المطلب الخامس : مؤلفاته
مؤلفه الذي اشتهر به – ولم نقف له على غيره – هو كتابه المشهور بـ " المغازي "، ولم يظهر حتى الآن كاملا ، وإنما طبع قسم منه بتحقيق الدكتور محمد حميد الله
وطبع أيضا القسم نفسه بتحقيق الدكتور سهيل زكار ، ونرجو أن يظهر قريبا كاملا بإذن الله ، غير أن الكتاب حفظ لنا من خلال اختصار ابن هشام له ،
فيما يعرف بـ " السيرة النبوية " لابن هشام الذي روى مغازي ابن إسحاق عن تلميذ ابن إسحاق زياد البكائي المتوفى سنة (183هـ).
المطلب السادس : ثناء أهل العلم على حديثه
قال عنه شعبة بن الحجاج : أمير المؤمنين في الحديث .
وقال فيه أبو معاوية الضرير : كان ابن إسحاق من أحفظ الناس ، فكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر ، فاستودعها عند ابن إسحاق ، قال : احفظها علي ، فإن نسيتها ، كنت قد حفظتها علي .
وقال سفيان الثوري : جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة ، وما يتهمه أحد من أهل المدينة ، ولا يقول فيه شيئا .
وقال علي بن عبد الله : نظرت في كتب ابن إسحاق ، فما وجدت عليه إلا في حديثين ، ويمكن أن يكونا صحيحين .
المطلب السابع : الجواب عن كلام مَن قدح فيه
القدح في ابن إسحاق يتلخص في ثمان قضايا :
القدح الأول : اتهامه بالقدرية حتى ذُكر أنه جلد بسببه .
القدح الثاني : اتهامه بالتشيع .
وهذان الأمران – إن ثبتا عنه – فلا يؤثران في حديثه ، إذ ما زال العلماء يأخذون عن القدرية والشيعة إذا ثبت صدقهم وحفظهم .
القدح الثالث : اتهامه بالتدليس .
ذكره ابن حجر في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين (ص/51) وقال : مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم ، وَصَفَه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما .
وهذا لا يعتبر قدحا مطلقا في حديثه أيضا ، فالمدلس المكثر من التدليس يُقبَل حديثه إذا صرح بالسماع ، وإنما يُرَدُّ ما رواه بالعنعنة .
القدح الرابع : اتهامه بالكذب .
وهي تهمة باطلة لا تثبت عليه ، وإن اتهمه بها هشام بن عروة (ت146هـ)، ومالك بن أنس (ت179هـ)، ويحيى القطان (ت198هـ)
أما اتهام هشام بن عروة له بالكذب – وأخذها عنه يحيى القطان - فسببه أنه قال : يحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ، والله إن رآها قط .
وهذا السبب لا يكفي لاتهام علامة كابن إسحاق بالكذب ، إذ يحتمل أن يكون سمع منها من وراء حجاب ولم يرها ، ويحتمل أن يكون سمع منها قبل زواجها بهشام بن عروة
بل قال الذهبي : يحتمل أن تكون إحدى خالات ابن إسحاق من الرضاعة ، فدخل عليها ، وما علم هشام بأنها خالة له أو عمة .
قال سفيان الثوري : أخبرني – يعني ابن إسحاق - أنها حدثته ، وأنه دخل عليها .
قال الذهبي : هو صادق في ذلك بلا ريب...وهشام صادق في يمينه ، فما رآها ، ولا زعم الرجل أنه رآها ، بل ذكر أنها حدثته
وقد سمعنا من عدة نسوة ، وما رأيتهن ، وكذلك روى عدة من التابعين عن عائشة ، وما رأوا لها صورة أبدا .
قال عبد الله بن أحمد : فحدثت أبي بحديث ابن إسحاق ، فقال : ولِمَ يُنكِرُ هشام ؟ لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له – يعني : ولم يعلم -.
وأما تكذيب الإمام مالك له ، وقوله عنه : دجَّال من الدجاجلة :
فلم يقبله العلماء منه ؛ إذ لم يذكر دليلا على تكذيبه
وقد كان بين مجموعة من العلماء : كابن إسحاق ، وابن أبي ذئب
وابن الماجشون شقاق ونفرة مع الإمام مالك ، فلم يقبل العلماء المتأخرون كلام بعضهم في بعض لما عرف من عداوتهم ، كما لم يقبلوا قول ابن إسحاق في الإمام مالك : ائتوني ببعض كتبه حتى أبين عيوبه ، أنا بيطار كتبه .
وقال يعقوب بن شيبة : سألت عليا – يعني المديني - : كيف حديث ابن إسحاق عندك ، صحيح ؟
فقال : نعم ، حديثه عندي صحيح .
قلت : فكلام مالك فيه ؟
قال : مالك لم يجالسه ، ولم يعرفه ، وأي شيء حدث به ابن إسحاق بالمدينة ؟!
قلت : فهشام بن عروة ، قد تكلم فيه ؟
فقال علي : الذي قال هشام ليس بحجة ، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها ، إن حديثه ليتبين فيه الصدق ، يروي مرة : حدثني أبو الزناد
ومرة : ذكر أبو الزناد ، ويروي عن رجل ، عمن سمع منه يقول: حدثني سفيان بن سعيد ، عن سالم أبي النضر ، عن عمير : ( صوم يوم عرفة )
وهو من أروى الناس عن أبي النضر، ويقول: حدثني الحسن بن دينار ، عن أيوب ، عن عمرو بن شعيب : ( في سلف وبيع )، وهو من أروى الناس عن عمرو .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله : لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر ، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة ، وقد علم أن كثيرا من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر
لا عبرة به ، ولا سيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف ، وهذان الرجلان – يعني مالكا وابن إسحاق - كل منهما قد نال من صاحبه
لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين ، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة ، وارتفع مالك ، وصار كالنجم ، والآخر – يعني ابن إسحاق - فله ارتفاع بحسبه ، ولا سيما في السير .