يمّمن الغدير القريب من الحيّ إمّا لغسل الثياب، وإمّا للسباحة والاستحمام.
وللغدران، بعد، أثناء ذلك، خاصّيّة تمثل في أنها مَظَنّةٌ للخِصْب والجمال، والحياة والعمران. فالأمطار قد توجد اليوم، ولكنها قد لا توجد من بعد ذلك إلاّ بعد أسابيع، وربما بعد شهور؛ فتجفّ الأرض من جديد، ويذبل النبات، ويستحيل كلّ أخضر إلى شبه أسود، وتحزن الطبيعة بعد مرح وازدهاء. على حين أنّ الغدران مَظَنَّةٌ لأَنْ يَمْكُثََ ماؤُها، بحكم طبيعتها ووظيفتها أيضاً، شهوراً طِوالا فتتشكّل الحياة الوديعة الخصيبة من حولها ضفافها، وترتع الحيوانات وترتوي منها، وتزقزق الأطيار، وتخضرّ الأرض بجوارها إلى حدّ الازدهاء.
ونودّ أن نتوقّف لدى غدير دارة جلجل، تارةً أخرى. فقد تفرّد، فيما نعلم، برواية أسطورته الجميلة جدّ الفرزدق(20). وقد ظلّ تفسير دارة جلجل في قول امرئ القيس غيرَ متداوَلٍ بين الناس، في حدود ما انتهى إليه علمنا على الأقلّ، إلى نهاية القرن الأوّل الهجري حين حكى الفرزدق لفتيات البصرة، العاريات أيضاً، حكايتَها... ونلاحظ أنّ الفرزدق وقع له ما وقع للشاعر الآخر -امرئ القيس- قبل ذلك بقرنين على الأقل حيث يتكرر مشهد عرى النساء وهنّ يغتسلن في غدير بقرب البصرة، وأنّ الفرزدق وحده هو الذي اهتدى السبيل، أو ضلّ تلك السبيلَ؛ فوقع على أولئك النساء وهنّ يَستَحْمِمْنَ في ماء ذلك الغدير... وإنه حين استحى وعاد أدراجه يريد الابتعاد عنهن، هنّ اللواتي رَغِبْنَ إليه في أن يحدّثهنّ بحديث دارة جلجل... وإذا صحّت هذه الحكاية الجميلة، المتعلّقة، هذه المرة، بالشاعر الفرزدق، لا بالشاعر امرئ القيس، وبنسوة من البصرة لا بنسوة من نجد؛ فإنّ حكاية دارة جلجل لم تَكُ مشهورةً بين عامّة الناس في البصرة التي كانت عاصمة إشْعاع ثقافيّ وأدبيّ ونحويّ لدى نهاية القرن الأول للهجرة، وإلاّ لافْتَرَضْنا أنه يكون في أولئك النساء المستحمّات في الغدير مَن تعرف شيئاً عن حكاية غدير دارة جلجل؛ إذا نفترض أنه كان في أولئك النساء-نساء البصرة- مَن تروى شيئاً من شعر امرئ القيس الغزليّ... ومن العجيب، في كلّ الأطوار الممكنة والمستحيلة معاً، أنْ لا تُرْوَى هذه الحكاية الجميلة المتعلقة بغدير دارة جلجل عن خلف الأحمر، وخصوصاً عن حمّاد الراوية الذي كان هو الذي روى نصوص المعلّقات كما بلغتنا... (21).
وعلى ما في حكاية دارة جلجل من جمال سينمائيّ، وإثارة، ومغامرة، وعُرْي، وإباحيّة؛ وكلّ ما يمنعه المجتمع المحافظ عن الناس... فإنّ الذي يعنينا فيها خصوصاً مائيَّتُها(22).
فالأولى: إن ساحة العذارى -مع عنيزة التي لا يعرف التاريخ- بواقعيّته وأسطوريّته معاً- إلاّ اسمها(23)- في هذا الغدير- لم تحدث لأوّل مرة في التاريخ، ولكننا نفترض أنهنّ كنّ ييمّمنه كلّما كنّ يُرِدْن النزهة والمتاع ببرودة الماء وزرقته وجماله. ومن الواضح أنّ امرأ القيس لم تسنح له تلك الفرصة مصادفة، ولكننا نظنّ أنّ ذلك كان دأباً لديه ولديهنّ جميعاً، مألوفاً؛ فربما كنّ يقصدن الغدير في يوم معيّن، طوال موسم معيّن. من أجل ذلك استطاع أن يتسقط أخبار النساء، نساء الحيّ، ويقص آثارهنّ إلى أن وقع له معهنّ ما وقع، فيما يزعم جدّ الفرزدق الذي يبدو أنه حين حكى حكاية دارة جلجل لحفيده(وقد ذكر الفرزدق أنه كان في سنّ الصبا حين حكاها له إذ يقول: "وأنا يومئذ غلام حافظ"(24) إنما كان يرمي بها إلى ما يرمي الأجداد حين يحكون حكايات لأحفادهم الصغار: التسلية والمتعة، قبل الواقع والتاريخ...
والثانية: إنّ منظر الماء في الغدير، ومنظر العذارى عاريات في هذا الغدير، ومنظر ما يَحْدَوْدِقُ بِجَلْهَتَيْ هذا الغدير: كُلُّها يُحِيلُ على المشاهد البديعة الحسنة؛ فبمقدار ما هي مثيرة، نلفيها، في نفسها، عفويّة بريئة. فكأنّها تمثّل سلوك الطبيعة الأولى، وتجليّات الجمال الغَجَريّ في توحّشه وعذريتّه وحصانته من الاستعمال، ومنعته من الابتذال. فلم يك لأولاءِ النساء، فيما نفترض، أكثر من فلقة واحدة، كنّ يرتدينها لتستر أجسامهنّ، وربما عوراتهنّ فحسب، فمَنْ يدري...؟
ففي مشهد هؤلاء السابحات، في هذا الغدير المغمور بالماء، تكمن العادة في ممارستهنّ السباحةَ عارياتٍ فيه، وَتَمْثُلُ الحضارةُ في حيث إنَّ فِعلَ السِباحةِ يدلّ على الحدّ الأدنى من التمثّل العالي للحياة، والتذوّق المرهف للجمال، والتمتّع الواعي بالطبيعة. كما يكشف عن أنّ النساء العربيّات، على عهد الجاهليّة، كنّ يتنقّلن في الحيّ، أو بين الأحياء، أسراباً أسراباً؛ وكنّ في الغالب يمشين في موكب سيّدة ماجدة، وعقيلة موسِرة(وقد تبلورت هذه العادة الحضارية على عهد الدولة العباسيّة فكانت الخيزران والعبّاسة وزبيدة وغيرهنّ يمشين في عشرات من الجواري...). ويبدو أنّ هذه الماجدة الموسرة هنا كانت عنيزة. فمن أجلها إذن وقع تنقّل العذارى من الحيّ إلى الغدير ابتغاء السبْح والنزهة؛ ومن أجلها، أيضاً، كان امرؤ القيس يقصّ أثار النساء، ويتجسس على حركاتهنّ ومتّجهاتهنّ...
والثالثة: لقد نشأ عن هذه الحادثة-التي نميل إلى أسطوريّتها- شأن آخر لم نكن لنعرفه لولاها: فقد أفضى استيلاء الفتى على ملابس العذارى، وتردّدهنّ تردّداً طويلاً قبل الخروج إلى ملابسهنّ من الغدير وهنّ عاريات، إلى تدبير حَدَثٍ آخر يبدو متكلَّفاً ملفقّاً، ومتدبّراً مقحماً؛ وهو دعوةُ العذارى الفتى الشاعر إلى أن يستضيفهنّ؛ فاستجاب لرغبتهنّ، واقترح عليهن نحر ناقته لهنّ...
وهنا يطفر عنصر المائدة، وهي مسألة تحلو مدارستُها تحت زاوية الأنتروبولوجيا: كيفيّة النحر، والسلخ، وجمع الحطب، وإيقاد النار، وَخضْئِها وتأجيجها، ثم وضع اللحم عليها لينضج بفعل الشَيّ؛ ثم تناول الطعام على ضفاف ذلك الغدير مع العذارى... إنّ هذا المنظر يجمع كل معاني الجمال في أرقّ معانيه، وأروع تجليّاته، وأبدع مشاهداته... فالحيز يستحيل هنا إلى فضاء عبقريّ كأنّه سرّ الحياة ومعناها الأول...
ولمّا كان الحدث هنا، غير تاريخيّ، ولكنه تاريخانيّ؛ ولمّا كان، إذن، سينمائيّاً على الطريقة الهوليوديّة؛ فقد قبلت عنيزة وصُوَيْحِبَاتُها دعوةَ الشاعر المغامر... فنحر الفتى لهنّ مطيّته، وظلوا يشتوون لحمها، ويشربون من بعض خمر كانت في بعض رحله.
ويتسرّب الشكّ إلى تاريخيّة هذه الحادثة، لبعض هذه الأسباب:
أوّلها : إنّ فيها تناقضاً مريعاً، وأموراً لا تتفق مع طبيعة الأشياء، ولا مع تقاليد المجتمع العربي الذي يقوم على الغيرة الشديدة على المرأة...
وثانيها : إنّ الأسطورة، أو ما نراه نحن كذلك، تذكر لدى طفوح حادثة نحر الناقة: عبيداً لم يذكروا من قبل. فهل كان يمكن لفتىً مغامر يتتبّع فتيات في ضاحية من الحيّ أن يصطحب معه عبيداً وخدما؟
وثالثها : يدلّ نحر الناقة على أنّ امرأ القيس لم يكن يتنزّه، ولا يغازل، ولا يتمتّع من لهو؛ ولكنه كان أزمع على سفر طويل، وتَظعان بعيد. وإلاّ فمالَه لم يّتّخذ ركوبته فرساً، واتّخذها ناقة؛ وهي للفارس ليست الرَّكوبَةَ المثاليّة، ولا الركوبة الشديدةَ السرعةِ التي يحرص عليها الظاعن في تَظْعَانَاتِه القصيرة.. كان يجدر بالشاعر الأمير أن يتنقّل على فرسه لا على مطيّته، لأنّ سفره كان للنزهة، ولأنّ الحكاية الأسطوريّة، تزعم أنه كان معه عبيد... ألم يكن من الأولى أن يمتطي هو حصانه، ويترك بعض الجنائب يقودها العبيد لبعض خدماته في الطريق؟...
ورابعها : إنّ هؤلاء النساء حين كنّ أزمعن على الذهاب إلى الغدير(وكان يوماً معلوماً كما يفهم ذلك من نصّ الحكاية نفسها: "فلم يصل إليها(أي لم يصل امرؤ القيس إلى ابنة عمه فاطمة) حتى كان يوم الغدير") (25): ألم يكن من الأولى لهنّ أن يصطحبن معهنّ طعاماً ما، يلي بمتطلّبات النزهة؟ فما بال نحر الناقة، إذن؟ إلاّّ أن تكون تكملة لما كان معهنّ، وإضافة إلى ما كان لديهنّ، فنعم. ولكن، لا نَعَمْ! فقد ثَرِبَتِ العذارى امرأَ القيس فاصطنعن عبارة: "فضَحْتَنا، وحبَسْتنا، وأجعتنا" (26). والشاهد لدينا في هذا هو قولهنّ "وأَجعْتَنا"، وهي عبارة تدلّ على أنهن يَمَّمْنَ الغديرَ ولا طعام معهنّ.
وآخرها : تصور هذه الحكاية هؤلاء العذارى، ومعهنّ هذا الرجل، وكأنهم كانوا يعيشون في جزيرة نائية عن العالم، أو في غابة متوحّشة، أو في فلاةٍ قّفْرٍ: لا نظام، ولا قِيَمَ، ولا شرف، ولا غيرة، ولا حِمِيَّة جاهليّة... إنها حكاية ساذجة، على جمالها، تصور المجتمع العربي، على عهد الجاهليّة، مجتمعاً متحّللاً، إباحيّاً، من رغب إلى امرأة وَصَلَها؛ كما وقع ذلك لامرئ القيس بالأمر المقدَّر، والسلوك المدبّر؛ فظلّ بياضَ نهاره مع هؤلاء النساء، واستولى على ملابسهنّ كيما يَرَاهُن َ كلّهن عارياتٍ: ثمّ لم يحدث من بعد ذلك شيء... بل إنّ أولئك الحسان هن اللواتي دعونه إلى أن يُطعمهنّ من لحم ناقته؛ بحيث لم يغضبن جَرَّاءَ اغتصابِهِنَّ(إجبارهنّ على أن يراهنّ وهُنَّ عَوارٍ).
كما لم تغضب ابنة عمّه عنيزة التي أذلَّها وأهانها، وأقسرها على ما لم تك إليه راغبة أمام صويحباتها، وربما أمام العبيد أيضاً(مادام ذِكْرُ العبيد ورد في نصّ هذه الحكاية): فأين الشهامة العربية التي تتحلّى بها سِيَرُ الرجال، والتي تكتظّ بها نصوص الشعر؟ وأين الشرف العربيُّ الذي تحفل به مواقف الأبطال، في المجتمع الجاهليّ؟ أَلَمْ تَتفانَ بكر وتغلب، ابنا وائل، وهما أختان، من أجل جرح ضرْع ناقة كانت للبسوس خالة جساس بن مرة الشيبانيّ: على مدى أربعين سنة؟ وإذا اندلعت حرب طاحنة من أجل شرف ناقة امرأة كان جسّاس بن مرّة أجارها، في رواية، وأنها خالته في رواية أخرى، ومن أجل شرف طائر كان أجاره كليب وائل(27) أعزّ العرب: فما القول في شرف امرأة سيدة، بل في شرف سيدات عربيّات كنّ يتنزهن فوقع اغتصابهنّ...؟
وكانوا يأنفون أشدّ الأنفة أن يزوّجوا بناتهم لأيّ رجل شاع بينهم أنه وقع في غرام من يريد التزوج منها: خشية العار، وحرصاً على السِّمْع، ورغبة في حسن الصِّيتِ.
أم لم يقتل رباح بن الأسل الغَنَويُّ شأس بن زهير لمجرّد أن حليلته نظرت إليه(ونلاحظ أنّ المرأة هي التي حانت منها التفاتة فشاهدت الرجل وهو يغتسل في عين، وبدون قصدٍ منها هي... لا هو الذي كان ينظر إليها؛ ومع ذلك لم يرحمْه بعلُها، فرماه، وهو غافل في العين، بسهم كان فيه حتفه...) (28)؟ وعلى أننا لا نريد استيعاب هذه المسألة، ولا استقراء البحث فيها، هنا، لأنها معروفة لدى الناس... فكيف إذن يجوز أن نصدّق أنّ دارة جلجل حادثة تاريخية، وأنّ حكاية تعرية العذارى، ومعاقرتهنّ الخمر، ومغازلتهنّ في وضح النهار -وقد كنّ عقيلات كريمات- ممّا يجوز أن يحدث في حيٍّ من أحياء العرب؟
إنّ إيمائَة امرئِ القيس إلى يوم دارة جلجل، ربما كان مجرّد نظرة مختلسة، أو حديث عابر، أو إشارة بعين... فجاء إليها حُكّاةُ الأخبار، ورُواةُ الأساطير، والمُلْتَذُّونَ بما لم يكن، والمتعلّقون بما لم يوجد؛ فأضافوا إليها ما ليس فيها، وأَدخلوا عليها هذه المسحة السينمائيّة، باللغة العصريّة؛ كيما تكونَ مثيرةًً للعجب، وحاملة على الانتباه، وباعثة على التلذّذ والتمتّع... وإلاّ فما لهم سكتوا عمّا وقع لامرئ القيس مع أمّ الحارث الكلبيّة، وأمّ الرباب، وَسَوَائِهَما... إن لم يكن ما ذكره في شِعْرِه مجرّد تَبَاهٍ وادِّعاء، كما كان يفعل بعده عمر بن أبي ربيعة؟ فقد عهدنا الشعراءَ يتزيّدون ويتنفَّجون، وخصوصاً في تصوير صِلاتَهم بالنساء، وخصوصاً امرأ القيس الذي كان يتهم بأَنَّهُ مُفَرَّكُ يَزْهَدُ فيه النساء(29)، ويرغب عنه الحسان، على ما كان موصوفاً به من الوسامة والجمال....
إنّ ما تشتمل عليه الحكاية التي كَلِفَتْ كلفاً شديداً بتجميل الحيز، لم يكن له صلةٌ، في الغالب، حقيقةٌ بالتاريخيّة، ولكنّ صلته بالتاريخانيّة وثيقة. إنّ تلك الحكاية الجميلة تصوّر المجتمع العربيّ قبل الإسلام: كأنّه مجتمع يعيش في غابة، بحيث لا يوجد فرق بين حيوان وإنسان، وبين إِنْسٍ وَجَان... ولم يكن فيه محرّمات محرّمة، ولا ممنوعات ممنوعة: فكل، من رغب إلى شيء ناله، ومن تطلّع إلى رغبة اشْتارَها؛ كما جاء ذلك امرؤ القيس الذي عاد إلى الحيّ ممتطِياً غارِبَ بعير ابنةِ عمه فاطمة(بعد أن كان نحر مطيّته للعذارى، واشتواها لهنّ)، وهو يقبّلها، وهو يعانقها، وهو يغازلها، أمام القبيلة كلها(أمام صويحباتها- وأمام إِمائها، وأمام العبيد....): وَلاَ دَيَّارَ يُنْكِرُ عليه فِعْلَتَه، ولا أحَدَ يَنْعَى عليه سلوكَه... بل آب الشاعر المغامِرُ، العاشق الوامق، أَوْبَة الأبطال إلى الحيّ والقبيلةُ كلها تنظر ولا تعجب، تَرَى ولا تنكر!...
لكنّ الذي يعنينا في رسم هذا الحيز الجميل، ليس الجانب التاريخيّ، بالذات، ولكن الجانب التاريخانيَّ الميثولوجيّ خصوصاً... إنّ الذي أردنا التوقّف لديه، من حادثة دارة جلجل، ليس المنحى العقليّ، ولا الواقعيّ، ولا التاريخيّ، ولكنّ الأسطوري، أو التاريخانيّ؛ نكرر ذلك.
إنّ الذي يتأمّل أمر هذه الحكاية يُحِسُّ إحساساً شديداً بأنّ حاكيها كأنه كان يريد أن يشبع رغبة عارمة كامنة: يشبعها من اللذة الجسدية، ومن ملء العين بِالأَجْسَادِ النسويّة العارية، تحت الطبيعة العارية، وتحت وهج أشعّة الشمس المشرقة، وعلى ضفاف غدير أزرق الماء...
إنه لا يمكن أن يوجد مشهد أجمل من هذا على الأرض... ولا يمكن أن نلتمس حيزاً أروع من هذا الحيز الشعريّ الجميل الذي لا ينبغي أن نكون سذَّجاً فنلتمس البحث في صدقه أو عدم صدقه، أو نسعى إلى مناقشة تاريخيّته من عدم تاريخيته... لأنه لم يكن حيزاً من أجل تصوير واقع التاريخ، ولا وجه الجغرافيا، ولا سيرة الواقع المَعِيشِ في تلك الحقبة من الدهر؛ ولكنه حيز شعريّ خالص؛ كانت الغاية منه إمتاعَ المتلقَّي الشغوف بمثل هذه الحكايات، حكايات العشق والعري، في كل زمان ومكان...
فذلك، إذن، ذلك.
وهناك مواقع أُخراةٌ للماء، وذِكْرٌ لضُروبٍ ممّا يسيل كماء المطر، وماء العين والبئر، وماء السيل، وماء العَرَق، وماء الدمع، في معلّقة امرئ القيس... لم نرد التوقف لديها لسببين اثنين:
أولهما: إنّنا عجلون إلى تحليل المطر والماء في بعض المعلّقات الأخراة. ولا ينبغي أن يجاوز الحديث عن امرئ القيس طورَه، من حيث لا يبلغ عن سِوَائِهِ شأْوَه.
وآخرهما: وهو نتيجة للأوّل، إنّا لو جئنا نحلّل كلّ أحياز الماء بما فيها من جمال، لكان هذا المقال استحال إلى كتاب كامل؛ إذ سينشأ عن ذلك السعي أننا نتوقف لدى جمالية الحيز المائيّ، ولدى أحياز أخراة ذات صلة بهما... وهي سيرة فعلاً تذهب بنا، في هذا السعي، إلى بعيد...
*****
ثانياً: طقوس الماء في معلقة لبيد
لم تخْلُ معلّقة واحدة، من بواقي المعلّقات، من ذكر المياه، أو الأمطار، أو الغدران، أو العيون، أو ما في حكمها، أو ما يكون ملازماً لها، أو ما يكون ذا صلة بها.
وربما يكون لبيد أكثر المعلّقاتيّين، مع امرئ القيس، ذِكْراً للسوائل والسيول، والأمطار والغدران؛ إذ ورد في معلقته ذِكْرٌ لمدافع الرَّيَّان، وَوَدْق الرَّواعد، والجَوْد(بفتح الجيم)، والرِهام، والغَاد المُدْجن، والسيول، والسَرِيّ، والواكف من الدِّيمَة، والتَّسجام، والغَمام، والنِهاء(مفرده: َنِهْي(بفتح النون وكسرها): وهو الغدير)، وَأَسْبل، والخلج...
فكأنّ لبيد بن أبي ربيعة كان يريد أن يسقي شعرَه بهذه السواقي، كما يحتفظ بالماء، ويترقرق بالجَوْد، ويطفَح بالغمَام... وهي سيرة لعلّ الذي حمله عليها ما تتطلّبه الحياة من الماء الذي هو أصل الحياة. إذْ بدونه لا يكون ازدهار، ولا خصب، ولا رخاء، ولا جمال...
ونودّ أن نتوقّف لدى بعض العناصر الدالّة على الماء لدى لبيد، ومنها:
*عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ.
إن النِّهاء، في اللغة العربيّة القديمة، يعني الغُدْران. وإذا كان امرؤ القيس أومأَ إِلى ما كان له في غدير دارة جلجل من مغامرات مع النساء، وإن لم يصرّح بذلك تصريحاً، وإن لم يصفه وصفاً... فعزّ على الرواة ذلك وهواة التزيّد في الأخبار فشحنوه بأسطورة النساء العاريات، وما نشأ عن ذلك من مائدة مثلت في نحر المطيّة المرقسيّة للعذارى، ثم العمْد إلى شي لَحْمِها لَهُنَّ، وسَقْيهنّ خمراً كانت معه... فإنّ لبيداً لا يربط الغدران بالنساء، ولكنّه يربطها بالحيوان. فكأنّ الحيز الجميل لديه منصرف إلى الحيوان، قبل الإنسان..
إنه يصف، في هذا المصراع الشعريّ، بقرة وحشيّة فقدت جُؤْذَرَها بعد أن أصابه الصيّادون بسهامهم فقتلوه من حيث لم تستطع، هي، حِمايَتَه، ولا إنقاذَه من مخالب الإنسان القَرِمِ إلى اللحم، والذي لا يشبع إلاّ إذا التهم لُحْمان الحيوانات: