كان يدّعي لنفسه الموضوعيّة، تحت عقدة الموضوعيّة العلميّة، بينما لا يكاد يمتلك من تلك الموضوعيّة إلاّ قليلاً، وذلك بحكم انتمائه إلى حقل العلوم الإنسانيّة التي لايُبَرْهَنُ فيها، ولدى تحليل ظاهرة معيّنة منها - على صحّتها أو زَيْفَها- بَرْهَنةَ علميّة صارمة، كما يبرهن على صحّة نظريّة فيزيائيّة، أو رياضياتيّة...
فلعلّ، إذن، التأويليّة بإجراءاتها المتفتّحة، أن تكون من بين الأدوات الحداثيّة التي اجتهدت في أن النقدَ، ممّا كان متورِّطاً فيه من أَبَوِيَّةٍ وأستاذيّةٍ واستعلائيّة، كما تنقذ، نتيجة لذلك، النصّ الأدبيّ من ذلك البَلاء الذي كان يَمْثُل في إصدار أحكامِ القيمةِ القائمة على التماس الجودة أو الرداءة في العمل الأدبي، لدى قراءته، بالضرورة...
أوّلاً: أثر الحميميّة في تشكيل الإيقاع الداخليّ
إنّا حين نَقْتَرِئُ نُصوص هذه المعلّقات لنحاول تسجيل شيء من الملاحظات حوال إيقاعِها، استبان لنا، ولا نقول استكشفْنا، أنّ البنية الإيقاعيّة الداخليّة لهذه النصوص ربما أمكن حصرُها في مجموعتينْ اثنتيْن من المعلّقات: معلّقاتِ امرئِ القيس، وطرفة، وعنترة من وجهة، ومعلّقات لبيد، وزهير، وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة، من وجهة أخراة.
وقد يكون من القصور، في إنجاز التحليلات الإيقاعيّة على الطريقة الحداثيّة، أن نتحدث عن مجرّد الإيقاع الخارجيّ الذي كثيراً ماينصرف لدى الناس إلى مجرد مايطلق عليه العروض: إما الرويّ في حال، وإمّا القافية في حال أخراة: ثم نَتَّرِك الروافد الخلفيّة الثرثارة التي تمدّ هذا الإيقاعَ بالأنغام، وتمكّن له في الحَصْحَصَةِ والقِيام. إنَّا لو جئنا ذلك لكان سعْيُنا مُجَرّدَ ملاحظات ساذَجة، وتقريرات فجّة، إن لا نقل فاسدة، وهل يجوز جَنْيُ الثمرة، وقطع الشجرة؟ إِنّ أيَّ إيقاع، حين ندارسه ونداخله، لا مناص لنا من العودة إلى الخلفيّات اللّفظيّة (نحن هنا ندارس نصَّاً أدبيَّاً لا منغومة موسيقيّة، ولذلك فإنّ المادّة الإيقاعيّة تتمثّل في مادّة الألفاظ وما تأتلف منه من حروف تجسّد أصواتاً هي بمثابة الأنغام في علم الموسيقى...)، والتي تشكّل هيكله الصوتيّ العامّ...
فلماذا اصطنع امرؤ القيس الإيقاع الخارجيّ الوطيءَ الصوت (الرويّ المكسور)؟ وهل كان ذلك مجرّد مصادفة واتفاق؟ ولكن مَنْ مِنَ الحُذّاق يذهب إلى عفويّة مثول الفنّ؟ وحتى إذا كان ماحدث من نسوج نغميّة، كان في الأصل، افتراضاً، مصادَفَةًً وعفواً: فكان بمثابة الصوت الذي يصدر عن الحنجرة، والنظرة التي تصدر عن الطرْف، والشذى الذي يعبق من الورد... فإنّ من حقّنا، ومن واجبنا أيضاً، ونحن نقرأ: أن نقرأ النصّ الأدبيّ على غير ماكان لاصَ النّاصُّ، وعلى ما لم يكن فكّرَ فيه قط، إذّ من حقّنا البحث عن اللاَّمحدودِ في الدلالات التي ضمّنها المؤلّف نَصَّهََ، كما أنّ من حقِّنا البحثَ أيضاً عن اللاّمحدودِ في المعاني التي جَهِلَها المؤلِّف (2)، أو تلك التي لم تَدُرْ له بِخلَدٍ.
ذلك بأنّ الغاية من القراءة لم تعد، كما يقرّر ذلك امبرتو ايكو، مقصورةً على جانبها التجريبيّ فحسب (ارتضاؤها بالاقتصار على تحقيق هدف يتمثّل فيما يمكن أن يطلق عليه سوسيولوجيّة التلقّي): ولكن إبراز وظيفة التطنيب (البناء) والتقويض (أي مايطلق عليه النقاد الحداثيّون في شيء من القصور: التفكيك) للنّصّ الذي تتولّى القراءةُ النهوضَ بِلَعِبِهِ: بما هو وظيفة فاعلة وضرورية لإنجازِهِ كما هو (3).
أرأيت أنّنا يمكن أن نقرأ النص الأدبيّ، إذا ركضنا به في مضطَربِ التأويليّة الرمزيّة، على نحوين اثنين:
1- بالبحث عن اللاّمحدود في الدلالات التي كان المؤلّف ضمّنها نصّه.
2- بالبحث عن اللاّ محدود في المعاني، أو الدلالات، (وذلك هو الذي يعنينا في تحليل مسألة الإيقاع في المعلّقات، وفي كلّ الجماليات السيماءَوِيَّةِ التي نطرحها من هذه القراءة من حولها التي جَهِلَها المُؤَلِّفُ (والتي أْنَتَتجَتْ- كذلك نريد أن نُعَبِّرَ- احتمِالاً، من المتلقّي، ولكن دون أن نعلم ما إذا كان ذلك نتيجة، أو قصوراً، عن مقصديّة النّاص)(4).
والمشكلة المنهجيّة التي قد تظلّ قائمةً لزمن بعيد، تَمْثُلُ في هاتين المُساءلتينْ الاثنتين:
1- هل يجب أن نبحث في النّص عمّا كان المؤلّف يريد قوله؟
2- أو يجب البحث في النّص عمّا يقوله هو، لا عمّا يقوله صاحبُه؟
أي أننا في الحال الأخيرة نعالج النص الأدبيّ بمعزل عن مقصديّات مؤلّفه.
وفي حال التسليم بالاحتمال الثاني للقراءة، فإنّ التعارُضَ، حينئذٍ، سيحدث بين:
أ- هل يجب أن نبحث في النّص عمّا يقوله النصّ بالإحالة على نَسَقِهِ السياقيّ، وبالإحالة على وضع أَنْسِقَةِ الدلالة التي يُحيل عليها؟
ب- أم هل يجب أن نبحث في النّصّ عمّا يجده فيه المتلّقي بالإحالة على أَنْسَاقِ دلالته و/أو بالإحالة على رغباته، أو قابليّة ميوله، أو مشيئاته الممكنة...؟ (5).
ويبدو أنه من الأمثل للقارئ، وللنصّ المقروءِ، وللمؤلف الذي كان أبدع النص: من الأمثل للجميع أن تكون القراءة على المذهب الثاني.
وإذن، فلِمَ الإيقاعُ الخارجيّ في معلّقة امرئ القيس وطيء الصوت، بتعبيرنا؟
إنّا ونحن نجتهد، ولا نملك إلاّ قولَ ذلك، في الإجابة عن هذا السؤال المعرّفي الإجرائيّ معاً: ربما نكون قد أجبنا عمّا لم نطرحه من سؤال، من قبل، وهو: ومابال الإيقاع الخارجيّ، وإنما غايتُنا، في هذه الفقرة من البحث، تحليلُ الإيقاع الداخلي أساساً؟
والحقّ أنّ الفصل بين الداخليّ والخارجيّ من الإيقاع لم يكن إلاّ إجراء تيسيرِيَّاً للمتلقيّ، وإلاّ فَهُما، في الأصل، مندمجٍان، منسجمان، متزاوجان متكاملان، بحيث لا يكون الأوّل إلاّ بالآخر، وإن أمكن كَوْنُ أحدِهما فما كان ليكون إلاّ ضعيفاً هَشاً وهزيلاً فَجَّاً.

لقد لاحظنا أنّ امرأ القيس ابتدأ أوّل حرف في معلّقته بالصوت المخفوض: قِـ +فا... فكان، أو كأنّ ذلك كان، بمثابة إعلان عن هويّة المنظومة الإيقاعيّة عَبْرَ هذا النص الشعريّ العجيب... ولقد ازداد ذلك رُسوخاً بورود خفض واحد على الأقل في كلّ السمات اللفظيّة التي يتألّف منها البيت الأول من المعلّقة المرقسيّة- إلاّ ظرفاً واحداً كان يجب أن يظلّ مبنياً على الفتح هنا:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فحَوْمَلِ
إنّ الصوت الأوّل في النّص كأنّه يأتي بمثابة إعلان عن الهويّة الإيقاعية للصوت الأخير فيه. والصوت الأوّل في البيت، يؤذن بالهويّة الإيقاعية للصوت الأخير منه...
إنّا نُحِسُّ، منذ الوهلة الأولى، أنّنا أمام نظام إيقاعيّ مُتماسِكٍ تتركّب أنغامُه، خصوصاً، من أصوات وطيئة (من مخفوضات متلاحقة). ولكن هذه الأصواتَ المنخفضة المتلاحقة، المتضافرة المتغافصة، والآخِذَ أوّلُها بتلابيب آخرها: هي، في نهاية الأمر وأوّله أيضاً، جزء من نظام صوتيّ تقوم جماليَّتُه على حميميّة المضمون، وعلى سياق الحال، فأفضى إلى نظام للتركيب الإيقاعيّ الداخليّ الذي هو بمثابة الخزّان الجماليّ للإيقاع الخارجيّ الذي ماكان ليأتي، في الحقيقة، إلاّ تتويجاً لهذه الخلفية المتناغمة التي ازدانت بها منطوقات هذه القصيدة.
ولقد نؤول أنّ الصوت المخفوض، أو المنكسر، أو الوطيء، هو أليق بالذات، وأولى بحميميّتها من سَوَائِهَ في هذا المَقام، وذلك على أساس أنّه يتلاءم، في اللغة العربيّة، مع ياء الاحتياز ( ياء المتكلّم) الدّالّة على الامتلاك والأحقّيّة. وَلِمَّا اقتنعْنا بهذا التمثّل ربطناه بنصّ معلّقة امرئ القيس الذي بصرف الطرف عن الأحشاء، والأعاريض والأَضْرُبِ، والأضْرُبِ، بلغة العَروضيّين، أو الفونيمات بلغة الصَّوْتانِيّينّ، والتي تمثّل أواخِرَ المصاريع خصوصاً - وهي تمتدّ على مدى نصّ المعلّقة -فإنه اشتمل على سِمَاتٍ لفظيّة كثيرة: إمّا لأنّها تنتهي بصوت وطيء، أو منخفض، وهو الصوت الذي زعمنا أنه يرتبط بالذات، ويتمحض لباطن النّفس، وذلك لأنه كثيراً مايرتبط بياء الاحتياز؛ وإمّا لأنّها تدلّ على حميميّة المدلول.
إنّ الإيقاعَ الداخليّ، كما يجب أن يتبادَرَ إلى الأذهان، نقصد به إلى العناصر الصوتيّة، أو السمات اللّفظية، التي تأتَلِفُ منها الوحدة الشعريّة (البيت) بِجَذاميرها، والتي تشكّل هي في ذاتها، مع صِنْوَتِها، هيئة النص الشعريّ المطروح للقراءة، بحذافيره.
وقد كُنّا لاحظّنا منذ قليل أنّ هذا الإيقاع، في تشكيلاته الكبرى، يتحكّم فيه الصوت المنخفض الدالّ، في رأينا، على الانهيار، والبّثّ، والحزن، والحرقة، وإذا غَضَضْنا الطْرف عن الصوت الساكن الذي لا يأتي في الكلام إلاَّ لِلْحَدِّ من الحركة الصوتيَّة وقمعها، أو التلطيف من غلوائها وعنفوانها؛ فإنّ العناصر الصوتيّة المنخفضة، هنا، هي السائدة المهيمنة، والماثلة المتحكِّمة. ولعلّ هذا الأمر أن يندرج ضمن هذا الوضع المتدّنّي لمعنويّات
يندرج ضمن هذا الوضع المتدّنّي لمعنويّات نفس النّاصّ.
ونحن حين جئنا نتابع العناصر اللفظية المُفرزة للأنغام، ونتقصّى طبيعة أصواتِها، ألفينا مالا يقل عن عشرين عُنْصَراً اتّخذ له الصوت المفتوح (منها اثنا عشر صوتاً مفتوحاً ممدوداً):
قِفَا- ذِكْرَى- اللِّوَى- بَيْن- فَتُوضِح- رسْمُها- لِمَا- نَسَجَتْها- تَرَى- بَعَرَ- عرصاتِهَا- قِيْعَانِهَا- غَدّاةَ- يَوْمَ- لَدَى- بِهَا- عليَّ- لا- وإنَّ- عِنْدَ (وقد رصَدْنا ذلك من الستة الأبيات الأولى من المعلّقة).
ودلّت الهيمنة النسبية للصوت المفتوح على أنّ حال الشاعر كانت تستدعي البثّ والشكوى، والحنين والبُكى، لأنّ الذين يَشْكِي أو يبكي مضطرّ، في مألوف العادة، إلى أن يرفع عقيرته كَيْما يَسْمَعُهُ الناسُ ويلتفتوا إليه. ولأمر ما كانت حروف النداء، في اللغة العربيّة، مفتوحةً كلّها (أ- أيْ- يَا- أيّا- هيّا....): ولعلّ ذلك من أجل أن يُسمَع المُنادِي حاجته، ويبلّغَ لهم رسالتَه، وَيَسْتَبين عمّا في نفسه من كوامِنِ الأسرار، ومكنون الأخبار، الدعاءُ مدٌّ للصّوت، والشكوى مدٌّ، أيضاً، لهذا الصوت، والحنينُ، من بعض الوجوه، مَدٌّ للصوت. ويكون الصوت في مثل هذه الأطوار مفتوحاً لينفتح به الفم، ولتنطق به الحنجرة حال كونها مفتوحةًً، ولتنادي به العقيرة في الهواء، ولترتفع به في الفضاء.
أمّا العناصر الصوتيّة المنخفضة الأخرى، والمشكّلة للإيقاع الداخليّ، أو لكثير منه، في الطليّة المرقسيّة؛ فإنها بلغت، هي أيضاً، زهاء ثمانيةَ عَشَرَ عنصراً صوتيّاً، وهي (وراعينا في ذلك النطق الفعليّ، لا الحالة النحويّة في مثل "في"، وفي مثل "كأنّي"): نَبْكِ- ومنزل- بسِقْط- الدُّخولِ- فَحَوْمَلِ- فالمقراةِ- وشمأَل- الاْرآمِ- في -فُلْفِل، كأنّي- البينِ -سَمُراتِ- الحيِّ- الحيّ- حَنْظّلِ- صَحْبِي- وتجَمَّلِ- شِفَائِي- مُعَوَّلِ.

وإذا توسّعنا في استقراء القراءة وجاوزّنا بها الستةَ الأبيات الأولى إلى مابعدها نصادف سِماتٍ كثيرةً تنتهي منخفضةَ الصوت. ودالّة على الحميميّة والامِتلاك.. مثل قوله: (شِفائِي- دَمْعي- مِحْمَلي- مَطِيَّتي- يا امرأ القيس- بعيري- ولا تُبعِديني- وتحْتي- صَرمْي- أغرّكِ- مِنّي- حُبَّكِ- ساءَتْكِ- فسُلّي- ثيابِي- أمْشي- فُؤادي- هواكِ- فيكِ- مِنّي- حَرْثي- أغتدي- بعيني- أصاح- وصَحْبَتِي...
وإذا حقّ لنا أن نؤوِّلَ هذا السعيَ الماثل في النّص، فسيكون، مثلاً، أنّ الناصّ إنما اصطنع الأصوات المنخفضة على دأبه في التعامل مع المنخفضات من الأصوات، من أجل أن يدلّ بها، في رأينا على الأقلّ، على انقطاع الماضِي، وموْت الزمن الفائت، وذهاب الحال، واستحالة الأمر. وقد لاحظنا أنّ الأصوات المكسورة [والمكسور، من الوجهة اللغويّة، مقهور- ومن الوجهة الإحصائية] متقارِبَةُ العدد مع الأصوات المفتوحَةِ الآخِرِ: ولعلّ ذلك لتناسب حالة الحنين والشكوى والبثّ المعبَّر عنها بالأصوات المفتوحة الممدودة، وغير الممدودة، بحالة الزمن المنقطع، والماضي المندحر، والأمس المندثر.
فهناك إذن تلاؤُمَ تامّ، وانسجامٌ عجيب، بين الأصوات المنفتحة، أو الأصوات الممتدّة إلى نحو الأعلى، والأصوات الممتدة إلى نحو الأسفل: في التعبير عن الراهن من الحال، والدّلالة على الوضع القائم في ذات الناصّ ونفسه.
وهناك سمات صوتيّة أخراةٌ تَرِدُ في النسج الداخلي للإيقاع، بعضها حميميّ خالص، وبعضها له صِلَةٌ بالحميميّة حين يُذابُ في النسيج العامّ للنّصّ، وذلك مثل: عَقَرْتُ- دَخلْتُ- فقُلْتُ- فألهَيْتُ+ها- تمتَّعْتُ- تجاوزْتُ+ فجئت-خرجت+ هصرت-فقلت- جعلت- قطعت+ه- فقلت. -طرقت.- عقرت...
ومثل:
بنا- وراءنا- أثرَيْنا- يا (امرأ القيس)- وما (أن أرى)- انتحى- بنا- أرخى- عصامها- لمّا- عَوَى... إنّ الصوت الخارجيّ (الرّويّ) الطاغِي على النّصّ ليس إلا صورة للأصوات الداخليّة المُتتالية المتناغمة، والتي تتّخّذ لها سَلالم صوتيّة مختلفة بين الامتداد المفتوح، والانكسار المخفوض، وكُلُّها ذو صِلَةٍ بحميميّة النفْس، وجوانيّة الذات للناصّ: التي كانت بمثابة المُرْتَكَزِ الحصين الذي يرتكز عليه الصوت الخارجيّ، وإذا وَفُرَ للإيقاع، بنوعيهْ، أصواتٌ داخليّة تدعمّه وتُثريه، وصوت خارجي، يُزِيْنُه ويُؤْوِيه، كان غنيّاً سَخِيّاً، وطافحاً عبقريّاً.

والحميميّة التي ردّدناها، والتي نردّدها كًثيراً في هذه المقالة، كما رأينا بعد، ترتبط ارتباطاً داخليّاً بنفس الناصّ، وحُبّه، وسيرته، وهمومه، فالذات، في هذا النّص، هي الطاغية؛ إذ لم يكد يخاطب إلاّ بعض أصحابه، وبعض حبيباته، وبعضَ ليلهِ، وبعضَ ذئابه (على الرغم من أنني أذهب مع من يذهبون من القدماء، إلى أنّ الأبيات الأربعة التي يتناول فيها الذئبَ ومحاورته ليست له). وماعدا ذلك فصوت الناصّ هو الطاغِي، وذاتيّته هي الطافحة، وحميميّته، هي البادية الماثلة.
إنّ الإيقاع في معلّقة امرئ القيس لم يكن، من منظورنا على الأقلّ، اعتباطِيّاً تركيبُه، ولكنه ينهض على نظام صوتيّ موظّف عبر النسج الشعريّ بحيث نلفي الدالّ -وهو السمة التي تمثّل الصوت- يُحيلُ على المدلول؛ والمدلول يحيل على الدّالِّ، في انتظام وانسجام، وتناسق والتحام.
ولا يُصادفنا إلا شَيءٌ من ذلك حين ننزلِق إلى الحديث عن معلّقة طرفَة التي تطالعنا فيها حميميّة طاغية. وإنما قلنا: طاغية؛ لأنّ دوالَّها أوفرُ كثرةً، وأوسَعُ انتشاراً في هذا النصّ، من معلّقّة امرئ القيس نفسها، كما نصادف فيها فيْضاً من "الفونيمات" المنخفضةِ الأصواتِ التي كانت هي أيضاً بمثابة خزّانِ سخيّ للمنظومة الصوتيّة العامّة التي يتركّب منها نسج المعلّقة. ومن العجيب أنّ أوَّلَ حرف، في أوّلِ لفظٍ، في أوّل بيْتٍ، في هذه المعلقة يبتدئ بالخفض: مثل أوّل حرف، في أوّل لفظ، في أوّل بيت -أيضاً في معلّقة امرئ القيس، حَذْوِ النعلِ بالنعلِ. ونلاحظ في نصّ طرفة أيضاً فئتين اثنتيْن من الأصواتِ: فئة الأصوات المنخفضة، وهي التي تركض، فيما نزعمه، في مركض الحميميّة التي تَسْتَمِيزُ بها قصيدة طرفة، وفئة الألفاظ التي وإن لم تكن منخفضة من حيث هي سِماتٌ صوتية، إلا أنها دالة على ذلك من حيث هي مدلولات.
ويمكن أن نمثّل للفئة الأولى ببعض مايلي:
صَحْبي-وإنّي- صاحِبي- تَبْغِني- تلْقَني- تلتَمسْني- تُلاقِني- تَشْرابي -ولذَّتي- وبِيْعي- وإنفاقي- طريفي- ومُتْلَدِي- تحامَتْني- سْبقي- وكَرّي- فَما لي- أرانِي- وابنُ عَمِّي- عَنّي- يلومني- لامَنَي- وأيأسَنِي.... وهلمّ جرّا ما تَكَلُّفُ إدراجِه، كلّه، قد يثقل كاهِل هذه المقالة، ويمدُّ في طولها، فعسى أن يكون هذا التمثيل كافياً لمن أراد أن يتابع ذلك في معلّقة طرفة حيث وصلّنا به، نحن، إلى زهاء إحدى وستّين حالة منطلقة من ذات الناصّ، أو صابّة في فيضه الذاتيّ الثرثار.
أمّا الشقّ الثاني لحميميّة هذا النّصّ، تلك الحميميّة التي نربطها بالإيقاع الخارجيّ المنخفض الصوت: فيتمثّل، هو أيضاً، في فيض من السِّمات الصوتية الضاربة في هذه الحميميّة، الحائلة عليها، أو المنطلقة منها، وذلك مثل:
وإنّي -لأمْضي- وإن شئتُ- وإن شئتُ- وإن شئْتُ- أمْضِي- خِلْتُ- أنّني- عنيت- لم أكْسَلْ- لم أتبلَّدْ- أحَلْتُ- ولسْتُ- أَفِرْدْتُ- رأيت- أبادر- أحفل- أرى- أرى- أرى- أدرى- نشدت- أغفل- قرّبت- وأنْ أدع- أكُنْ- أشهدَ- أجهدَ- أسقهم- أحدثته... وهلمّ جرّا ممّا عَفَفْنا عنه من ألفاظ أخراةٍ باقية كثيرة تدلّ على حميمية المعنى، وذاتيّة المدلول، ويكون لها أثناء ذلك دور في إغناء الإيقاع بالأنغام الصوتية المتماثلة، أو القريبة التماثل...
ويأتي عنترة في المرتبة ذاتها، أو في مرتبة من الحميميّة قريبة من مَرْتَبَتَيْ ضَرْبَيْهِ امرئِ القيس، وطرفة. وواضحّ أنّ ذلك يعود إلى طغيان الذاتيّة لدى هؤلاء الثلاثة المعلّقّاتيّين لأنّ غايتهم، من قول الشعر، لم تكن للحكمة أساساً، ولا لالتماس صلح بين قبائل متحاربة (زهير)، ولا لالتماس الفخر بالقبيلة والتغنّي بأمجادها (عمرو بن كلثوم)، ولا لتجسيد اللوم والتثريب، والتوبيخ والتقريع، لخصوم القبيلة (الحارث بن حلّزة)؛ لكنّها كانت للتعبير عن النفسْ، والترويح عن القلب، والتغنّي بالذّات، ووصف ماله صلة بها كالرّكوبة، والحبيبة، والفَرَس، ومجالس اللهو، والشراب...

علاقة الإيقاع بالنسج الشعرّي لدى عنترة
ولمّا كانت الميم شَفَويّةً، فكأنها حرف الذات، وصَوْتٌ للنفس، إذ الشفتان تنضمّان عليه كما تنضّم الرّحِمُ على الجنين، وكما ينطوي الكِمُّ على الوَرْدَةِ قبل أن تنشق عنه، وكما يَشُّدُّ كُلُّ امْرئٍ على ذي قيمة. ونلاحظ أنّ الميم حين تكسر، تظلّ محتفظة بالصوت، وحين تخرجه، لدى نهاية الأمر، تُلْقِيَ به نحو الأسفل، نحو القلب، نحو الجوانح... كذلك نتمثّل أمر وظيفة هذا الصوت... على حين أنّه حين يُفْتَح، يطيرُ به الصوت في الهواء، وينتشر في الفضاء. أمّا حينَ يُضَمُّ، فإنّه يتلاشى في الهواء، ولكن نحو الأمام من وجهة، ولمَدَّى من الانتشار، يقلَّ عن الانتشار الذي يتمخّض للصوت المفتوح -وخصوصاً حين يمتدّ- من وجهة أخراة.
من أجل كلّ ذلك وافَقَ صوْتُ الميم المنخفض دلالة النسج على المدلول، وهو هذه الحميميّة التي تصادفنا في معلّقة عنترة حيث إنّ هناك مالا يقلّ عن ستٍّ وسبعين حالةً يقترن فيها السِّمَةُ الصوتيّة بياء الاحتياز، أو همز الأَنَا، أو تاء المتكلّم، أو مافي حكم ذلك.. ممّا يجعل من معلّقة عنترة، من الوجهة النسجيّة: نصّاً يدور في دائرة معلّقتي امرئِ القيس وطرفة حيث كنّا رأيناهما، هما أيضاً تحملان كثيراً من هذه السمات الصوتيّة: الرويّ المكسور غير الممدود، وهو الصوت المقترب من النفس والذات، واستعمال اللاّم التي يمكن أن نطلق عليها لام الامتلاك، واصطناع الدال، وهي حَرْفٌ صوته يقترب من النطق الشفويّ (تُصَنَّفُ الدالُ حَرْفَاً لَثَوِيّاً، لأن مبدأ نطقها من اللّثّة) الذي يعني شَيْئَاً من الحميميّة والانغلاق على النفس، والانْزِواء داخل حيز الذات...
فلو كان حرف الرويّ الذي هو الميم، هنا، مضموماً لكان رمى بكلّ شيء إلى الخارج، ولألْقَى بكلّ القيم الدلاليّة نحو العَدَم؛ لكنّ هذه الميم خُفِضَتْ؛ فكان خفضها من أجل إرسالِ هذه القيم الدلاليّة إلى نحو الأسفل، إلى نحو القلب والذات، والإحالة بها على الماضي الغابر على أساس أنّ النُّصَّاصَ، هنا، يسردون ذكرياتٍ وأحداثاً ممّا كان وقع لهم في بعض ذلك الماضي.
ولقد ظاهرت هذه السِتَّةُ والسَّبْعُونَ عُنْصَرَاً المكسورة الآخِرِ، وفي نصّ معلّقة عنترة، على التمكين لِمّا نُطْلِقْ عليه حميميّة الإِيقاع الناشئة عن اغتفاص هذه الاحْتِيازات الكثيرة، والتي منها ناقِتي- وحشيّتي_ مخالقتي- مالي- وعِرضي- شمائلي- وتكرّمي- يدايّ- كِفّي- عهدي- لبّي- جاريتي- نعمتي - عمّي- مقدمي- دمي...- لي- إليّ...
وهناك سِمات أخراة تحيل على الذَّات، والداخل، والحميميّ، ولكن لا يعبّر عنها بياء الاحتياز، ولكن بأدوات أُخراةٍ مثل تاء المتكلّمْ، وهمزة المضارع الدالّ على المفرد المتكلّم، مثل: فوقفت- أقتل- أبيت- ظُلِمْتُ- أظلم- تركت- شَرِبْتُ- صَحْوتُ- أغشى- فشكَكْتُ- فتركتُه- نزلت- قطعتُ+ـهُ- فبعثْتُ- نُبِّئْتُ- حفظت- رأيت- مازلت- شئت...
كما أنّ هناك سماتٍ دالّةً على الذات؛ ولكن بصورة غير مباشرة مثل:
مِنّي- راعَنِي- دُونِي- إنني - عَلَيَّ - بي - ولكنّني- مشايعي...
وكلّ ذلك كان من أجل التمكين للنسج من أن ينسجم مع المنسوج، وجعل الدّالِ يتماشى مع المدلول؛ إذْ لمّا كان الإيقاع الخارجيُّ مكسوراً فإنه كان- والحال إنّ الشعر جمالٌ وسحر وقول يبهر ويدهش، وكلام يمتع ويؤنس- مُنْتظَراً أنْ تتلاءَمَ مُعظمُ النسوج (الألفاظ، أو السمات الصوتية، المنتسجة منها الجُمَلُ داخل النّص) بأن تنتهي، هي أيضاً، بالكسر، أو بياء الاحتيازِ (ياء المتكلّم) الناشئة عن الكسر، أو المُنْشِئَة لهذا الكسر المُحيل على الذات الدّالَّة على الحميميّة المتقبّلة كلّ ما يأتيها من الخارج لتختزنَه في الداخل المضطرِبِ فَتَزْدَخِرَ بِهَ ازْدخاراً...
فهؤلاء المعلّقاتيّون الثلاثةُ، كما رأينا، (وإن لم نعمّق تحليل الإيقاع في نصوص معلّقّاتهم، لأسباب منهجيّة...) تشيع في قصائدهم الحميميَّةُ بمعنَيَيْهَا لدينا: ياءِ الاحتيازِ، وضمير المتكلّم المفرد.
ويمكن أن نصنّف لبيداً ضمن الخاصيّة النسجيّة الأولى حيث وردت في معلّقته سِماتٌ صوتيّة كثيرة تَرْتَكِضُ مُرْتَكَضَ الثلاثة أتيْنا عليهم ذِكْراً في هذه المقالة. وقد أحصيْنا من ألفاظ الحميميّة في معلّقته ما أناف على الثلاثين.
فكأنّ لبيداً يمثّل حلقةَ وصْلٍ بين السبعة، وكأنّه يقترب، في هذه الخاصيّة الإيقاعيّة، من الثلاثة الأوائل دون أن ينضِويَ، مع ذلك في لِوائهم، ويدرج في فَلَكهم، فكأنَّه، إذن، في الوقت ذاته، يَزْدَلِفُ من الثلاثة الأواخِر (ولفظ "الأواخر" هنا لا يعني إصدار حكم قيمة، وأنّ هؤلاء الثلاثة أدنى شاعريّةً من الثلاثة الذين توقفنا، في هذه المقالة، لدى بعض عناصر الإيقاع في شعرهم، ولكنه يعني مجرّد نظام الحساب...) على نحو ما...
إنّ حميميّة لبيد لا ترقى إلى تشكيل ظاهرة نسجيّة، تمثّل جهازاً صوتيّاً يمدّ الصوت الخارجيّ بالأنغام على نحو ما كنّا ألفيناها لدى طرفة، وبدرجة أقلّ لدى امرئ القيس، فإنما كان لبيد يصف حالاً، ويتحدّث عن وضع كأنه كان يعيشه قبل، أو قُبَيلَ، إنشاءَ هذه المعلّقة التي يبدو أنها تعرضت لتنقيح شديد... فنسْج شعره يقوم إيقاعُه على مايمكن أن نطلق عليه الروح السرديّة أكثر ممّا يقوم على الحميميّة. وينهض إيقاعه على الإحالة على ماضٍ قريب حتّى كأنّه حاضر ملفوف فيه: مُهَا.
فالضمّ الوارد قبل الفتح، في الإيقاع الخارجيّ، يُبعدُ الحميميَّة، وهَا الممدودة تُدْنِي النًّسْجَ من الحاضر، بمقدار ما تَزْدَجِيهِ نحو الماضي. فكأنّ الماضِيَ، هنا في تمثّلنا نحن على الأقلّ، يمتزج بالحاضر، والذاتَ تذوب في الآخرَ، كما أنّ الآخَرَ يذوب في الأنّا. من أجل ذلك تمازجت النسوج بالإيقاعات، فكانت تحيل على الخارج، ولكن انطلاقاً من الداخل المتمثّل خصوصاً في صوت الميم الدال على الحميميّة، حتى وإن كان مضموماً فإنه باعتبار ميميّته- أي باعتبار مخرجه الشفويّ الذي يستدعي أن تَضْطَمَّ عليه الشفتان معاً- يظلّ محتفظاً بمسحة من هذه الحميميّة.
بينما نُلفي هذه الحميمية تضعُف لدى زهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وتحلّ مَحَلّها؛ وخصوصاً لدى الحارث وعمرو، نَا الدّالةُ على الجماعة، المنبثقةُ عن ضمير القبيلة وصوتها الجمّاعيّ.
وإذا كان زهير لم يكد يورد من ألفاظ الحميميّة إلاّ زهاء اثني عشر لفظاً، فَبِمَا إغراقهِ في التأمّلّية؛ وَبِمَا نَهْيِهِ عن الانغِماس في رِجْسِ الحرب؛ وبما دعوته الناسَ إلى السلم وترغيبهم في الجنوح لها حيث كانوا، إذ لا يَجْنُون من الحرب إلاّ المآسيَ والشقاء، والإحن والعذاب.
ونلفي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة يتفرّدان بالإضراب- والشأن منصرف إلى الإيقاع الداخليّ في معلقتيهما-









رد مع اقتباس