منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-11, 17:07   رقم المشاركة : 32
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

طقوس الماء في المعلقات

ما أكثر ما تحدّث الناس عن المطر في الشعر الجاهليّ؛ وما أكثر ما تحدّثوا عن علاقة الماء بالطقوس المعتقداتيّة مثل الاستسقاء، على عهد الجاهليّة الأولى، وما كان يصطحب ذلك من ممارسات لم تلبث أن اغتدت كالطقوس الوثنية لدى قدماء العرب(1).
وقد نَبِهَ إلى هذه المسألة قدماء كتّاب العرب مثل أبي عثمان الجاحظ(2)، ومثل بعض المعاجم الموسوعية(3)؛ فَدُوّنَ من حولها إشاراتٌ مختلفة هي التي يمكن أن تغتدى أساساً لأنتروبولوجيا الماء، وكلّ الطقوس الفولكلوريّة التي كانت ترتبط به حين تشحّ السماء، ويُلحّ الجدب، فيصيب الناس روع وهلع، وإشفاق وقلق..
ولا نريد نحن، في هذه المقالة، أن نتوقف لدى طقوس المطر وحدها؛ ولكننا نريد أن نمتدّ بوهمنا إلى كلّ ما هو سائل شفّاف، أو قابل للشَّفَافَةِ والسَّيَلان. كما أننا لا نريد أن نمتدّ بسعينا إلى كلّ الشعر الجاهليّ بِجَذاميره نستقريه لنرصد ما جاء فيه من طقوس الماء، وفولكلوريات المطر؛ ولكن بحكم محدوديّة موضوعنا، سنجتزئ برصد هذه الطقوس في المعلّقات السبع وحدها...وإنّا لدى قراءاتِنا المعلقّاتِ، من هذه الوِجْهة، صادفتنا مجازات كثيرة تدلّ على العناية الشدَيدَةِ بالمطر لدى أولئك المعلقّاتيّين.
والمطر، أو الماء، هو مصدر الحياة، فيه تَخْصَوْصِبُ الأرض، وبِقَطْرِه تَربْوُ الثَّرى، وبرذاذه يَخْضَوْضِرُ النبات ويزهو؛ فتمسي الطبيعة كالعروس تترهْيَأُ في ملابسها السندسيّة، وتتبختر في حُلَلِها المُخْضَوْضِرَة؛ لِمَا ينشأ عن ذلك من جمال بديع لمشهد الأرض وهي تزهو بما على وجهها من حقول وغلال، ولما ينشأ عن ذلك من تسافد الطيور، وتوالد الفراش، وتكاثر الحشرات الطائرة والزاحفة معاً، وكلّ الكائنات اللطيفة التي كانت أغرت عنترة بن شداد بأن يتوقّف لدى صورة الذباب وهو يترنّم، وحملت امرأ القيس على أن يلتفت إلى صورة الطير وهُنَّ يملأن الجِواءَ بأصواتَهنّ الحِدَادِ، والشديداتِ الاختلافِ؛ حتى كأنّهنّ كائنات سَكْرى بما شربت من سُلاف، وبما احتست من رحيق وراح...
أولاً: طقوس الماء في معلّقة امرئ القيس
1- المطر:
ربما تكون معلّقة امرئ القيس أكثر المعلّقات للمطر ذِكْراً، وأشدّها به اهتماماً، وأحرصها على التغنّي به تحت صور مختلفة، وفي لقطات مشهديّة متباينة. وَيَمْثُلُ ذلك خصوصاً في الإثني عشر بيتاً الأخيرة من معلّقته، من:
أصاحِ ترى برقا أُرِبكَ وَميضَه
كلَمْعِ اليديْن في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
إلى قوله:
كأنّ السِّباعَ فيه غَرْقى عَشِيَّةً
بأرجائه القُصوْى أنابيشُ عُنْصُلِ
ولعلّ الذي حمل امرأ القيس على تخصيص نسبة صالحة من أَبابيتِ معلّقته لوصف المطر من وِجْهة، وتخصيص هذا الوصف بنهايتها من وجهة أخراة: أن يكون الطقس اليمنيّ الذي يعرف إلى يومنا هذا بظاهرة الأمطار الرعديّة الغريزة، والتي لدى هطلها قد تمتلئ بها الأدوية، وقد تسيل بها المنحدرات، فتجرف الأغثاء، وتسقي الأرض، وتروى النبات في أزمنة معيّنة من السنة، وفي ساعات معيّنة من النهار.
لم يكن ممكناً لأمرئِ القيس، وهو العربيّ اليمنيّ، أن ينتقل بين القبائل، ويضرب في الأرض لاهياً أوّلاً، وطالباً بثأر أبيه آخراً، ثم لا يصف ما كان يعرض له من هذه الأمطار الرعديّة الشديدة الغزارة التي كانت تصادفه كلّ مساء من أسفاره، فكانت تضطره، غالباً، إلى أن يَلْتَحِدَ، وَصَحْبَهُ، إلى كَتِفِ جبل، أو جِذْع شجرة عظيمة، أوْ أيّ مُلْتَحَدٍ من المُلْتَحَدات...
كانت الرعود والبروق، وكان القَطْر الطَّلُّ، وكان المطر الثَّرُّ: تساور سبيلَه كلّ مساء من مُقاماته وتَظعانَاتِه؛ فلم يكمن له بُدٌّ من أن يصف ما كان يستمتع به طوراً-وهو الشاعر-، ويزعجه طوراً آخر: فيتأذّى له، وذلك حين تَظعانه غالباً.
ويمكن أن نلتمس أكثر من علّة لوصف أُمْرِئِ القيس المطر، واهْتِمامه بالماء، وَكَلَفِهِ بكلّ ما يسيل فتختصب له الأرضُ، ويربو له النبت:
فالأُولَى: أنّ البلاد العربيّة، منذ القِدَم، شحيحة، فيما يبدو، بالمطر، ضنينة بالهطل، تميل طبيعتها إلى الجفاف والإمحال، وإلى اليبس والجدب. فكان الناس ينتظرون تَهتان الغيث بفراغ الصبر، وحرارة الشوق، وشدّة التطلّع. والآية على ذلك أنهم كانوا يستسقون في طقوس معتقداتيّة، وممارسات فولكلوريّة عجيبة؛ حين كان المطر يعوزهم فيُلِمُّ عليهِم الجَدْبُ، وتشحّ من حولهم السماء. ولم يكن امرؤ القيس بدعاً من بقيّة الشعراء في الجاهلية، ولكنه، ربما فَسَحَ لهم في المجال، وهيَّأ من أجلهم السبيل؛ إذ نلفي عامّة شعراء أهل الجاهلية يلتفتون إِلى ظاهرة المطر، فإمَّا أن يصفوها وصفاً، وإِمَّا أن يجتزئوا بذكرها عَرَضاً(4).
والثانية: إنّ امرأ القيس كان ينتقل بين القبائل، وكان يختلف إلى الأسواق، وكان يتردّد على الحانات، وكان في كلّ ذلك لا يعدم مطراً هاتنا، وغيثاً هاطلاً؛ فكان مشهد خيوط الماء وهي تتساقط من فوقه يؤثّر في شاعريّته المرهفة فتفيض بما تفيض به، إلى أن جاء ينشئ معلقّته العجيبة فاختصّ المطر بخاتمتها ليكون ذلك أبقى من النفسْ، وأَذْكَرَ في القلب، وأجرى على اللسان. فهو يذكر المطر في مطلعها، ضمناً، حين يقول مثلا:
ترى بعر الأرآم في عرصاتها
وقيعانها كأنه حَبُّ فُلْفُل
فلولا المطر الهاتن لما كانت الآرام راتعة في تلك العرصات، ولا مَرِحَةً في تلك القيعان والتَّلَعَات: تمرح وتلعب، وتتواثب وتتراكض...
ولكنّ وصف الطلل صَرَف وهْمَه في وصف المطر والفراغ له إلى حين الانتهاء إلى خاتمة معلّقته فأشبعه وصفاً بديعاً جعلّنا نُحِسّ بأن الأرض، كأنها، كلّها، بدأت تتحرك بوديانها، والجبال تلقي بأَغثائها، والسواقي تتغازر بأَمْواهِها، فتُحيل سطحَ الأرض كلَّه إلى خصب وجمال ونعيم... وإذا كانت السعادة امتدّت إلى الطير فاغتدَيْنَ صادِحاتٍ، وإلى الحيوانات الأخراةِ فأمسَيْن سابحات؛ فما القول في بني البشر، وفيمن يُحسّون بجمال الطبيعة وعبقريّة تجليّها مزدهية مختالة كالحسناء المتبرّجة...
والأخراة: كأنّ امرأ القيس لِمَا كان يرى من أهمية الماء، من حيث هو عنصر للحياة، وللمطر من حيث هو وسيلة للخصب والعمران، ولما كان يرى من تهالك الأحياء على التنافس على مساقطه، وربما التحارب على غدرانه ومدافعه: شاء أن يسجّل، ربما من حيث لم يكن يشعر، ولكن على الطبيعة السمحة، في معلّقته، مشاهد الماء، ومناظِرَ المطر، وَمَرائِيَ العيون والغدران.
لم يكن في البلاد العربيّة إلاّ آبار وعيون قليلة احتفظت لنا بها كتب الموسوعات والمسالك بمعظم أسمائها(5).
كان العرب إذا أحبّوا أحَداً، كما أومأنا إلى ذلك مراراً، دَعَواْ له بالسَّقْيا، وحتى التحيّة، في اللغة العربية، قد يكون اشتقاقُها من الحَيَا(6) الذي هو الخصب والمطر. وناهيك أنّ الحَيا، بالقصر، إن شئت، والحياء، بالمدّ، إن شئت(7)، وهما اللذان يعنيان المطر؛ وردا في المادّة نفسها التي ورد فيها مادَّةُ الحياة.
فماذا كان يكون الشعر الجاهليّ لو خلا من ذكر المطر، ووصف السيول، وملاحظة الأنواء، والتغنّي بالخصب، والتلهّي بالحيا؟ وهل كان يمكن لامرئ القيس أن يضطرب في تلك المضطربات من الجَدْب والخِصْب، ومن الرعد والبرق، والهَطْل والهَتْن؛ ثمّ لا يحتفل بكلّ ذلك في شعره فيخلدّه عبر الأزمنة المتطاولة؟...
المطر والمعتقدات في المعلقات
لا نظنّ أن هناك من ينكر أنّ المطر في عامة المجتمعات البدائية، ومنها المجتمع الجاهليّ، يرتبط بطقوس فولكلورية، وبمعتقدات وثنيّة، وربما بمعتقدات دينيّة صحيحة كسنّة الاستسقاء التي يمارسها المسلمون كلّما ألحّ عليهم الجدب، وشحّت الأمطار في موسم الحرب والزرع... بيد أنّ هذه الفكرة لا ينبغي لها أن تطفح فتفيض فتغرق كلّ ما حوالها من المعقولات...
ذلك بأنّ بعض الدارسين العرب المعاصرين أرادوا أن يؤوّلوا كلّ شيء تأويلاً أسطوريّاً في الحياة الجاهليّة، وأن يربطوا كلّ صغيرة وكبيرة بخرافات بائدة لا نلفي لها أثراً صحيحاً في النصوص الشعريّة المظنونة بالصحة، وفي الأخبار المرويّة المظنونة بالثقة، ولا، ربّما، حتى في الحفريات الأثرية... ومن ذلك ما ذهب إليه الدكتور مصطفى ناصف حين توقّف لدى بعض أبيات امرئ القيس المطرية، ومنها:
أصاحِ ترى برْقاً أُريك وميضه
كلمع اليدين في حَبيّ مُكَلَّل
يُضيء سناه أو مصابيحُ راهِبِ
أمالَ السَّليط بالذُّبَالِ المُفَتَّل
فذهب إِلى أنَّ: البرق يُشبه في تحركه تحرّك اليدين، أو مصابيح الرهبان التي يصبّ الزيت عليها. وبعبارة أخرى: حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر، فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم.
ويمكن أن نرى تقلّب الكفين سمة من سماته أيضاً. ويبدو أنّ مصباح الراهب وتقليب الكفين أعانا على ولادة المطر. فالولادة ظاهرة في قول امرئ القيس: إنّ السحاب متراكم، يشبه أعلاه الإكليل، وقد لمع البرق وتلألأ في أثنَائه.
هذه صورة واضحة الدلالة على فعل الانبثاق العظيم. وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهِمَه شعراء العربية(8).
ونحن نعتقد أنّ مثل هذا الربط الحميميّ لإسراج الراهب مصباحه، ولابداء المرأة الحسناء معصميها، بتهتان المطر قد لا يقوم له أمر، ولا يستقيم له شأن. وهو يزداد سوءاً حين يقوم على التوكيد واليقين: على أنّ المذهب الذي ذهب إليه الشيخ سليم صحيح. (ويؤكّده قوله: "وليس عندي شكّ في أنّ المعنى الروحيّ لولادة المطر قد فهمه شعراء العربيّة"). وذلك من أغرب المواقف العلميّة التي يمكن أن يقفها باحث-مشهود له بحصافة الرأي- من قضيّة شائكة، بعيدة الزمن، بعيدة الحدوث:
فالأولى: هل كان العرب جميعاً مسيحيّين يربطون حياتهم الروحيّة بالأديرة والكنائس؟ وهل كانت توجد ديور بمكّة ويثرب، والحيرة، وسوائها من الحواضر العربيّة الأزليّة إذا استثنينا بعض الحواضر ذات التأثير الثانويّ كنجران مثلاً...؟ وهل يمكن أن نغيّر مجرى حياة أمّة كانت تقوم، أساساً، على الوثنيّة، والجاهليّة، والعصبيّة العمياء، والثأر، وعدم الارعواء في إراقة الدماء، والطيران نحو الشرّ: فنجعلها وديعة روحيّة، تنهض على التعبّد والتحنّث؟ ولو ربط الكاتب بعض ذلك بما اتفق عليه المؤرخون واللغويون القدامى من وجود بقايا حنيفيّة في المجتمع الجاهلي لَعَسَيْنا أن نسلّم له بِبَعْضِ ما ذهب إليه؛ لكنّه وقد ربط ذلك صراحة، بما لا يبعد عن هذه الحنيفيّة(9)، فإننا لا نستطيع الموافقة على رأيه... إنّ بضعة أديرةٍ كانت بشبه الجزيرة العربيّة كلها ما كان لها لتؤثّر في الحياة العقليّة، والدينية، والروحيّة، كلّ هذا التأثير... ولقد نعلم أنّ كل بيت عربيّ كان فيه صنم صغير يعبده صاحبه وأسرته(9)، فكيف إذن يقوم هذا النص التاريخيّ الماثل في أنه لم يكن:
"يظعن في مكة ظاعن منهم(...) إلاّ حمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم. فحيثما نزلوا وضعوه فكانوا به كطوافهم بالكعبة"(10).
مع ما قرره مصطفى ناصف؟ بل لقد كان العرب في جاهليّتهم الأولى إذا لم يجدوا حجراً يعبدونه، من بعض تلك الحجارة، جمعوا حثية من التراب، وجاؤوا بالشاة فحلبوها عليه، ثمّ طافوا بها(11).
والثانية: أنّ العرب لم تكن تستمطر ببركة الأحبار والرهبان، كما لم تكن تستسقي بعناية الأديرة والكنائس؛ ولكنها كانت تستمطر بالأصنام والأوثان؛ فقد أجيب عمرو بن لحيّ حين سأل أهل مآب: ما بال هذه الأصنام التي تعبدون؛ أن: "هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا"(12): فماذا بقي من برهان في قول امرئ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب
إلاّ صورة شعرية ماديّة بريئة ممّا حمّلت إياه من هذه المعتقدات والروحيات والرهبانيات...؟ وهل يمكن أن يبقى معنى لقول الدكتور ناصف:
"حينما هيّأ الراهب المصباح سقط المطر؛ فالمطر استجابة لدعوات راهب عظيم".
بعد الذي رأينا من قولي ابن الكلبي وابن كثير القديمين، واللذين يثبتان فيهما وثنية الاستمطار، ومعتقداتية الاستسقاء، وأن الروحانية المسيحية التي يجعلها الدكتور ناصف علة في تأويل بيت امرئ القيس قد تغتدي غير ذات معنى... وإلاّ فعلينا أن نرفض ما ذهب إليه كلّ من ابن الكلبي وابن كثير، ونقبل برأي مصطفى ناصف. وإلاّ فعلينا، أيضاً، أن نرفض النصوص التاريخية التي تبدو موثوقة، ونقبل بمجرد قراءة تأويلية لنص شعري؟ وأنا لنعجب كيف فات الدكتور ناصف، وهو الملم بالتراث، والضارب في مضطرباته كلّ ضربان، أن يلّم على هذه النصوص القديمة ويستظهر بها لدى قراءة نصوص الشعر الجاهلي...؟
والثالثة: إنّ لمعان اليدين الذي يحتج به المتعصبون للقراءة الأسطورية لنصوص الشعر الجاهلي، وبخاصة نصوص المعلقات، والقائمة على المبالغة والتهويل والتضخيم، والذي ورد في قول امرئ القيس:
* كلمع اليدين في حبيّ مكلّل
كان تعبيراً، فيما نحسب، جارياً؛ أو كان تعبيراً مسكوكاً كما يريد أن يعبّر بعض المعاصرين، في اللغة العربية على تلك العهود الموغلة في القدم إذ كان كل عربي يطلق على إشارة اليد بالثوب، أو السوار، أو نحوهما: لمعانا(13)؛ ومن ذلك:
1- حديث زينب، رضي اللّه عنها، : "رآها تلمع من وراء الحجاب، أي تشير بيدها" (14).
2- ورد هذا التعبير نفسه في بيت للأعشى أيضاً:

حتى إذا لمع الدليل بحبه
سقيت وصبّ رواتها أشوالها(15).
3- وورد معناه في قول عديّ بن زيد العبّادي:
عن مبرقات بالبرين تبدر
وبالأكفّ اللامعات سور(16).
والأخراة: إن طقوس الاستمطار لم تكن لديهم قائمة على استدرار البركة من الرهبان العظام؛ كما زعم الدكتور مصطفى ناصف؛ ولكنهم:
"كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار؛ اجتمعوا، وجمعوا ما قدروا عليه من البقر؛ ثم عقدوا في أذنابها، وبين عراقيبها السلع والعشر(17)؛ ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجّوا بالدعاء والتضوع. فكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا" (18).
فأين مصابيح الرهبان من هذا؟ وما صلة تشبيه ينصرف إلى تصوير انعكاس الضوء وانتشاره[وهو تشبيه ضوء كاسح بضوء شاحب من باب تقريب الصورة في ذهن المتلقي] بالاستمطار والاستسقاء في الجاهلية

بالاستمطار والاستسقاء في الجاهلية الأولى؟
إن ما أورد أبو عثمان الجاحظ، بناء على ما كان ورد في شعر أحد أكبر الشعراء الذين سجّلوا العادات والتقاليد والطقوس الفولكلورية العربية القديمة؛ وهو أمية بن أبي الصلت، يبعد تأويل مصطفى ناصف لذينك البيتين المرقسيّين المنصرفين إلى طقوس استمطار المطر... بادّعاء أن امرأ القيس إنما كان يومئ إلى تقليب الكفين؛ وأن العرب كانت تستظهر ببعض ذلك على استمطار المطر... كما أن ما كنا استشهدنا به من أشعار قديمة؛ بما اشتملت عليه من لمع اليدين: قد يضعف من مذهب الشيخ في جعل العرب وكأنهم لم يكونوا يستسقون إلاّ بركة أمثال ذلك" الراهب العظيم" على حد تعبيره.
ثم أين كان الشيخ من الحنيفية الإبراهيمية التي كانت لا تبرح بقية باقية منها في بلاد العرب؛ والتي كانت تسم سلوك كثير من عقلاء العرب وأشرافهم وسراتهم إلى أن جاء اللّه بالإسلام؛ فكانوا يحجون إلى البيت العتيق، ويغتسلون من الجنابة، ويختتنون، ويتحنثون(19)؟ وكيف أهمل الحديث عنها لدى قراءة شعر امرئ القيس، فذهب في تأويله إلى ما ذهب؟
*****
2. الغدران:
الغدران ابنة الأمطار، مَثَلُها مثل العيون والأنهار.
وقد مِرْنا بين هذه الغدران والأمطار التي هي المتسبّبةُ في تكوينها كِأَنَّ الأمطار قد تتهاتن ولكن إمّا أن تتسربَ داخل الثرى وتَغِيَضَ في أعماقها، وإِمَا أَنْ تَسِيَل بها الأوديةُ العميقةُ نحو المنحدرات البعيدة التي قد تمضي بها إلى نحو البحار. ويضاف إلى ذلك أنّ الغدران تمثّل، في المجتمعات البدائيّة، البحيرات والمسابح في المجتمعات المتطوّرة؛ حَذْوَ النعلِ بالنعل. فإنما العذارى، الوارد ذِكْرُهُنَّ في بيت امرئ القيس:
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحْمٍ كَهُدَّابِ الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ
يمّمن الغدير القريب من الحيّ إمّا لغسل الثياب، وإمّا للسباحة والاستحمام.
وللغدران، بعد، أثناء ذلك، خاصّيّة تمثل في أنها مَظَنّةٌ للخِصْب والجمال، والحياة والعمران. فالأمطار قد توجد اليوم، ولكنها قد لا توجد من بعد ذلك إلاّ بعد أسابيع، وربما بعد شهور؛ فتجفّ الأرض من جديد، ويذبل النبات، ويستحيل كلّ أخضر إلى شبه أسود، وتحزن الطبيعة بعد مرح وازدهاء. على حين أنّ الغدران مَظَنَّةٌ لأَنْ يَمْكُثََ ماؤُها، بحكم طبيعتها ووظيفتها أيضاً، شهوراً طِوالا فتتشكّل الحياة الوديعة الخصيبة من حولها ضفافها، وترتع الحيوانات وترتوي منها، وتزقزق الأطيار، وتخضرّ الأرض بجوارها إلى حدّ الازدهاء.
ونودّ أن نتوقّف لدى غدير دارة جلجل، تارةً أخرى. فقد تفرّد، فيما نعلم، برواية أسطورته الجميلة جدّ الفرزدق(20). وقد ظلّ تفسير دارة جلجل في قول امرئ القيس غيرَ متداوَلٍ بين الناس، في حدود ما انتهى إليه علمنا على الأقلّ، إلى نهاية القرن الأوّل الهجري حين حكى الفرزدق لفتيات البصرة، العاريات أيضاً، حكايتَها... ونلاحظ أنّ الفرزدق وقع له ما وقع للشاعر الآخر -امرئ القيس- قبل ذلك بقرنين على الأقل حيث يتكرر مشهد عرى النساء وهنّ يغتسلن في غدير بقرب البصرة، وأنّ الفرزدق وحده هو الذي اهتدى السبيل، أو ضلّ تلك السبيلَ؛ فوقع على أولئك النساء وهنّ يَستَحْمِمْنَ في ماء ذلك الغدير... وإنه حين استحى وعاد أدراجه يريد الابتعاد عنهن، هنّ اللواتي رَغِبْنَ إليه في أن يحدّثهنّ بحديث دارة جلجل... وإذا صحّت هذه الحكاية الجميلة، المتعلّقة، هذه المرة، بالشاعر الفرزدق، لا بالشاعر امرئ القيس، وبنسوة من البصرة لا بنسوة من نجد؛ فإنّ حكاية دارة جلجل لم تَكُ مشهورةً بين عامّة الناس في البصرة التي كانت عاصمة إشْعاع ثقافيّ وأدبيّ ونحويّ لدى نهاية القرن الأول للهجرة، وإلاّ لافْتَرَضْنا أنه يكون في أولئك النساء المستحمّات في الغدير مَن تعرف شيئاً عن حكاية غدير دارة جلجل؛ إذا نفترض أنه كان في أولئك النساء-نساء البصرة- مَن تروى شيئاً من شعر امرئ القيس الغزليّ... ومن العجيب، في كلّ الأطوار الممكنة والمستحيلة معاً، أنْ لا تُرْوَى هذه الحكاية الجميلة المتعلقة بغدير دارة جلجل عن خلف الأحمر، وخصوصاً عن حمّاد الراوية الذي كان هو الذي روى نصوص المعلّقات كما بلغتنا... (21).
وعلى ما في حكاية دارة جلجل من جمال سينمائيّ، وإثارة، ومغامرة، وعُرْي، وإباحيّة؛ وكلّ ما يمنعه المجتمع المحافظ عن الناس... فإنّ الذي يعنينا فيها خصوصاً مائيَّتُها(22).
فالأولى: إن ساحة العذارى -مع عنيزة التي لا يعرف التاريخ- بواقعيّته وأسطوريّته معاً- إلاّ اسمها(23)- في هذا الغدير- لم تحدث لأوّل مرة في التاريخ، ولكننا نفترض أنهنّ كنّ ييمّمنه كلّما كنّ يُرِدْن النزهة والمتاع ببرودة الماء وزرقته وجماله. ومن الواضح أنّ امرأ القيس لم تسنح له تلك الفرصة مصادفة، ولكننا نظنّ أنّ ذلك كان دأباً لديه ولديهنّ جميعاً، مألوفاً؛ فربما كنّ يقصدن الغدير في يوم معيّن، طوال موسم معيّن. من أجل ذلك استطاع أن يتسقط أخبار النساء، نساء الحيّ، ويقص آثارهنّ إلى أن وقع له معهنّ ما وقع، فيما يزعم جدّ الفرزدق الذي يبدو أنه حين حكى حكاية دارة جلجل لحفيده(وقد ذكر الفرزدق أنه كان في سنّ الصبا حين حكاها له إذ يقول: "وأنا يومئذ غلام حافظ"(24) إنما كان يرمي بها إلى ما يرمي الأجداد حين يحكون حكايات لأحفادهم الصغار: التسلية والمتعة، قبل الواقع والتاريخ...
والثانية: إنّ منظر الماء في الغدير، ومنظر العذارى عاريات في هذا الغدير، ومنظر ما يَحْدَوْدِقُ بِجَلْهَتَيْ هذا الغدير: كُلُّها يُحِيلُ على المشاهد البديعة الحسنة؛ فبمقدار ما هي مثيرة، نلفيها، في نفسها، عفويّة بريئة. فكأنّها تمثّل سلوك الطبيعة الأولى، وتجليّات الجمال الغَجَريّ في توحّشه وعذريتّه وحصانته من الاستعمال، ومنعته من الابتذال. فلم يك لأولاءِ النساء، فيما نفترض، أكثر من فلقة واحدة، كنّ يرتدينها لتستر أجسامهنّ، وربما عوراتهنّ فحسب، فمَنْ يدري...؟
ففي مشهد هؤلاء السابحات، في هذا الغدير المغمور بالماء، تكمن العادة في ممارستهنّ السباحةَ عارياتٍ فيه، وَتَمْثُلُ الحضارةُ في حيث إنَّ فِعلَ السِباحةِ يدلّ على الحدّ الأدنى من التمثّل العالي للحياة، والتذوّق المرهف للجمال، والتمتّع الواعي بالطبيعة. كما يكشف عن أنّ النساء العربيّات، على عهد الجاهليّة، كنّ يتنقّلن في الحيّ، أو بين الأحياء، أسراباً أسراباً؛ وكنّ في الغالب يمشين في موكب سيّدة ماجدة، وعقيلة موسِرة(وقد تبلورت هذه العادة الحضارية على عهد الدولة العباسيّة فكانت الخيزران والعبّاسة وزبيدة وغيرهنّ يمشين في عشرات من الجواري...). ويبدو أنّ هذه الماجدة الموسرة هنا كانت عنيزة. فمن أجلها إذن وقع تنقّل العذارى من الحيّ إلى الغدير ابتغاء السبْح والنزهة؛ ومن أجلها، أيضاً، كان امرؤ القيس يقصّ أثار النساء، ويتجسس على حركاتهنّ ومتّجهاتهنّ...
والثالثة: لقد نشأ عن هذه الحادثة-التي نميل إلى أسطوريّتها- شأن آخر لم نكن لنعرفه لولاها: فقد أفضى استيلاء الفتى على ملابس العذارى، وتردّدهنّ تردّداً طويلاً قبل الخروج إلى ملابسهنّ من الغدير وهنّ عاريات، إلى تدبير حَدَثٍ آخر يبدو متكلَّفاً ملفقّاً، ومتدبّراً مقحماً؛ وهو دعوةُ العذارى الفتى الشاعر إلى أن يستضيفهنّ؛ فاستجاب لرغبتهنّ، واقترح عليهن نحر ناقته لهنّ...
وهنا يطفر عنصر المائدة، وهي مسألة تحلو مدارستُها تحت زاوية الأنتروبولوجيا: كيفيّة النحر، والسلخ، وجمع الحطب، وإيقاد النار، وَخضْئِها وتأجيجها، ثم وضع اللحم عليها لينضج بفعل الشَيّ؛ ثم تناول الطعام على ضفاف ذلك الغدير مع العذارى... إنّ هذا المنظر يجمع كل معاني الجمال في أرقّ معانيه، وأروع تجليّاته، وأبدع مشاهداته... فالحيز يستحيل هنا إلى فضاء عبقريّ كأنّه سرّ الحياة ومعناها الأول...
ولمّا كان الحدث هنا، غير تاريخيّ، ولكنه تاريخانيّ؛ ولمّا كان، إذن، سينمائيّاً على الطريقة الهوليوديّة؛ فقد قبلت عنيزة وصُوَيْحِبَاتُها دعوةَ الشاعر المغامر... فنحر الفتى لهنّ مطيّته، وظلوا يشتوون لحمها، ويشربون من بعض خمر كانت في بعض رحله.
ويتسرّب الشكّ إلى تاريخيّة هذه الحادثة، لبعض هذه الأسباب:
أوّلها : إنّ فيها تناقضاً مريعاً، وأموراً لا تتفق مع طبيعة الأشياء، ولا مع تقاليد المجتمع العربي الذي يقوم على الغيرة الشديدة على المرأة...
وثانيها : إنّ الأسطورة، أو ما نراه نحن كذلك، تذكر لدى طفوح حادثة نحر الناقة: عبيداً لم يذكروا من قبل. فهل كان يمكن لفتىً مغامر يتتبّع فتيات في ضاحية من الحيّ أن يصطحب معه عبيداً وخدما؟
وثالثها : يدلّ نحر الناقة على أنّ امرأ القيس لم يكن يتنزّه، ولا يغازل، ولا يتمتّع من لهو؛ ولكنه كان أزمع على سفر طويل، وتَظعان بعيد. وإلاّ فمالَه لم يّتّخذ ركوبته فرساً، واتّخذها ناقة؛ وهي للفارس ليست الرَّكوبَةَ المثاليّة، ولا الركوبة الشديدةَ السرعةِ التي يحرص عليها الظاعن في تَظْعَانَاتِه القصيرة.. كان يجدر بالشاعر الأمير أن يتنقّل على فرسه لا على مطيّته، لأنّ سفره كان للنزهة، ولأنّ الحكاية الأسطوريّة، تزعم أنه كان معه عبيد... ألم يكن من الأولى أن يمتطي هو حصانه، ويترك بعض الجنائب يقودها العبيد لبعض خدماته في الطريق؟...
ورابعها : إنّ هؤلاء النساء حين كنّ أزمعن على الذهاب إلى الغدير(وكان يوماً معلوماً كما يفهم ذلك من نصّ الحكاية نفسها: "فلم يصل إليها(أي لم يصل امرؤ القيس إلى ابنة عمه فاطمة) حتى كان يوم الغدير") (25): ألم يكن من الأولى لهنّ أن يصطحبن معهنّ طعاماً ما، يلي بمتطلّبات النزهة؟ فما بال نحر الناقة، إذن؟ إلاّّ أن تكون تكملة لما كان معهنّ، وإضافة إلى ما كان لديهنّ، فنعم. ولكن، لا نَعَمْ! فقد ثَرِبَتِ العذارى امرأَ القيس فاصطنعن عبارة: "فضَحْتَنا، وحبَسْتنا، وأجعتنا" (26). والشاهد لدينا في هذا هو قولهنّ "وأَجعْتَنا"، وهي عبارة تدلّ على أنهن يَمَّمْنَ الغديرَ ولا طعام معهنّ.
وآخرها : تصور هذه الحكاية هؤلاء العذارى، ومعهنّ هذا الرجل، وكأنهم كانوا يعيشون في جزيرة نائية عن العالم، أو في غابة متوحّشة، أو في فلاةٍ قّفْرٍ: لا نظام، ولا قِيَمَ، ولا شرف، ولا غيرة، ولا حِمِيَّة جاهليّة... إنها حكاية ساذجة، على جمالها، تصور المجتمع العربي، على عهد الجاهليّة، مجتمعاً متحّللاً، إباحيّاً، من رغب إلى امرأة وَصَلَها؛ كما وقع ذلك لامرئ القيس بالأمر المقدَّر، والسلوك المدبّر؛ فظلّ بياضَ نهاره مع هؤلاء النساء، واستولى على ملابسهنّ كيما يَرَاهُن َ كلّهن عارياتٍ: ثمّ لم يحدث من بعد ذلك شيء... بل إنّ أولئك الحسان هن اللواتي دعونه إلى أن يُطعمهنّ من لحم ناقته؛ بحيث لم يغضبن جَرَّاءَ اغتصابِهِنَّ(إجبارهنّ على أن يراهنّ وهُنَّ عَوارٍ).
كما لم تغضب ابنة عمّه عنيزة التي أذلَّها وأهانها، وأقسرها على ما لم تك إليه راغبة أمام صويحباتها، وربما أمام العبيد أيضاً(مادام ذِكْرُ العبيد ورد في نصّ هذه الحكاية): فأين الشهامة العربية التي تتحلّى بها سِيَرُ الرجال، والتي تكتظّ بها نصوص الشعر؟ وأين الشرف العربيُّ الذي تحفل به مواقف الأبطال، في المجتمع الجاهليّ؟ أَلَمْ تَتفانَ بكر وتغلب، ابنا وائل، وهما أختان، من أجل جرح ضرْع ناقة كانت للبسوس خالة جساس بن مرة الشيبانيّ: على مدى أربعين سنة؟ وإذا اندلعت حرب طاحنة من أجل شرف ناقة امرأة كان جسّاس بن مرّة أجارها، في رواية، وأنها خالته في رواية أخرى، ومن أجل شرف طائر كان أجاره كليب وائل(27) أعزّ العرب: فما القول في شرف امرأة سيدة، بل في شرف سيدات عربيّات كنّ يتنزهن فوقع اغتصابهنّ...؟
وكانوا يأنفون أشدّ الأنفة أن يزوّجوا بناتهم لأيّ رجل شاع بينهم أنه وقع في غرام من يريد التزوج منها: خشية العار، وحرصاً على السِّمْع، ورغبة في حسن الصِّيتِ.
أم لم يقتل رباح بن الأسل الغَنَويُّ شأس بن زهير لمجرّد أن حليلته نظرت إليه(ونلاحظ أنّ المرأة هي التي حانت منها التفاتة فشاهدت الرجل وهو يغتسل في عين، وبدون قصدٍ منها هي... لا هو الذي كان ينظر إليها؛ ومع ذلك لم يرحمْه بعلُها، فرماه، وهو غافل في العين، بسهم كان فيه حتفه...) (28)؟ وعلى أننا لا نريد استيعاب هذه المسألة، ولا استقراء البحث فيها، هنا، لأنها معروفة لدى الناس... فكيف إذن يجوز أن نصدّق أنّ دارة جلجل حادثة تاريخية، وأنّ حكاية تعرية العذارى، ومعاقرتهنّ الخمر، ومغازلتهنّ في وضح النهار -وقد كنّ عقيلات كريمات- ممّا يجوز أن يحدث في حيٍّ من أحياء العرب؟
إنّ إيمائَة امرئِ القيس إلى يوم دارة جلجل، ربما كان مجرّد نظرة مختلسة، أو حديث عابر، أو إشارة بعين... فجاء إليها حُكّاةُ الأخبار، ورُواةُ الأساطير، والمُلْتَذُّونَ بما لم يكن، والمتعلّقون بما لم يوجد؛ فأضافوا إليها ما ليس فيها، وأَدخلوا عليها هذه المسحة السينمائيّة، باللغة العصريّة؛ كيما تكونَ مثيرةًً للعجب، وحاملة على الانتباه، وباعثة على التلذّذ والتمتّع... وإلاّ فما لهم سكتوا عمّا وقع لامرئ القيس مع أمّ الحارث الكلبيّة، وأمّ الرباب، وَسَوَائِهَما... إن لم يكن ما ذكره في شِعْرِه مجرّد تَبَاهٍ وادِّعاء، كما كان يفعل بعده عمر بن أبي ربيعة؟ فقد عهدنا الشعراءَ يتزيّدون ويتنفَّجون، وخصوصاً في تصوير صِلاتَهم بالنساء، وخصوصاً امرأ القيس الذي كان يتهم بأَنَّهُ مُفَرَّكُ يَزْهَدُ فيه النساء(29)، ويرغب عنه الحسان، على ما كان موصوفاً به من الوسامة والجمال....
إنّ ما تشتمل عليه الحكاية التي كَلِفَتْ كلفاً شديداً بتجميل الحيز، لم يكن له صلةٌ، في الغالب، حقيقةٌ بالتاريخيّة، ولكنّ صلته بالتاريخانيّة وثيقة. إنّ تلك الحكاية الجميلة تصوّر المجتمع العربيّ قبل الإسلام: كأنّه مجتمع يعيش في غابة، بحيث لا يوجد فرق بين حيوان وإنسان، وبين إِنْسٍ وَجَان... ولم يكن فيه محرّمات محرّمة، ولا ممنوعات ممنوعة: فكل، من رغب إلى شيء ناله، ومن تطلّع إلى رغبة اشْتارَها؛ كما جاء ذلك امرؤ القيس الذي عاد إلى الحيّ ممتطِياً غارِبَ بعير ابنةِ عمه فاطمة(بعد أن كان نحر مطيّته للعذارى، واشتواها لهنّ)، وهو يقبّلها، وهو يعانقها، وهو يغازلها، أمام القبيلة كلها(أمام صويحباتها- وأمام إِمائها، وأمام العبيد....): وَلاَ دَيَّارَ يُنْكِرُ عليه فِعْلَتَه، ولا أحَدَ يَنْعَى عليه سلوكَه... بل آب الشاعر المغامِرُ، العاشق الوامق، أَوْبَة الأبطال إلى الحيّ والقبيلةُ كلها تنظر ولا تعجب، تَرَى ولا تنكر!...
لكنّ الذي يعنينا في رسم هذا الحيز الجميل، ليس الجانب التاريخيّ، بالذات، ولكن الجانب التاريخانيَّ الميثولوجيّ خصوصاً... إنّ الذي أردنا التوقّف لديه، من حادثة دارة جلجل، ليس المنحى العقليّ، ولا الواقعيّ، ولا التاريخيّ، ولكنّ الأسطوري، أو التاريخانيّ؛ نكرر ذلك.
إنّ الذي يتأمّل أمر هذه الحكاية يُحِسُّ إحساساً شديداً بأنّ حاكيها كأنه كان يريد أن يشبع رغبة عارمة كامنة: يشبعها من اللذة الجسدية، ومن ملء العين بِالأَجْسَادِ النسويّة العارية، تحت الطبيعة العارية، وتحت وهج أشعّة الشمس المشرقة، وعلى ضفاف غدير أزرق الماء...
إنه لا يمكن أن يوجد مشهد أجمل من هذا على الأرض... ولا يمكن أن نلتمس حيزاً أروع من هذا الحيز الشعريّ الجميل الذي لا ينبغي أن نكون سذَّجاً فنلتمس البحث في صدقه أو عدم صدقه، أو نسعى إلى مناقشة تاريخيّته من عدم تاريخيته... لأنه لم يكن حيزاً من أجل تصوير واقع التاريخ، ولا وجه الجغرافيا، ولا سيرة الواقع المَعِيشِ في تلك الحقبة من الدهر؛ ولكنه حيز شعريّ خالص؛ كانت الغاية منه إمتاعَ المتلقَّي الشغوف بمثل هذه الحكايات، حكايات العشق والعري، في كل زمان ومكان...
فذلك، إذن، ذلك.
وهناك مواقع أُخراةٌ للماء، وذِكْرٌ لضُروبٍ ممّا يسيل كماء المطر، وماء العين والبئر، وماء السيل، وماء العَرَق، وماء الدمع، في معلّقة امرئ القيس... لم نرد التوقف لديها لسببين اثنين:
أولهما: إنّنا عجلون إلى تحليل المطر والماء في بعض المعلّقات الأخراة. ولا ينبغي أن يجاوز الحديث عن امرئ القيس طورَه، من حيث لا يبلغ عن سِوَائِهِ شأْوَه.
وآخرهما: وهو نتيجة للأوّل، إنّا لو جئنا نحلّل كلّ أحياز الماء بما فيها من جمال، لكان هذا المقال استحال إلى كتاب كامل؛ إذ سينشأ عن ذلك السعي أننا نتوقف لدى جمالية الحيز المائيّ، ولدى أحياز أخراة ذات صلة بهما... وهي سيرة فعلاً تذهب بنا، في هذا السعي، إلى بعيد...
*****
ثانياً: طقوس الماء في معلقة لبيد
لم تخْلُ معلّقة واحدة، من بواقي المعلّقات، من ذكر المياه، أو الأمطار، أو الغدران، أو العيون، أو ما في حكمها، أو ما يكون ملازماً لها، أو ما يكون ذا صلة بها.
وربما يكون لبيد أكثر المعلّقاتيّين، مع امرئ القيس، ذِكْراً للسوائل والسيول، والأمطار والغدران؛ إذ ورد في معلقته ذِكْرٌ لمدافع الرَّيَّان، وَوَدْق الرَّواعد، والجَوْد(بفتح الجيم)، والرِهام، والغَاد المُدْجن، والسيول، والسَرِيّ، والواكف من الدِّيمَة، والتَّسجام، والغَمام، والنِهاء(مفرده: َنِهْي(بفتح النون وكسرها): وهو الغدير)، وَأَسْبل، والخلج...
فكأنّ لبيد بن أبي ربيعة كان يريد أن يسقي شعرَه بهذه السواقي، كما يحتفظ بالماء، ويترقرق بالجَوْد، ويطفَح بالغمَام... وهي سيرة لعلّ الذي حمله عليها ما تتطلّبه الحياة من الماء الذي هو أصل الحياة. إذْ بدونه لا يكون ازدهار، ولا خصب، ولا رخاء، ولا جمال...
ونودّ أن نتوقّف لدى بعض العناصر الدالّة على الماء لدى لبيد، ومنها:
*عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ.
إن النِّهاء، في اللغة العربيّة القديمة، يعني الغُدْران. وإذا كان امرؤ القيس أومأَ إِلى ما كان له في غدير دارة جلجل من مغامرات مع النساء، وإن لم يصرّح بذلك تصريحاً، وإن لم يصفه وصفاً... فعزّ على الرواة ذلك وهواة التزيّد في الأخبار فشحنوه بأسطورة النساء العاريات، وما نشأ عن ذلك من مائدة مثلت في نحر المطيّة المرقسيّة للعذارى، ثم العمْد إلى شي لَحْمِها لَهُنَّ، وسَقْيهنّ خمراً كانت معه... فإنّ لبيداً لا يربط الغدران بالنساء، ولكنّه يربطها بالحيوان. فكأنّ الحيز الجميل لديه منصرف إلى الحيوان، قبل الإنسان..
إنه يصف، في هذا المصراع الشعريّ، بقرة وحشيّة فقدت جُؤْذَرَها بعد أن أصابه الصيّادون بسهامهم فقتلوه من حيث لم تستطع، هي، حِمايَتَه، ولا إنقاذَه من مخالب الإنسان القَرِمِ إلى اللحم، والذي لا يشبع إلاّ إذا التهم لُحْمان الحيوانات:
صادَفْنَ منها غِرَّةً فأَصَبْنَها
إِنْ المَنَايَا لا تَطيش سِهَامُها
لقد ظلّت البقرة الأمّ تنتظر، من حول هذه الغدران الجميلة التي كانت تقع في صُعائد؛ فكانت تلوذ نجاة ببعض الشُّجيراتِ التي تَكْفُرُها وتُخْفْيها عن أعين الصيّادين القرِمين: ظلّت تنتظر ابنها لعله أن يَؤُوبَ، وتَرْقُبُ صغيرها عساه أن يعود: طَوالَ ليالٍ سَبْعٍ، بأَيّامها:
عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ
سَبْعاً تُؤَاماً كامِلا أَيَّامُها
ظلت البقرة الوحشية بغدران صُعائد تنتظر، وتترقب، وتتحسّس، وتتمسك بالأمل الخُلَّب، والرجاء الكُذَّبِ، لعل جُؤْذَرها أنْ يعودَ؛ ولكنْ أنَّى له ذلك وقد هَلَكَ برمية صياد؟...
ومع ذلك، بقيت تلك البقرة تقاوم اليأس؛ فكانت تَأْتَوِي إلى تلك الشُّجيرات التي كانت تتوقّى بها من المطر الهاطل، والوكف الهاتن: لعلّ صغيرها أن يعود...
البقرة عالِهَةٌ حَيْرَى... ولَبَنُها يتغازَرُ في ضَرْعِها... لقد أَلِفَتْ أن تستقبل الجُؤْذَرَ وهو يرضع من لبنها... فأيْنَ صغيرُها إذن ذاك الوديعُ البريءُ الذي كان يعتقد، أو كانت أمّه تعتقد، بغزيرتها الفطريّة أنّ الله وهَبَه الحياةَ ليحيا، لا ليحيا لكي يَخْتَطِفَ منه ذلك الصيّاد القاسي ما وهبه الله من حياة...؟
إنّ لبيداً لا يصوّر، هنا، جمال تلك الغدران، بمقدار ما كان يودّ، أو يودّ نصّه(إذا أوّلناه بحسب مقتضيات مَقْصِدِيَّةِ النص، لا بحسب مقتضيات مقصِديَّةِ الناصِّ): تصوير المآسي التي تقع، حَوَالها، في ذلك الحيز العاري المَخُوفِ، في صراع أبديٍّ بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوان والطبيعة، وبين الطبيعة والإنسان: من أجل البقاء.
كان الصراع حَوَالَ غُدْران صُعائد: صراعاً وجوديّاً... فلم يعد الماء سبباً من أسباب الحياة، ولا عنصراً من عناصر الخِصْب والرخاء؛ ولكنّه اغتدى سبباً من أسباب الموت والفناء.... البقرة الوحشيّة الثكلى تُيَمِّمُ الغديرَ لأَنْ تَشَرَب مع إِشراقة شمس الصباح، وبعد ليلة نديّة ممطرة؛ فكانت ترى قوائمها تسيخ في الرِّمال والثَّرى... وتيمّمه أيضاً من أجل البحث الغريزيّ عن صغيرها المفقود... فيصادفها جمع من الصيّادين القرِمين إلى لَحْمِها؛ فيشدّون عليها بكِلابهم ويحاولون رَشْقَها بسهامهم؛ ولكنها تَشُدُّ هي، بدافع الدفاع عن الوجود المشروع، على الكلاب الملاحقة لها؛ فتقتل منها سُخَامَاً وَكَسَابِ؛ ثم تطلق، من بعد ذلك، قوائمَها للريح حتى لا تُصيبَها سهامَ الصيّادين المرسَلة عليها من كلّ اتجاه... إنها محنة وجوديّة رهيبة تمرّ بها هذه البقرة المسكينة التي لا يرحمها على الأرض أحد من البشر... فهي لم تفقد جُؤْذُرُّها فحَسْب، ولكنها، الآن توشك أن تفقد نفسَها أيضاً... فهبوطُها تلقاءَ غدران صُعائد، الحيزِ المائيّ الجميل، بحثاً عن صغيرها الضائع كاد يأتي عليها، فيلحقها بولدها المُتَقَصِّدِ.
يا لها مأساةً تعيشها هذه البقرة على ضفاف هذه الغدران التي كان من المفروض أن تمرح من حولها وترتع، عوض أن تشقى وتقلق!..
الغدير لدى امرئ القيس مصدر للسعادة والمرح والنزهة والجمال والمتاع، ولكنه لدى لبيد مصدر للشقاء والترح والتعب والشظف والصراع من أجل البقاء؛ إذْ لا الصّيادون الذين كانوا يكْمُنون قريباً منه لهذه البقرة الوحشية لاصطيادها حقّقوا ما كانوا يريدون إليه، حقاً؛ حيث على مدى سبعة أيّام من الانتظار والترقّب لم يستطيعوا الظَفر إلاّ بذلك الجُؤذَرِ الغضّ الذي لا يسمن ولا يغني؛ ولا البقرة الوحشيّة استطاعت أن تحتفظ بجؤذرها الفتيّ، وترتع معه، وتشبعه من لبنها الدافئ، وحنانها الغامر...
خسر الإنسان، لدى نهاية الأمر، والحيوان أُلْمَعَا، أمام هذه الطبيعة المتجسّدة في غدران صُعائد... فكأنها غدرانُ شؤمٍ ونكَدٍ، لا غدرانُ خير ورغَدٍ.
والرياح لدى لبيد كأنها ريح. والأمطار لديه كأنها مطر؛ وكأنّ الطبيعة حين تضطرب وتنشز إنما تُبْدِي عن غضَبِها وعُبوسها: فتربدّ سماؤُها، ويتغازر ماؤُها، وتسيل وديانها، وتدوّي بالرعد فِجاجُها؛ فيتضافر ما هو فوق، مع ما هو تحت: ليجعلا مِمَّنْ، ومِمَّا، يعيش على هذه الأرض مُعَنّىً معذّباً، وخائفاً مترقّباً:
باتتْ وأسبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ
يَروي الخمائلَ، دائِماً تَسْجَامُها
يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتَواتِرٌ
في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجومَ غَمامُها
الليل، الظلمات، الحَيا المتواتر، والقَطْرُ المُتهاتن: لا النجوم تُرَى فتُضيء بعض هذه الأصقاع من الأرض؛ ولا السماء تُقْلِعُ فيتاح للأحياء أن يَأْمَنُوا على أنفسهم غضبة هذه الطبيعة الهوجاء. فالبقرة لم تُصّبْ بفقدان جُؤْذُرِها فَقَطْ، ولكنها أصيبت، في ليلها ذلك البهيم، ببَلِيَّةٍ ممطرة باتت تُلِحُّ عليها بدِيمَتها السُّجُومِ.
وما عُفْرُ اللَّيالي، كالدَّآدِي! ليلةٌ دَأْدَاءُ كَفَرَ الغَمَامُ نُجومَ‍ها، وَغَطَّى السحابُ قمرَها وأَدَيمَها، وتناوحت رياحُها: فلم يعد أحدٌ يرى فيها شيئاً: إن مَدَّ يده انقطعتْ، وإن حرّك رجلَه تعثَّرَتْ. ليلُةٌ لا تَسْمَعُ فيها إلاّ تناوُح الرياح، وتصايُحَ الحيوانات، وتباكِيَ الأطفال...
وكلُّ هذه الأهوالِ التي هالَتْ الأرضَ في هذه الليلةِ الدَّأْدَاءِ إنما كان أسبابُها آتِيَةً من هذا الواكِفِ السُّجُوِم، وهذا المطر الهَتُونِ الذي يَفْتَأُ يَسْجُمُ ويدوم.
فعــــل الـمــــاء
وكأنَّ للماء عقدةً مع المعلّقاتيّ لبيد، فهو حين يصف ديار حبيبته يُنحِي باللوائم، من طرْف خفيّ، على جبروت الماء وما تسبّبه من مآسٍ وشقاء، وأتراح وعناء. فهذه السيول سارعت إلى الديار حتى اغتدت عافية. ولولا هذه السيول المتسلّطة لقاومت تلك الديار عوامل الزمن، فظلت كما عَهِدَها الشاعر حين غادرها... لكنّ السيول الجارفة لم ترحمه ولم ترحَمْها، فأمست أثراً بعد عين، ولم تُبْقِ منها السيولُ إلاّ آثاراً تُحْزِنُ أكثرَ مما تُفْرِح، وتشقي أكثر مما تُسْعِد...
إنّ الماء هنا أيضاً لا يكون مَظِنَّةً للسعادة والرَّخاء والنعيم، بمقدار ما يكون مَظِّنةَ شقاءٍ وقساوة وجحيم.
بيد أنّ هذا الماء بأشكاله المختلفة: من غُدران، وأنهار، وأمطار، وسيول، وعيون، لا يلبث أن يثوب إلى جِبِلَّتِهِ الأولى التي يُسِّرَتْ له؛ وهو إخصاب الأرض وتخْضِيرُها، وإِنبات النباتات والتمكين لها في النَّماء. ويمْثُل ذلك خصوصاً في وصف الرسوم والديار، وما آلَ إليه أمرُها بعد أن تَحَمَّل عنها قطينُها:
رُزقَتْ مرابيعَ النُّجوم وصابَها
ودْقُ الرواعِدِ جَوْدُها فَرِهامُها
مِنْ كلِّ ساريةٍ وغادٍ مُدْجِنٍ
وَعِشيَّةٍ مُتَجاوبٍ إرزامُها
فَعَلاَ فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ
بالجَلْهَتَيْنِ: ظِباؤُها ونَعَامُها
والعِينُ ساكنةٌ على أَطْلائِها
عوذاً تَأَجَّلُ بالفَضاءِ بهامُها
وجلاَ السُّيولُ عن الطُّلولِ كأنَّها
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتبونَها أَقْلاَمُها
إنّ هذه الطبيعة المتجسدة في هذه اللوحة الحيزية الخصيبة العجيبة، والمترسمة عبر هذه الأبيات الخمسة لَهِيَ ذاتُ طبيعة عذريّة، كريمة، سعيدة، سخيّة، غنيّة، معطاء. فهذه الديار، أو قل: هذه الآثار الباقية من الديار، ألحّت عليها الأمطار حتّى أصبحت سيولاً تجرفها، وصابَها ودْقُ الرواعد بما هي أمطار غزيرة حتى لم تَتَّرِكْ حجراً، ولا شجراً، ولا غُثاءً، إلاّ اجتثّتْه اجتثاثاً، واقتلعته اقتلاعاً؛ فتخدّد وَجْهُ الأرض، وارتسمت على سطحه ارتسامات كأَنَّها خطوط الكتابة حين تخطّ على صفحة القرطاس.
وماذا عن النهر؟ وماذا عن هذا الأَيْهَقَان المُخضِّر، المُمَرِع الناضِر؟ ثم ماذا عن هذه الظباء المتواثبة وِبَهامِها الرَّاتعة؟ ثمّ ماذا عن هذه العِينِ-هذه الأبقار الوحشّية الواسعات العيون- وهي ساكنة في هذا الوادِ المُمْرِعِ: على أطلائها؟ ثمّ ماذا عن هذه الطبيعة العذريّة الساحرة؟ ثمّ ماذا عن هذه الأمْواهِ الزرقاء، المتغازرة الجارية؟ وكيف سكنت الأبقار وهي تُرْضِعُ أطلاءها؟ وكيف مرحت الظباء وهي تتواثب مع بهامها؟
كأنّ عبقريّة الحياة، بكل ما فيها من نضارة وبهاء، ووداعة وسخاء، لم تتجَلَّ إلاّ في هذا الوادِي الخصيب، ولم تَمْثُلُ إلاّ في هذا الربيع الرطيب؟
الرعود تُدوّي فيتجاوب دَوِيُّها عبْر مَهاوِي الأودية، وخلال الفجاج السحيقة؛ فالأصوات تنحدر من نحو العلاء إلى نحو أعماق الفجاج التي تشبه المهاويَ اللاّمتناهِيَةَ لِعمقها، وَبُعْدِ قَعْرِها. وإنها لَعَشَايَاً عجيبةٌ تلك التي تُرزِمُ فِجَاجُها وَتِلاعُها، وَتَصْدَى جبالُها وسفوحُها. وإنها لعَشَايَا رطيبةٌ هذه التي يدجن سَحابُها، وتغدق سارِيتُها، فتَسْقِي الأرض، وتُسِيلُ الوديان، وتُحْيي الموات، وتُنبت النبات...
إن الماء يعود، هنا، إلى طبيعته الأولى. إنه يتّخذ له وظيفة طقوسيّة بحيث تتجاوب السماء مع الأرض، ويتضافر الأسفل والأعلى، وتتهيّأ كلّ الكائنات الحيّة لاستقبال هذا الماء، هذا المطر، هذا الحيا: بما هو له أهل من العناية والاحتفاء والاحتفال: والإنسان في كلّ ذلك يستوي مع النبات والحيوان. بل رُبَّتَمَا ألفينا هذا الدأْبَ يتجلَّى في سلوك الحيوانات أكثر ممّا يبدو في سلوك الإنسان الذي يعنيه على كلّ حال، كثيراً، أمرُ هذا المطر الذي بفضله يتغافص نبْتُ النبات، وتربُو فروعُ الأيقهانِ، وتُخْصِبُ الجَلْهَتَانِ، وتتناسل الأبقار فتتكاثر حتّى يكتظّ بها الوادي، وتتلافح الظباء فتتعدّد حتى تحتلف بها السفح: فيَيْسُرُ على الإنسان اصطيادُها إن شاء، ويتمتع بالنظر إليها إن شاء، وَيَعُبُّ، في ماء المطر إن شاء...
فالماء هنا هو الحياة نفسها.
فما كان للإنسان ليكون لولا هذا الماءُ الذي بفضله كان له كلُّ شيءٍ على الأرض ممّا يشتهي أكلَه أو شربَه، أو لمْسَه أو شَمَّه...
وإذن، فغدران صُعائد الشقيّة المُشقية مَعاً ليستْ إلاّ أمراً عارضاً، وشأناً عابِراً، لتلك البقرة الوحشية التي اصْطِيدَ طَلْؤُها فأمستْ ثَكْلَى: تبغم وتخور، وتضطرب من حولها وتدور، لعلّها أن تقع على جُؤْذُرِها المفقود، ولكن سُدىً!.. الأبقار هنا ساكنات على أطلائها تُرْضِعُها من ألبانها، بعد أن كانت اُرْتَعَتْ وَرَتَعَتْ، وشرِبَتْ فَرَوِيَتْ. وإنما يدلّ سكونُها على أمريْن اثنين:
أولهما: إن كثرة الكلأ جعلتْها تَشْبَعُ من الارتعاء من أوّل مَرْتَعٍ. فقد أغنتْها الأكلاءُ والأعلاف والأعشاب عن أن تركُضَ وراء العُشَيْبَاتِ الشاحبة الذابلة المتباعدة المواقِعِ: تقْضِمُها وَتخْضِمُها.
وآخرهما: إنّ سكون هذه العِينِ قد يعود إلى أنها كانت آمنةً على نفسها من الصيادين الذين هم أيضاَ، لِمَا كان أصابهم من خِصْبٍ، صابَهُمْ من جَدىً، أمْسَوْا في غنىً، ولو على هونٍ ما، عن اصطياد هذه الأبقار والتماسِها تحت كلّ صقع. أو لتكاثر هذه الأبقار، في ذلك الموسم الخصيب، أَمِنَتْ على نفسها، في هذا الوادي الذي يبدو أنه كان منقطعاً عن العمران، بعيداً عن السكّان. إنّ الحيز، هنا، بديع، لأنه مُمرع خصيب، وجميل، لأنه مُخْضَوْضِرٌ قشيب؛ ونضير، لأنه يقوم أساساً على غزارة الماء، الهاطل من السماء....
ويغيب الصيّادون، هنا، عن هذا المشهد العجيب، كما يغيب عنه الرِعاءُ: فأيْنَ سهام الصيّادين المترصّدة؟ وأين المرتادون ليجلُبوا على هذا الوادي بشائِهِمْ ونَعامهم فيغضّ بهم وبها، ويصطخب بأصواتهم وصيحاتهم؛ فيمسي هذا الحيز مضطرباً بالحركة، مصطِخباً بالأصوات...؟
*****
ثالثاً: طقوس الماء في معلقة عنترة
لم يَكُ عنترة بِدْعاً من المعلَّقاتييّن الآخرين في معلقته التي ورد فيها ذكر العيون، والسَّحّ، والتسكاب، والقرارة، وماء الدحرضين، والروضة الأنف، والغيث، والنبت، وحياض الديلم، كما ورد فيها ذكر الشراب-الذي هو سائل- مراراً...
غير أنّ الماء في معلّقة عنترة لا ينهض على وجوديّة عارمة، كما لاحظنا ذلك في معلّقة لبيد العجيبة، وخصوصاً حين يربط وجود غديرٍ صُعائد بحياة البقرة التي هي إن ظلّت بعيدةًعن الغدير أوشكت أن تهلك ظَمَأً، وتمعن يأساً من العثور على طَلْئِها، وإن هي هبطت إلى الغدير فإنها توشك أن تتعرَضَ لِخَطَر الموت، ولسِهام الصّ‍يادين المترصّدة، ولمطاردة الكلاب المتحرّشة، ولكلّ الطوائل والمحن... فما عسى كانت أن تصنع وقد بُليَتْ بأمريّن اثنين كلاهما مُرٌّ وضُرٌّ: الثكل، والوقوع تحت طلب الصيادين الجشعِين...
صورةُ الماء، وطقوسُ السوائل في معلّقة عنترة أبسط من ذلك كثيراً... إنها لا تحمل فلسفة الصراع من أجل البقاء، ولا المناضلة من أجل الحياة، إلاّ في صورة تنشأ، أصلاً، عن هَطْلِ المطر، وتَغازُرِ الماء، واندلاع الربيع، وفيض الخصب. وهي صورة الذباب التي كان أبو عثمان الجاحظ أُعْجِبَ بها إعجاباً شديداً، والتي يجسدها قوله في وصف الروضة الأُنفِ التي يجتابها الذباب، وتكثر من حولها الحشرات:
أو روضةً أُنفاً تَضَمَّنَ نبْتُها
غيثٌ قليلُ الدِمْنِ ليْس بمُعْلِمِ

جادَتْ عليها كُلُّ عين ثَرَّةٍ (31)
فتركْنَ كُلَّ حديقةٍ كالدِرْهَمِ
فترى الذُّبابَ بها يُغنّي وحّدَه
هَزَجاً كفعل الشّارِب المترنِّمِ
غرِداً يَحُكُّ ذراعَه بذراعه
فِعْلَ المُكِبّ على الزِّنَادِ الأَجْذَمِ (32).
إنها ملحمة الماء والخصب في هذه اللوحة الحيزيّة البديعةِ الجمالِ، والتي تتغافص فيها السمات اللفظيّة المائيّة، والسمات التي لها صلة بجمال الماء؛ فَيَقُصُّ بعضها بعْضِاًً، وذلك مثل: الروضة الأُنفُ، والنبْت، والغيث، والدمن، والربيع، والجود، والبكر الحرّة(السحابة الممطرة)، وقرارة الماء، والسَّحّ، والتسَّكاب، وجَرَيان الماء الذي لا يتصرّم سيلانُه...
وإذا كانت أمواهُ النهر وضفَّتيْه الخصيبتَيْن ذُكِرَتْ لدى لبيد في معرض الأمْن الذي استتبّ في ذلك الوادي حتى أمِنَتْ فيه الأبقارُ الوحشيّة على نفسها وعلى أطلائها من غائلة الصيادين؛ كما كانت أمنتْ معها الظباء وبهامُها؛ فإنّ الخصب هنا -الروضة الأنف وما كان له صلة بها- ذُكِرَ عَرَضاً من أجل تشبيه ثَغْرِ الحبيبة عبلة وُوضوح غروبها، وطِيبُ مُقَبَّلِها أوّلاً، ثم من أجل وصف ربوعها الدراسة، وديارها البالية: فذكر مع ذلك، أثناء ذلك، هذا الذباب السعيد الذي خلا بهذه الروضة الأنف، إذا حقّ للحيوان أن يسعد: وذلك بفضل ما وقع له من هذا الخصب الخصيب، وهذا الجو الرطيب، وهذا الكَلأ المتكاثر، وهذا النبت المتغافص، فصار من فرْط سعادته ورِضاه، غِرداً هِزجَاً، ومتغنيّاً مترنّماً، يحك الذراع بالذراع، كفعل المكبّ الأجذم حين يقدح بعودين اثنين.
أخيراً: وقد كان الجاحظ أعجب، بهذه الصورة الغجريّة العذريّة، إعجاباً شديداً فلاحظ أن عنترة لم يُسْبَقْ إليها في الشعر العربيّ، ولم يلاحقه فيها أحد من الشعراء مخافَة أن يقصروا عما بلغه هو فيها من الجودة وحسن التصوير؛ فزعم أنْ لوْ "أنَّ امرأَ القيس عَرَضَ في هذا المعنى لعنترة لافتضح" (33)، وأنّ الشعراء كانوا يقلّدون كلّ "تشبيه مصيب تامّ"(34) سبق إليه شاعر منهم" إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب، فإنه وصفه فأجاد صفته، فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم"(35).
ونحن قد كنّا رددنا على أبي عثمان، في غير هذا المقام، حيث إننا لا نشاطره الرأي، وأنّ الشعراء لم يتحاموا هذه الصورة بمقدار ما تجانَفوا عنها لقذارتها وَبَشَاعَتِها. فلو كانت هذه الصورة تتعلّق بثغِر امرأة جميلٍ، أو بشذى وردةٍ عبق، أو بقدِّ حسناءَ ممشوقٍ- كاتفاقهم في وصف المرأة بالكشح اللطيف (امرؤ القيس)، أو الأهضم (عنترة)، أو كشح جنوبيّ (عمرو بن كلثوم)... أو بعيني الحبيبة السوداويْن المشبّهتين غالباً بعيون ظباء وجرة (امرؤ القيس- لبيد)، وببقر وَحْشِ تُوضِحَ.... لكانت الشعراء تَسَابَقَتْ إليها، وتهافتَتْ عليها، وَكَلِفَتْ بها كلفاً شديداً؛ ولكانت، إذن، جَرْت في أشعارها، ولتكاثرت حتماً في آثارها... أمّا والأمر منصرف إلى الذباب الساقط، وهيئته المستبشعة، وقذارته المستسمجة، وإلى طنينه المزعج، وغنائه المضجر، ولسعاته المؤذية، وتكالبه على الناس لَيَعَضَّ جلودهم، ولِيَسَّاقَطَ على شرابهم فيتحاموه، وليحطّ على طعامهم فيعافوه... حتى إنه ورد في الأثر الشريف بأنّ "الذباب في النار" (36). وقد كانت العرب تكنوا الرجلَ الأبخر: "أبا ذباب" (37).
أفيعقل مع كلّ ما ذكرنا، أن تتهافت الشعراء على صورة الذباب القذرة المتوحّشة لتلهج بها بدل المناظر الجميلة، والمشاهد العجيبة، والأصوات الرنينة، والحركات الرشيقة التي تأتيها الحَشَراتُ الأخراة الجميلة والنافعة كالنحل والفراش...؟
وأياً كان الشأن، فإنّ الذي يعنينا، هنا والآن، أنّ المطر هو الذي كان علّة في إخصاب حيز الروضة الأنف التي تكاثرت حشراتها، وتكالب ذبابها؛ فكانت تنتقّل من نبتة إلى نبتة، ومن عشبة إلى عشبة أخراة: التماساً للغذاء، وطلباً للحركة، ورغبة في التسافد...
والذي نلاحظ أنّ الماء كأنه أشدّ ارتباطاً بالحيوان منه بالإنسان، إلاّ ما كان من غدير دارة جلجل (الحيز المائي الذي صوّره امرؤ القيس الفتى المتأنِق الذي لم يبرح يطوّف في بلاد العرب، إلى أن انتهى به التطواف إلى الشام، ثم إلى بلاد الروم، ثم إلى قصر القيصر...) وإلاّ فإننا كنّا ألفينا لبيدا يتحدث عن البقر العِيَنِ وهنّ ساكناتٌ على أطلائِها، على جَلْهَتَي الوادي، دون ذكر للإنسان الذي كان هو الأَوْلَى بالإحساس بالخصب، والأجدر بالحرص على تَسجام الغَيث.
كما نلفي الشَّأْنَ نفسَه لدى عنترة في وصف الحديقة الغنّاء التي ربط كلّ ما فيها من نبات وزهور وأعشاب وأكلاء بهذا الذباب التي تحوم خِلالَها بدون توقّف ولا مَلَلٍ ولا كَلَلٍ.
فالماء، إذن، في التمثّل البدائي أنه كان للحيوان والنبات، ثم الإنسان الذي يتسقّط مساقطه، ويرتدي مراعَيه حين يجودها فتربو وتنمو. وكأنّ الإنسان مجرّد شريك للحيوان الذي هو هنا ذو حقوق متساوية معه، فيه.
*****
رابعاً: طقوس الماء في المعلقات الأخراة
لم تَخْلُ أيُّ معلقّةٍ من ذِكْرِ الماء، والتعامل مع المطر، وربطه بالحياة البدويّة الصحراوية بكلّ ما فيها من شَظِف العيش، وشقاوة السعْي، وشحّ الطبيعة وقساوتها. ولعلّ زهير بن أبي سلمى أن يأتي، بعد لبيد، وامرئ القيس، وعنترة، في المرتبة الرابعة من حيث الإيلاعُ بذكر الماء، ومن حيث القدرةُ على توظيفه في معلّقته، ومن حيث، خصوصاً، ربُطُه بالحياة والأحياء، وذلك حين يقول:
بها الْعِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً
وأطلاؤُها ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ (....)
وفيهنّ ملهَّىً لِلَّطِيفِ ومنظَرٌ
أنيقٌ لِعَيْنِ الناظِر المتَوسِّمِ
وقوله أيضاً:
* فهنّ ووادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ*
*فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقْاً جِمَامُهُ*
ولكننا نلاحظ أن زهيراً يتناصّ في هذه اللقطة الشعرية مع عنترة في الأبيات التي قدمناها منذ قليل، ومع لبيد قوله:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلَتْ
بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها ونَعامُها( ...)
*والعِينُ ساكِنَةٌ على أَطْلائِها*
وربما مع قول امرئ القيس أيضاً:
تَرَى بَعَرَ الأرآم في عَرصاتِها
وقيعانِها: كأنه حبُّ فُلْفُلِ
فكلُّ هذه الصوِر يَتَقَارَبث ويتشابه، وَيَنْسُجُ بعْضُها على بعضها الآخر. فهناك: العِينُ، والأطلاء، والأرآم المتلاعبة، لدى زهير، حتّى كأنّ الصورتيْن في المعلّقتين هما صورة واحدة. وهناك منظر أنيق لعَيْن الناظر المتوسّم، لدى زهير أيضاً. بينما هناك لَعِبَ الربيعُ بربْعِها المتوسمّ، لدى عنترة. على حين أنّ امرأ القيس لم يذكر إلاّ بعر الأرآم في العرصات، فذكر السمة الحاضرة (البعر) الدالّة على السمة الغائبة (الأرآم)؛ فكلامه يجري مجرىً سيماءَوِياً قائِماً على اصطناع القرينة من باب: لا دُخانَ بلا نار. وعلى أنه يمكن أن يُقْرَأَ على أنّه سمة مُماثِليَّةٌ(إقونيّة)، إذا راعينا أنّ مثل هذا البَعَر الأسود المتساقط في العَرَصات لا يدل لدى العارفين، على إبل، ولا على شاة، ولا على بقر، ولا على ظباء. وإذ اختصَّتْ هذه السمةُ الحاضرة بالسمة الغائبة التي لا يمكن أن تخرج عن جنس الظباء البيض، فقد اغتدى هذا الكلامُ وارِداً مَوْرِدَ ما نطلق عليه نحن في مصطلحاتنا "المماثل" (أي"الإقونة"، بالمصطلح الأجنبيّ).
وصورة الحيوانات في معلّقة زهير، صورة تقوم على الماء والخصب:
*رَعَوْا ظِمْأَهُمْ
* بها العِينُ والأرآمُ يمشين خِلْفَةً
وأطلاؤُها ينهضْ من كلّ مَجْثَمِ
إذ لولا الغيث النازل، والمطر الهاطل؛ لما وقع هذا الرعْيُ لهذا الكلأ المُخْضَوْضِرِ، ولما تواجدت هذه الأبقار الوحشية، وهذه الظباء الجميلة: المُطْفِلَة. فولا الإمراعُ لَما حدث تلاقح هذه الحيوانات وتسافُدُها، ولما أطفلت، إذن، ما أَطْفَلَتْ. لكننا نلاحظ، أثناء ذلك، أنّ زهيراً يتفرّد، عن بعض المعلقّاتّيين الآخرين، بربطه الماء بالإنسان، وخصوصاً بمواقف الجمال، ومآقط الحُسْنِ والدّلال، أي بالنساء الجميلات السَّاحرات، فكأنّ الماء لم يكن، من منظوره، إلاّ من أجل الحسناوات؛ وإلاّ من أجل أن يسْعَدْنَ في رِياضه، وَيرْفُلْن في أزهاره، ويستمتعن بَسَيلانِهِ وهو يسيل، ويتشنّفن بخريره وهو يَخِرُّ:
*فهنّ ووادي الرسّ كاليد لِلْفَمِ
*وفيهنّ ملهىً للطيف ومنظرٌ
أنيق لعَيْن الناظر المتوسِّم
*فلمّا وردن الماء زُرْقاً جِمامُه
فلأوّل مرة نصادف في معلّقة تخصيصَ الماء للإنسان، صراحةً ، ووقْفَه عليه، وجعْلَه يستمتع به، ثم جَعْلَه، خصوصاً، يُحِسّ به:
*فلمّا وردن الماء زرقا جِمامُه
وضعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ
فما هنّ إلاّ أن يَردْنَ هذا الماء الصافِيَ الرقراق الذي تكتظّ به هذه البئر الثَّرَّةُ؛ وإذا هنّ يُبْهَرْنَ بما في هذا الماء الزّلال من جمال، وعذوبة، وصفاء، وشفافة: فيقرّرِن الإضراب عن المسير، ويُزمعن على الثواء من حوله: فيُطَنِبْنَ الخيام، ويُزَمِعْنَ المُقام.
فلم يكن تخييمُ أولاءٍ النساء، ومعهنّ بعولُهُنَّ وأطفالُهنّ وأقاربهنّ، هنا، إلاّ من أجل جمال هذا الماء؛ إذ كان هو عنصر الحياة الأوّل، وسرّها الأكبر. فنساء دارة جلجل لم يكدن يستمتعن بالماء إلاّ ساعةً من نهار، لَمَّا تعرّضن للمضايقة والفضيحة حين استحوذ امرؤ القيس، فيما تزعم الحكاية، على ملابسهن، ثمّ زايلْنَه، وربما إلى غير إياب. بينما الماء لدى لبيد وعنترة لا يكاد يتصّل شأنه إلاّ بالحيوانات. فكأن سعادة تلك الحيوانات من سعادة الإنسان، أو كأنّ تلك الصور الخصيبة، والمشاهد المُمْرِعَة، سمة حاضرة تجسّد سمة غائبة: هي حياة أولئك البدو الذين كانوا يرتادون الكلأ، ويتسقّطون مواقع الماء، ويتوخّون المآقط التي يكون فيها خصب وريٌّ، وعُشْب وَكَلأٌ. فتسمنُ أنعامُهم متى ارتعوها، وتَرْوَى إبِلُهم متى أوردوها؛ إذْْ كانت حياتُهم من حياتها، بل وجودهم من وجودها.
وأمّا عمرو بن كلثوم فإنه يرقى بالماء إلى أنه أساس الوجود، وسرّ العزّة، وقوام السلطة؛ وأنه وقومَه كانوا لا يبالون، حين يطلبون الماء ويلتمسون الخصب، أن يقتلوا من يُلفونه في سبيلهم من أجله:
ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماءً صفْواً
ويشرَبُ غيرُنا كدَراً وطِيناً
إنّ هذا البيت يواري وراءه عالَماً معقّداً من الصراع الضاري من أجل الماء، في الحياة الجاهليّة، حيث كثيراً ما كانوا يتقاتلون على الماء، أو حول الماء، أو من أجل الماء. ويعني ذلك أنّ القبائل الخاملة، كانت ربما التمست من الماء أملحه، ورضَيتْ من العيون بأكدرها: فكان الماء العذب الزلال وَقْفَاً على القبائل العزيزة، والبطون الماجدة التي تقوى على البطش والصراع.
*****
إنّ الماء حين يذكر في المعلقات، إنَّما يذكر:
1. إمّا غيثاً هاتِناً تُخْصِبُ عليه الأرضُ، وينمو به النبت:
2. وإمّا شآبيبَ غزيرةً تقع منها السيول، وتسيل بها الأودية:
*من السيل والأغثاء فلكهُ مغزَلِ(امرؤ القيس)،
*وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَهُ(نفسه)،
*كأنّ السباع فيه غرْقَى عِشيَّةً(نفسه)،
*وجلا السيولُ عن الطُّلولِ (لبيد)؛
3. وإمّا غُدْراناً يسبح فيها العذارى، وتَرْوَى منها الحيوانات:
*ولاسيما يوم بدارة جلجل(امرؤ القيس)،
*شرِبَتْ بماء الدُّحْرُضَيْنِ فأصبحَتْ
زوراءَ تنفُرُ عن حِيَاضِ الدَّيْلَمِ(عنترة)،
عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِ صُعَائِدٍ
سَبْعاً تُؤَاماً كاملاً أَيَّامُها(لبيد)؛
4. وإمّا عيوناً ثرثارة يغتسل فيها الناس، ويستقون منها ما يشربون:
*فمدافِعُ الرَّيَّانِ(لبيد)،
*فتركن كلّ حديقة كالدرهم (عنترة)،
*فلمّا وردن الماء زرقا جِمَامُهُ
وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِر المتوَسِّمِ(زهير)؛
5. وإمّا أنهاراً صغيرة، يكثر الخصب على ضفافها:
*فتوسّط عرض السرى(لبيد)،
*وأطفلَتْ بالجَلْهَتَيْنِ ظِباؤُها وَنَعَامُها(لبيد أيضاً)؛
6. وإمّا عُيوناً أو آباراً يشتدّ من حولها الصراع، فلا ينالها إلا الأعزّ، ولا يُبْعَدُ عنها إلاَّّ الأذلالّ:
*ونشرَبُ إِن ورَدْنا الماء صفوا
ويشرب غيرُنا كَدراً وطينا(عمرو بن كلثوم)؛
7. وإمّا بحراً طامِياً، تمخر فيه الفُلْكُ:
*يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حيزومُها بِها (طرفة)،
*وماءُ البحر نَمْلَؤُه سَفِينَا (عمرو بن كلثوم).
إحالات وتعليقات:
  1. يراجع الدكتور أنور أبو سليم، المطر في الشعر الجاهليّ، بيروت، 1987 . <LI value=1>الجاحظ، الحيوان، (مجازات متفرقة من هذا المصدر). <LI value=1>الثعالبي، فقه اللغة، وابن سيده، المخصصّ... الخ... <LI value=1>أنور أبو سليم، م. م. س.، ص 45 وما بعدها. <LI value=1>يراجع مثلاً: ياقوت الحموي، معجم البلدان، (عين). <LI value=1>ابن منظور، لسان العرب، حيا. <LI value=1>م. س. <LI value=1>الدكتور مصطفى ناصف، قراءة ثانية لشعرنا القديم، منشورات الجامعة الليبيّة، كليّة الآداب، ليبيا(بدون تاريخ)، ص126 وما بعدها. وانظر أيضاً، أنور أبا سليم، م. م. س.، ص48- 49. <LI value=1>ابن قتيبة، كتاب العرب، ص372، في رسائل البلغاء، وابن منظور، م. م. س.، (حنف)
    9م- ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، مجازات متفرقة من هذا الكتاب.
    <LI value=1>ابن كثيرة، السيرة النبويّة، 1 . 62 . ابن الكلبي، م. م. س.، ص 6- 8. <LI value=1>م. س. <LI value=1>م. س. <LI value=1>ابن منظور، م. م. س، لمع. <LI value=1>م. س. <LI value=1>ديوان الأعشى، ص153. ويروى أيضاً: "أوشالها"، وهي اختيار ابن منظور، م. م. س. <LI value=1>"لمع الرجل بيديه: أشار بهما، وألمعت المرأة بسوارها وثوبها كذلك" (ابن منظور، م. م. س.، لمع). وانظر أيضاً شرح ديوان حماسة أبي تمّام، للمرزوقي، ص2. 631- 632، 743، والجاحظ، م. م. س.، 5. 521 . <LI value=1>السلع والعشر: ضرب من الشجر كان يوقد في مثل هذه المناسبة المعتقداتيّة. <LI value=1>الجاحظ، م. م. س، 4. 466. هذا، ويورد الجاحظ ثمانية أبيات لأميّة بن أبي الصّلت يتحدث فيها عن هذه الطقوس الاستمطارية: م. س.، 4. 466- 468. <LI value=1>ابن قتيبة، م. م. س.، ص. 361، وابن منظور، م. م. س.، حنف. <LI value=1>راجع أبا زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب، 38- 39(بولاق)، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1. 64 -66، مثلاً. <LI value=1>ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4. 140. ونصّ الحديث: "وذكر أبو جعفر أحمد بن محمّد النحاس أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال". <LI value=1>كتبنا مقالة عن جماليّة الحيّز، ومنها قسم ينصرف إلى الحيز المائيّ، ضمن هذا الكتاب، فلترجع. <LI value=1>ابن قتيبة، م. م. س. <LI value=1>القرشيّ م. م. س. <LI value=1>م. م. س. <LI value=1>ابن عبد ربه، العقد الفريد، 3. 71، والجاحظ، م. م. س، 1. 120- 123. <LI value=1>م. س، 5. 133- 134 . <LI value=1>ابن قتيبة، م. م. س.، 1. 63 . <LI value=1>الجاحظ، م. م. س.، 3- 127 و311 -312 .
  2. لقد وقع اضطراب شديد في رواية أبيات عنترة وترتيبها، والحذف منها: بين الزوزنيّ، والقرشيّ، والجاحظ الذي روى الصدر من البيت الثاني في هذا الشاهد كما أثبتناه؛ وكأنّ الضمير في"طيها" يعود على"الروضة الأنف" لديه. بينما رواية الزوزني:
جادت عليه كُلُّ بِكْرٍ حُرّة
فتركن كلّ حديقة كالدرهم
ولا ينبغي للضمير لديه أن يعود على شيء مذكَّر في البيت السابق، كما أن الشرح الذي كتبه حول هذا البيت ليس جيّداً حيث الاضطرابُ فيه بَادٍ. بينما رواية القرشيّ أعلى وأدنى إلى منطق الترتيب لهذه الأبيات: لولا ما ورد فيها من هذا البيت الذي لا يخفَى التكلُّفُ في دَسِّهِ، وخصوصاً ما جاء في صدره:
وبحاجب كالنون زُيِّنَ وجْهُها
وبِنَاهِدٍ حَسَنٍ وكَشْحٍ أهْضَم
فعلينا أن نكون سُذَّجاً غَفَلَةً لكي نصدّق أنّ الشاعر الجاهليّ كان يُشَبِه شكْلَ الحاجِبِ الأَزَجِّ بشكل حرف النون(وهو على كل حال تشبيه سيئ، لأنّ شكل النون مقوّس أكثر بكثير من شكل الحاجب الذي يشبه شكله شكل الهلال مثلاً... فالحاجب الذي يشبه شكل النون يجب أن يشبه شكل حاجب الشيطان، كما يجب أن يتمثّله الخيال...)، فهنا يستحيل عنترة من حامل للرمح والسيف، إلى حامل للقلم والقرطاس، وهو أمر غيرممكن. وإذن فالبيت منحول مدسوس، والذي نحله ليس ذكيّاً ولا مثقفا بالثقافة التاريخية...
والذي يعنينا، هنا، أكثر هو أنّ معاد الضمير لدى القرشي، مطابق لما ورد في رواية الزوزنيّ، ولكنّ معاده واضح حيث يلتفت إلى رَبْعِ عبلة:
ولقد مررتُ بدار عَبْلَةَ بعدما
لَعِبَ الربيعُ بِرَبْعِها المتوسِّم
ويضاف إلى كلّ ذلك أن رواية الجاحظ "كلّ عين ثرّة"، ورواية الزوزني والقرشي: "كلّ بكر حرّة".
ونحن كنّا نؤثر أن تكون رواية صدر بيت عنترة على هذا النحو:
*جادَتْ عليها كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ*

فلعلّ تلك الصياغة أدنى إلى أن تتلاءم مع ما سبقها من معان...
31. الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 140- 141؛ والجاحظ، م. م. س.، 3. 312؛ والقرشيّ، م. م. س.، ص 95.
32.الجاحظ، م. س.، 3. 127 .
33.م. س.، 3. 311 .
34.م. س.، 3. 331- 312.
35. ابن منظور، م. م. س.، ذبب.
36.م. س.












رد مع اقتباس