ثانياً :
لمسألة استلحاق الزاني لابنه من الزنا صور:
الأولى :
أن تكون المرأة المزني بها ذات فراش ، أي متزوجة ، وأتت بولد بعد ستة أشهر من زواجها ، ففي هذه الحال ينسب الولد إلى الزوج ، ولا ينتفي عنه إلا بملاعنته لزوجته.
ولو ادعى رجل آخر أنه زنى بهذه المرأة وأن هذا ابنه من الزنا ، لم يلتفت إليه بالإجماع ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) رواه البخاري (2053) ، ومسلم (1457).
قال ابن قدامة :
" وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا وُلِدَ عَلَى فِرَاشٍ رَجُلٍ ، فَادَّعَاهُ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ "
انتهى من "المغني" (9/123) .
الثانية :
أن لا تكون المرأة ذات فراش ، ولا يستلحقه الزاني به ، ولا ادَّعي أنه ابنه من الزنا ، ففي هذه الحال لا يُلحق به أيضاً قولاً واحداً .
فلم يقل أحد من أهل العلم بإلحاق ولد الزنا بالزاني من غير أن يدعيه الزاني.
وقد أشار الماوردي في "الحاوي الكبير" (8/455) إلى " إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالزِّنَا".
أي إذا لم يدعه .
الصورة الثالثة :
إذا لم تكن المرأة فراشاً لأحد ، وأراد الزاني استلحاق هذا الولد به .
فهذه الصورة محل الخلاف بين العلماء.
قال ابن قدامة : " وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وُلِدَ عَلَى غَيْرِ فِرَاشٍ " .
انتهى من "المغني" (9/123).
وهي مسألة مهمة جداً كما قال ابن القيم:
" هَذِهِ مَسْأَلَةٌ جَلِيلَةٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا "
انتهى من "زاد المعاد" (5/381).
ثالثاً:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين :
الأول : أن ابن الزنا لا يُنسب إلى الزاني ولو ادعاه واستلحقه به .
وهو قول عامة العلماء من المذاهب الأربعة والظاهرية وغيرهم .
ينظر: "المبسوط" للسرخسي (17/154)
"بدائع الصنائع" للكاساني (6/243)
"المدونة" (2/556)
"أسنى المطالب في شرح روض الطالب" (3/20)
" المغني" (6/228) ، "المحلى" (10/142).
وبناء على هذا القول :
فإن ولد الزنا – ذكرا كان أو أنثى – لا ينسب إلى الزاني ، ولا يقال إنه ولده ، وإنما ينسب إلى أمه ، وهو محرَم لها ، ويرثها كبقية أبنائها .
قال ابن قدامة المقدسي
: " وَوَلَدُ الزِّنَى لَا يَلْحَقُ الزَّانِيَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ ".
انتهى من " المغني " (9/123) .
وعلى هذا القول فتوى الشيخ ابن إبراهيم كما في "فتاواه " (11/146)
والشيخ ابن باز كما في "مجموع فتاواه" (28/ 124) ، رحمة الله عليهما .
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (20/387 ) :
" الصحيح من أقوال العلماء أن الولد لا يثبت نسبه للواطئ إلا إذا كان الوطء مستنداً إلى نكاح صحيح أو فاسد أو نكاح شبهة أو ملك يمين أو شبهة ملك يمين ، فيثبت نسبه إلى الواطئ ويتوارثان ، أما إن كان الوطء زنا فلا يلحق الولد الزاني ، ولا يثبت نسبه إليه ، وعلى ذلك لا يرثه " . انتهى .
القول الثاني : أن الزاني إذا استلحق ولده من الزنا فإنه يلحق به .
وهو قول عروة بن الزبير ، وسليمان بن يسار، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وإسحاق بن راهويه، كما نقله عنهم ابن قدامة في "
المغني" (9/123).
وروى الدارمي في "السنن" (3106) عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ : فَهُوَ يَرِثُهُ ".
قَالَ بُكَيْرٌ : وَسَأَلْتُ عُرْوَةَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ " .
قال ابن القيم :
" كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ الزِّنَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ ، وَادَّعَاهُ الزَّانِي : أُلْحِقَ بِهِ ... وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، رَوَاهُ عَنْهُ إسحاق بِإِسْنَادِهِ فِي رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا، فَادَّعَى وَلَدَهَا فَقَالَ: يُجْلَدُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ"
. انتهى من "زاد المعاد" (5/381)
قال ابن قدامة :
" وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا أَرَى بَأْسًا إذَا زِنَى الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ ، أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ حَمْلهَا ، وَيَسْتُرَ عَلَيْهَا ، وَالْوَلَدُ وَلَدٌ لَهُ ".
انتهى من "المغني" (9/123).
واختار هذا القول : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وتلميذه ابن القيم .
قال ابن مفلح رحمه الله :
" واختار شيخنا أنه إن استلحق ولده من زنا ولا فراش : لحقه "
\
انتهى من "الفروع" (6/625).
ونسبه إليه البعلي في "الاختيارات الفقهية" صـ 477 .
وقال المرداوي :
" وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ اسْتَلْحَقَ وَلَدَهُ من الزنى وَلَا فِرَاشَ: لَحِقَهُ.
وَنَصُّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيها : لَا يَلْحَقُهُ .
وقال في الِانْتِصَارِ في نِكَاحِ الزَّانِيَةِ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فيه ، وقال في الِانْتِصَارِ أَيْضًا : يَلْحَقُهُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، وَذَكَرَ أبو يَعْلَى الصَّغِيرُ وَغَيْرُهُ مِثْلَ ذلك ".
انتهى من "الإنصاف" (9/269) .
واختاره أيضاً من المعاصرين : الشيخ محمد رشيد رضا في "تفسير المنار" (4/382)، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى
كما في "الشرح الممتع" (12/127).