منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - *«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-16, 22:36   رقم المشاركة : 41
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

القديمة، ما يفيد أنّ العرب كانت تمتنع عن أكل لحمان الناقة، والفرس، والثور الوحشيّ، والنعامة، والعير..

والثانية: أننا لم نعثر على نصّ شعريّ جاهليّ يثبت أنّ العرب كانت تعبد كلّ هذه الحيوانات التي ذَكَرَ طائفةً منها الدكتور البطل. ولا نعتقد أن ما اسْتُكْشِفَ من رسوم، هنا وهناك، يَرْقَى، تاريخيّاً، إلى أن يدُلّ على تقديس العرب إياها، على سبيل القطع واليقين. فقد يرسم المرء ما يحبّ، كما قد يرسم ما لا يحبّ. وتظلّ المسألة، هنا، قائمة على التخمين والظنّ، لا على اليقين والقَطْع.
والثالثة: أنّ ما ذهبَ إليه الدكتور ابراهيم عَبد الرحمن من "أنه لم يحدث ولو مرة واحدة، أن قتل الصائد ثوراً في شعر الجاهليّين القَصَصِيّ، إلاّ في شعر صَدْر الإسلام"(19): لا نتّفق معه عليه، هو أيضاً، لجُنوحِنا إلى الاعْتقادِ بنقْصِ الاستقراءِ قبل إصدار هذا الحكم.
وعلى أنّا لا ندري ماذا كان يعني الدكتور ابراهيم عبد الرحمن بقوله "في شعر الجاهلييّن القصصيّ"، على وجه الدّقّة؟ فهل كان يريد به إلى الشعر الذي يحكي فيه صاحبُه مغامرةَ صَيدٍ، أو نزهة طَرَدٍ، أم كان يريدُ إلى غير ذلك؟ ونحن ألفينا كثيرا من الأشعار الجاهليّة تتحدّث عن قتل الثور، أو العَيْر، وعن أكله -وهي مندرجة بشكل أو بآخر في مجال القصّ -ومن ذلكم قولُ امرئِ القيس:
فعادَى عِدَاءً بين ثورٍ ونَعْجةٍ
دراكاً، ولم يَنْضَحْ بماءٍ فَيُغْسَلِِ
فظّلُّ طُهاةُُ اللَّحِمْ مِنْ بين مُنْضِجٍ
صَفِيفَ شِوَاءٍ، أو قَديرٍ مُعَجَّلِ
ولعلّ ما يذكره الدكتور إبراهيم عبد الرحمن لم يرد إلاّ في أشعار قليلة منها معلّقة لبيد التي نلفي في بعضها البقرة تنتصر على الصّياد وكلابهِ معاً:
لِتَذُودهُنَّ وأيْقَنَتْ إنْ لَمْ تَذُدْ
أنْ قدْ أحمّ مِنَ الحُتوفِ حِمَامُها
فتقَصَّدَتْ منها كَسَابِ فضُرِجَتْ
بِدَم، وغُودرَ في المَكِرّ سُخامُها
لكنّ هذه البقرة لم تأتِ ذلكَ إلا بعد أن كانت، في الحقيقة، ابْتُلِيَتْ بعدوان الصيّاد وكلابِه على جُؤْذُرها، وبعد أن كانت أيقنت، بعد سبعِ ليالٍ مَضَّتْها تنتظره لعلّه أن يَؤُوبَ إليها، أنَّ ابنَها قد اُصْطِيدَ:
صادَفْنَ مِنْها غِرَّةٌ فأصَبْنَها
إنّ المنايَا لا تَطِشُ سِهامُها
فكأنّ سلوكَ البقرة وغضَبَها كان ضَرْباً من التعبير عن الحُزْن الذي أصابَها بعد أن فَقَدَتْ جُؤذَرَها.
وعلى أنّ المعركَةَ الضارَيَة التي تَحْدُثُ بين الصّيّادِ وبقرةِ الوَحْشِ، في معلّقة لبيد، لا تدلّ على أنّ هذه البقرة كانت مقدّسةً معبودةً لديهم على نحو صريح، بمقدار ما نلفي تصويراً دقيقاً وأميناً لها، قائماً على المُعايشة والمُخالطة والمُعاينة والمُمارسة، نابِعاً من التجربة والمُشاهدة: لِمَا كانَ الصَّيّادُ يكابده لدى اصطياده بَقَرَةً أو ثَوْراً. ولعلَّ مثل ذلك هو الذي حمل امرَأَ القيس على أن يفتخر بفرسه فيجعلَها سابقة إلى درجة خروجها عن مألوف العادة ممّا يعرف الناس من سرعة الخيل، فإذا جوادُه قَيْد الأوابِدِ، ولذلك استطاع أن يعادِيَ بين ثور وبقرة في طلْقٍ واحد دون أن يُلِمَّ عليه العَرَقُ، أو يصيبَه شيء من البُهْر والنَّصَب: فقد استطاع الصيّادُ بفضل هذا الحِصَان السابق أن يجارِيَ ثَوْرَاً ونعْجَةً في وقت واحد، فيتيح لصاحبه أن يقتلهما معاً، ليقدّمهما من بعد ذلك طعاماً شهيّاً لأهلْ الحيّ، فيشوِيَ منهم مَن شاءَ ما يشاء، ويطبخَ منهم مَنْ شاء ما يشاء، مِنْ لحومهما.
ثالثاً: أصناف الحيوانات والطير والحشرات
في المعلّقات
لقد رصدنا من خلال قراءاتنا المعلّقاتِ السبعَ ما لا يقلّ عن ثلاثة وعشرين صِنْفاً من الحيوانات والطير والحشرات مثل الناقة وما في حكمها (البعير -المطيّة الخ)، والأرآم وما في حكمها (الرشأ- الغزال- الظبْي -الخ) والحصان، والنَّعام، والذئب، والثعلب، والبقر، والثور، والأَتان، والعَيْر، والأسارِيع، والمَكاكِيّ، والسباع، والأوْعَال، والحَمام، والحَيّة، والعُقَاب، والذُّباب.. وألفينا امرأ القيس أكثرَهم ذِكْراً لأصنافِها حيث ذكر في معلّقته ما لا يدنو عن أربعةََ عشَرَ صِنْفاً، ثمّ يأتي بعده لبيد وطرفة بذكر تسعةِ أصنافٍ من الحيوانات، ثم عنترة بذكر ثمانية أصْنَافٍ، ثم الحارث بن حلّزة بذكر سبعة، ثمّ زهير بذكر ثلاثةٍ فقط: وهي الناقة، والآرام، والأسَد، ومثله عمرو بن كُلثوم بذكر ثلاثة هي الناقة، والكِلاب، والخيل.
وعلى أنّ كثيراً من هذه الحيوانات وَردَ مكرَّراً، وقد بلغ التكرارُ لدى طرفة إحدى عشرة مرّة على الأقلّ للناقة وما في حكمها، وبلغت درجة التكرار لدى عنترة سبع مرات، ولدى لبيد خمساً، ولدى امرئ القيس وعمرو بن كلثوم أرْبعاً، ولدى زهير ثلاثاً، ولَمْ يقع التكرار لدى الحارث بن حلزّة.
وربما يأتي ذِكْرُ الخيلِ في المرتبة الثانية، ولكنْ بعيداً عن الناقة التي استأثر ذِكْرها بخمس وثلاثين مرة في المعلّقات السبع، حيث لم نُلْفِ ذِكْرَها يعلو إلاّ لدى عنترة وعمرو بن كلثوم بستّ مرّات، ثمّ لدى امرئِ القيس وزهير بزهاء ثلاثِ مرات. ولم يرد ذكر الخيل في معلّقات لبيد، وطرفة، وزهير، إطلاقاً.
ثم يأتي ذِكْرُ الظبي وما في حكمه بتواتُرٍ بلغ سِتَّ عَشْرَةَ مرّةً: أربع مرّات لدى كلٍّ من امرئ القيس، ولبيد، والحارث بن حلزّة وثلاثاً لدى عنترة، ومرّةً واحدةً فقطْ لَدى طرفة.
ثم يأتي ذِكْرُ النّعام بتسع مرّاتٍ: ثلاثِ مرّاتٍ لدى كُلٍ من زُهير، والحارث بن حلّزة، ومرّة واحدة لدى كلّ من امرئِ القيس، وطرفة، ولبيد...
ولعل قائلاً أنْ يقولَ، ولا نحسبه إلاّ مكابراً مُناوئاً: وما بَالُ هذه الإحصاءات(20)؟ وما قيمتها ما دامت تنهض على جَهْدٍ عَضَليٍّ بَحْتٍ، وما دامت، بحكم يدويّتها، لا تستطيع أن تَبْرأَ من بعض الأخطاء لدى القيام بالإحصاء: إمّا زيادةً، وإمّا نقصاً؟ ولَوْلاَ عَدَلنَا عَنْها إلى إجراءٍ آخرَ أجدى نَفْعاً للقارئ والباحث معاً؟
ونحن مع اقتناعنا بأنّ الإحصاء لم يَكُ قطُّ لدينا غايةً في ذاته، ومع تسليمنا بأنّ نتائج الإحصاء لا تكون مسلّمة على سبيل القطع واليقين، فإننا، مع ذلك، نريد أن نُبْهِتَ هذا المعارضَ المُكابر، ونبْكّتَ هذا المُشاكِسَ المُناوِئَ، بأن نلقي عليه أسئلة أخراةً، وهي: بل ماذا كان يمكن أن نأتي، ونحن نتحدّث عن هذه الحيوانات في نصوص المعلّقات لَوْ لَمْ نَعْمدْ إلى هذا الإحصاء؟ وما الوسيلة الإجرائيّة التي كان يمكن بواسطتها أن نهتدِيّ السبيلَ إلى أنّ الناقة، مثلاً، هي التي استأثَرَتْ بالتواتُرِ لدى المعلّقاتيّين، وأنّها الحيوان الوحيد الذي ألفينا ذِكْرَهُ يَرِدُ في جميع المعلّقات؟ وما ضُرّ هذا الإحصاءِ، في هذه الاِستنتاجات، وقد أتاح لنا، كما أسلْفنا الْقَال، أن نعرف الحيوانَ الذي كان مستْبِدّاً، لدى المعلّقاتيّين، بالاهتمام، مستأثراً بالعناية، حاضراً في الأذهان، عالِقاً بالقلوب: وهو البعير الذي كان يُتّخَذَ رَكوبَةً، وطَعَاماً، كما كان يُتخّذُ لِمَنَافِعَ أخراةٍ كثيرةٍ كالاتّئِادِ والإمْهْار؟
وإذا كُنّا لَمْ نُلْفِ حيواناً، كان أكثرَ استبداداً بالحضورِ في نصوص هذه المعلّقات من البعير، فَبِمَا اتّصاله اتّصالاً وثيقاً بحياة أهل الجاهليّة.
والحقُّ أنّ للإبل مكانةً مكينةً في المجتمع العربيّ البدويّ بعامة، والمجتمع الجاهليّ بخاصّة. ولعل من حقّنا، ونحن نحاول التركيز على موضوع الإبل، أن ننصرف بوهمنا إلى دَوْرِها الاقتصادّي في ذلك المجتمع بحيث كانت تُمَثّلُ أساسَ الحياة، بعد الماء، حتّى قالت إحدى بناتِ ذي الإصبع العُدْوانيّ: "الإِبل (...) نأكل لُحمانَها مُزَعاً، ونشْرَبُ ألبْانها جُرَعاً، وتَحْمِلُنا وضَعَفَتَنا مَعاً"(21) فكانت الإبل بالقياس إلى العرب طعاماً يقتاتونَه، وشراباً يتجرَّعونه، ومْركَباً يمتطونه:
1-كانت الإبلُ تُتَّخَذُ غِذَاءً إذْ لَحْمُها مِمّا يُؤكَلُ، في المجتمعات البدوية والصحراوية، إلى يومنا هذا. ويبدو أنّ أهل البادية كانوا يجدون في طَعمه نَكهة خاصّةً كانت تجعلهم يتلذّذون بطعمه تلذُّذاً، وربما كانوا يشوونه كما نفهم ذلك من حكاية امرئ القيس مع النساء يوم دارة جُلْجُل، حيث اقترح الشاعر على العذارى أن يعقر لهنّ ناقتَه، فرحبّن بالفكرة، وتقبّلن الدعوة، فجمع الإماءُ الحطب، وضرَّموا النار فيه، ثمّ أخذوا في شَيِّ لَحِمْ ناقة امرئ القيس:
ويوم عَقْرتُ للِعَذارَى مَطيّتي
فيَا عَجَباً مِنْ كُورِها المُتَحَمُّلِ
فظلَّ العَذارى يَرْتَمينَ بلَحْمِها
وشَحْم كَهُدَّاب الدَمقْس المُفَتَّل(22).
2-كانت الإبل تُتّخَذُ للنقل، وتُصْطَنَعُ في الأسفار، فكان يُرْتَفَقُ بها في مُرْتَفَقاتٍ اجتماعيّة كثيرة، لعلّ أعْرَفَها لدينا:
أ-إنهم كانوا ينقلون عليها بضائعهم في الأسفار التجاريّة (رحْلَتَا الشتاءِ والصيف لدى قريش)، ويحتملون عليها أمتعتهم في الارتحالات العاديّة التي كانت تقع لهم حين كانوا يتحمّلُونَ من حَيٍّ إلى حَيٍّ، ومن مَرْعى إلى مَرْعى، ومن ماء إلى ماء، ومن صُقع إلى صقع آخر.
ب-إنهم كانوا يحتملون على مُتونها نساءَهم في الأسفار التي كانوا يتّخذون هوادج يُركِبون فيها نساءَهم على ظهورهم. ويبدو أنّ هذه الهوادج كانت تتّخذ للحرائر والعقيلات، ولم تَكُ تُتّخَذُ لعامّة النساء، ولطبقة الإماء. وكانت العرب تطلق على الرجل المديدِ القامةِ، الفارِعِها "مُقبّل الظُّعُن"(23).
وشاهُد استعمال الهوادج للنساء واحتمالها فوق المطايا، قولُ امرئ القيس مثلاً:
ويوْم دخَلْتُ الخِدْرَ: خِدْر عُنَيْزَةٍ
فقالَتْ: لكَ الويلاتُ إنّك مُرْجلي
تقول وقد مال الغَبِيطُ بنا مَعاً
عَقَرْتَ بعيري يا اُمْرأ الْقَيْسِ، فأنْزِلِ
3-كان يُنْتَفَعُ بوبرها انتفاعاً لطيفاً بحيث كانوا يرتفقون به في جملة من المرافق لعلّ أهمّها:
أ-كانوا يصطنعونها في نَسْج المَلابس بحيث كان نساؤُهم ينْسُجْنَ وَبَرَها لاتّخاذِها أثواباً يرتدونها. ولا يبرح الناس، إلى يومنا هذا، في جَنوب الجزائر مثلاً، ينسُجون، من هذا الوَبَر، بَرانِسَ. وهِيَ من أغلى الأثوابِ التقليديّة ثمَناً، وأجْملها لباساً عربيّاً، وأبهاها مَرْآةً للرجال، وأجلّها في المجالس والمَآقط.
ونحن وإن كنّا لا نمتلك من المعلومات التاريخيّة ما يتيح لنا أن نحكم بِغَلاءِ سِعْرِ الملابس الوَبريّة قديماً، في المُجتمعِ الجاهليّ، إلاّ أننّا وقياساً على ما نعيشه إلى يومنا هذا في المجتمعات البدَويّة، نعرف أنَّ الوبر هو الأغلى، ثمّ يأتي من بعده الصوف، ثم الشَّعَر.
وإنما كان الوبر أغلى ثمَناً لأنّه أندرُ وجوداً في الأسواق، وأعزّ مادّةً في الإنتاج، على حين أنّ الصوف أكثرُ كثرةً في هذه الأسواق، وأيسر إنتاجاً لدى مُرَبيّ المواشي. أمَّا الشعر فلِرداءة مادّته، وخُشونتها، وعُسْرَ غَزَلِها ونسْجِها، وتساقُطِ أَسْقاطِ الشعَر منها أثناء الغزْل- وقد يتطاير الشعرَ على الطعام إذا كان منه قريباً، وربما صادف الطاعِمُ شيئاً من ذلك في أصل الطعام الذي يطْهوه النساءُ اللواتي لا يتشدّدن في التزام النظافة- فإنَّ زُهْدَ الناسِ فيه كثيرٌ، ورغبتهم عنْه شديدةٌ على الرغم من أنّ هناك مُرتَفَقاتٍ لا تليق إلاّ به، ولا يليق إلاّ لها، ومن ذلكم نسْجُ الخيام التي تُنْسَجُ أيضاً من الصوف والوبر(24)- بيد أنّ نوعيّة الخِيام الشّعَريّة هي الأردأ والأسوأ بالقياس إلى مادّتِيَ الوبر والصوف.
ب-كما كان العرب ينتفعون بالوَبَر في نسْج الأخبية، والبُجُد(25)، خصوصاً. وإنما سُمِّيَ سكّانُ الباديَة أهْلَ الوبر "لأنّ بيوتهم (كانوا) يتّخذونها منه"(26).
فوظيفة الوبر حين تربط بهذه الارتفاقات تبيّن لنا أنّ أهميّتّها الاقتصاديّة والعُمْرانيّة والغذائيّة عظيمةُ الشأن، شريفة المكانة، ذلك بأنّه كان يَقِي الناس حَرّ الشمس وَصَبَارَّة الشتاء، كما كان هذا الوبر زينةً في المجالس، وَجلالاً في المَحافل بحيث يُضْفي شيْئاً من البَهاء والسكينة على مُرتديه. بل كان أيْضاً ضرْباً من الطعام يُضْطَرُّ الناس إلى الاقتيات به أيّام المجاعات. ذلك بأنّ الأعراب البادين المحرومين، كانوا في أيّام المحَن والضُّرِّ، يُضطرّون إلى شَيّ هذا الوبر بعد أن يصبّوا عليه شيئاً من الدَّم ابتغاءَ الاقتياتِ به، وذلك هو العِلْهزُ(27).
4-وْديُ القَتْلى:
كان من دأب العرب إذا وقعتْ حادثةُ قَتْلٍ بين شخص وشخص آخر، من قبيلتين مختلفتين، خارج إطار حرب معلنة، أو عَداوة مبيّتة: أن يحتكموا إلى حكمائهم لِوَدْي القَتيل، والاّ أُخِذَ بثأره دَمَاً. وكانت دِيَةُ القتيل، في حال الاتّدَاءِ، غالباً ما تتوقّف لدى مائةٍ بعيرٍ للقتيل الواحد، أو لافتكاك الأسير الواحد، فإن أسَرَ أسيراً رجلان اثنان، كان لكلّ منهما مائةٌ مِن البُعْران. فإن كان الأسيرُ سيّداً من سَراةِ القوم وأشْرافهم كانت الدِّية أكثرَ من ذلك كما وقع في افتداء معبد بن زُرارة الذي أسَرَه عامِرٌ والطُّفَيْل، ابنا مالك بن جعفر بن كلاب، فلمّا جاءهما لَقِيط ابْنُ زُرارة، أخو معْبَد، ليفتدِيَه منهما بمائَتَيْ بعير استَقَلاّ الدّيَة، وَقَالا: "أنت سيّد الناس" وأخوك معبد سيّد مضر، فلا نقبل فيه إلاّ دِيَةَ مَلكٍ(28)!
وقد نَهَى النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يزيد وَدْيُ القتيل عن أكثر من مائة بعيرٍ، وعَدّ ذلك من فعل أهل الجاهليّة(29).
5-مهْرُ النِساء:
وكان الرجل الكريمُ رُبَّما مَهَرَ العقيلةَ العربيّة مائةَ بعيرٍ، بل كان ذلك هو الأغلب، وقد ظَلّ قائماً إلى أن جاء الله بالإسلام(30).
ويبدو أنّ العرب بدأت تستعيض عن الإبل بالدراهم حين شاع التداول بين الناس بالعملة المسكوكة بعد ظهور الإسلام، وبعد تدفّق الثروات، وتكاثر الأرزاق(31).
كما كانت الإبل تمثّل أساسَ الاقتصاد في المجتمع الجاهليّ فكانت هي مصدرَ أموالِهم، ومآل أرزاقهم، فكانوا إمّا أنْ يُرَبّوها فَتُنْتَجَ لهم فَيَبِيعُوا ما يفيض منها عن لُباناتِهم في الأسواق، وإِمَّا أن يُتاجِروا فيها فيتموَّلوا من ذلك أموالاً، ويُحرزوا أرْباحاً، فكان ذلك يحصل لهم، إذن، إمّا بالابتياع، وإمّا بالإنتاج، وإمّا بالاتّداء، وإمّا بالامتهار، وإمّا بالاتِّهاب..
لم يكن البعير سفينةَ الصحراءِ فحسْب، ولكنه كان مصدرَ الحياة والبقاء، ولم يكن أحدٌ يستغني عنه من العرب على ذلك العهد، فالذي كان يُبْدَعُ به في تَظعانِه، من فقراءِ الأعراب ومَحْروميهم، كان ربّما اسْتحْمَلَ السّراة والأكارِمَ من الناس، كما حَدَثَ للأعرابي الذي استحمل الرسولَ عليه السلام قائلاً: "إنّي أُبْدعَ بي فأُحْمِلْنِي"(32) ولعلّ هذا الاهتمام الفائق بالبعير هو الذي أفضى إلى نشوء طائفةٍ من الطقوس والمعتقدات والوثنيّات حَوَالَهُما، فإذا نحن نصادف في هذه الطقوس الفولكلوريّة لُعبةَ الميْسرِ القائمة على نَحْر الإبل، ثم توزيع لُحمانِها على الفقراء والغرباء والضِّيفانِ، كما نصادف معتقدات ووثنيّاتٍ أخراةً تنهض من حولها مثل معتَقَدِيِ البليَّة والعَتيرة وسَوائِهِما. ولنبدأْ في تحليلها بما انتهَيْنا منه.
1-العتيرة:
وردت هذه المُعْتَقَدةُ المرتبطةُ بعادات أهل الجاهليّة، الوثنيّة، في معلّقة الحارث بن حلّزة، لدى قوله:
عَنَتا باطلاً وظُلْماً كما تُعْـ
تُر، عن حَجْرَةِ الربيض(33)، الظّبَاءُ
فقوله:/ كما تُعْتَرُ/ إيماءةٌ إلى طقوس وثنيّة قديمة كانت تُمارَسُ في معتقدات الجاهليّين، وظلّت قائمةً إلى أن جاء الله بالإسلام فأبطلَها. وينصرف معنى "العَتْر"، و"العَتيَرِة" إلى جملة من الطقوس المعتقداتيّة، لعلّ أهمّها:
أ- أنّ العَتْرَ كان عبارة عن "شاةٍ كانوا يذبحونها في رَجَبٍ لآلهتهم"(34) وكانوا يدَمُّونَ رأس صَنَمِهم الذي كانوا يقَرِّبون له عَتْراً، في هذا الشهر المحرّم: بِدَم العتيرة. وكانوا يطلقون على تلك الطقوس الوثنيّة العجيبة "أيّام ترْجيبٍ وتعْتَارٍ"(35).
ب- كانوا يذْبَحون أوّل ما يُنْتَجُ لهم لآلهتهم على سبيل التبرُّك، والتماس الأزدِلاف منها.
ج- وهناك المُعْتقدةُ (التي أومأ إليها الحارث بن حلّزة والتي كانت متمِثّلة في أنّ الرجل منهم "كان يقول في الجاهلية: إن بلغت إبلي مائةً، عَتْرتُ عنها عَتِيرةً، فإذا بلغت مائةً ضَنَّ بالغنم فصادَ ظَبْياً فذبَحه"(36).
وكانوا في كلّ الأطوار، إذا ذبحوا عتائرهم، يَصُبُّونَ دمها على رؤوس الأصنام المقرّب إليها. وكانت طقوس الذّبْحِ تَتِمُّ، فيما يبدو، في كلّ الأطوار، في شهر رجب. ولعلّ من أجل ذلك كانوا يطلقون على هذه المُعْتقَدةِ الوثنيّةِ: الرجبيّة(37).
د- وكان العَتْر بمثابة النَّذْر، في الشؤون العامّة، بحيث كان الرجل، على عهد الجاهليّة، إذا طلب "أمراً: نذَرَ لئِنْ ظَفرَ به ليذْبَحَنّ من غنمه في رجب: كذا وكذا. وهي العتائر أيضاً. فإذا ظفَرَ، فربما ضاقت نفسُه عن ذلك وَضَنَّ بغَنَمِه، وهي الربيض، فيأخذَ عدَدَها ظِباءً فيذبحها في رجب مكان تلك الغنم"(38).
وقد شرح ابن منظور بيت الحارث بن حلّزة الذي نحن بصدد تحليل بعض الطقوس الفولكلوريّة فيه، فذهب إلى أنّ "معناه: أنّ الرجل كان يقول في الجاهليّة: إن بلغت إبلي مائةً عتْرتُ عنها عتيرةً، فإذا بلغت مائةً ضَنَّ بالغنم فصاد ظَبْياً فذبحه. يقول: فهذا الذي تَسَلُونَنا اعتراضٌ وباطلٌ وظُلْمٌ، كما يُعْتَرُ الظَّبْيُ عن ربيض الغنم"(39).
فالعتيرة، إذن ذبيحةٌ كان أهل الجاهليّة يتقرّبون بها لآلهتهم كلّما ألمّ عليهم رجَبٌ في طقوس وثنيّة عجيبة إلى أن جاء الإسلام "فكان على ذلك حتّى نسخ بعد"(40)، وذلك بنهْي النبيّ عليه السلام عن ذلك في الحديث المعروف: "لا فرْعَ ولا عَتِيْرَةَ"(41).
ولقائِل أن يعترض علينا فيقرّر أنّ أمر هذه العتيرة خالصٌ للغنم، ومتحوّل عنها إلى الظِباء، فما بالُ الإبلِ وهي هنا منشودَةٍ للْعَتْر، ولا مطلوبةٍ للنّحر، ونحن نُجيبه مبكّتين إيّاه: إنّ كلّ هذه الطقوس لم تكن إلاّ من أجل أن يبلُغَ تعدادُ إبل الرجل مائة، فلمّا كانت هذه الإبل هي موضوع هذه الطقوس، وهي الغاية التي كانت من أجلها تتّخذ هذه الوسيلة، فقد اقتضى الأمر أن تكون هي مركزَ الاهتمام، ومِحْوَرَ العنايةِ في هذه المقالة التي انزلقنا فيها من العناية بالإبل، والارتفاق بها، والانتفاع من بَيْعِها إلى حُبّها، والحرص على امتلاكها، إلى درجة إيرادِ شأنها ضمن طقوس كَهْنوِتيَّةٍ كانت تُقامُ كُلّ شهرِ رجب من العام.









رد مع اقتباس