الفرع الثالث
آثـــــار أسباب الإباحة
يمكن تبين آثار أسباب الإباحة من التمييز الذي قمنا به بينها وبين موانع المسؤولية وموانع العقاب، إذ في حال ما توفر سبب من أسباب الإباحة في الفعل، فإنه تترتب عليه العديد من الآثار القانونية التي تفاديا للتكرار نوجزها في النقاط التالية:
1- توفر سبب من أسباب الإباحة، يجعل من الفعل الذي يعد في الحالات العادية جريمة فعلا مباحا، أي الفعل الذي يشكل بحسب الأصل جريمة إذا ما اقترف في الظروف العادية، إذا ما اقترن بسبب من أسباب الإباحة عد فعلا مباحا، مما ينفي كل مسؤولية عنه ويحول دون توقيع أي جزاء على مقترفه. سواء تمثل في عقوبة أو تدبير أمن.
2- انتفاء المسؤولية الجنائية في حالة توفر سبب من أسباب الإباحة يقود أيضا إلى انتفاء المسؤولية المدنية، إذ لا يمكن للشخص أن يعوض عن فعل يسمح به القانون وقد يأمر به أحيانا. أو يرخص به في الكثير من الأحيان.
3- كقاعدة عامة، يستفيد من أسباب الإباحة كل من ساهم في الفعل المقترن به، باعتبار أسباب الإباحة تنصب على الفعل ذاته لا على الفاعلين. كونها أسباب موضوعية عينية لا ذاتية أو شخصية.
4- الجهل بأسباب الإباحة أو الغلط فيها لا يحول دون استفادة الشخص منها، كون أسباب الإباحة ظروف عينية موضوعية، في حين الجهل والغلط أسباب نفسية وشخصية، ولا يجوز إعمال هذا النوع في مجال ماديات الجريمة.

أسباب الإباحة في قانون العقوبات الجزائري
نصت المادة 39 من تقنين العقوبات الجزائري، على أنه:" لا جريمـة:
1- إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون،
2- إذا كان الفعل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو مال مملوك للشخص أو مملوك للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة الاعتداء."[10]
وبالتالي أسباب الإباحة وفقا لقانون العقوبات الجزائري، سببين، الأول وهو ما أمر أو أذن به القانون، وجرت العادة أن يقسم هذا السبب إلى قسمين، يتم تناول حالات إذن القانون منفصلة عن حالات أوامر القانون، والثاني الدفاع الشرعي أو المشروع، وهو ما نتناوله في المطالب الثلاثة التالية:
المطلب الأول
تنفيذ ما أمر به القانون كسبب من أسباب الإباحة
دراسة تنفيذ أوامر القانون كسبب من أسباب الإباحة، تقتضي منا دراسة ماهية هذا السبب في حد ذاته، من خلال تبيان المقصود والأساس والعلة من تقريره، وكذا تحديد أبعاده وذلك في فرع أول، لنتناول في الثاني، الشروط المتطلبة في أوامر القانون حتى تعد سببا من أسباب الإباحة.
الفرع الأول
معنى أوامر القانون التي تعد سببا من أسباب الإباحة
لا نقصد بأوامر القانون كأسباب للإباحة بأن مثل هذه الأوامر تشكل دوما جرائم غير أنها مباحة، بل نقصد تلك الحالات التي يرى فيها المشرع انه من الأجدر تعطيل مفعول النص الجنائي وإباحة الخروج عليه تحقيقا لمصلحة اجتماعية معينة، بالرغم من الفعل ينطوي على جريمة لو ارتكب في الظروف العادية بعيدا عن هذا الأمر[11]، لذا يأمر فيها القانون بإتيان بعض الأفعال، التي لولا هذا الأمر لعدت جرائم في الظروف العادية، كالأمر بالإدلاء بالشهادة أمام الجهات القضائية الجزائية وإباحة ما يترتب عن هذه الشهادة من إفشاء للأسرار، وإلزام الطبيب بإفشاء ما يعاني منه مرضاه من أمراض معدية، بالرغم من التزام الطبيب بالسر المهني، واحترام الحياة الخاصة لمرضاه، وتنفيذ عقوبة الإعدام من الموظف المكلف بذلك، وحبس وسجن الأشخاص تنفيذا للأحكام القانونية والقضائية، التي لولاها لعد الفعل جريمة حبس تعسفـــي ( المادة 291 وما بعدها).... ففي مثل هذه الحالات، لولا أمر القانون، لعدت الأفعال السابقة جرائم معاقب عليها، وتجد مثل هذه الأوامر القانونية سندها في تقدير المشرع بأن الأمر ينطوي على تحقيق مصلحة اجتماعية أجدر من المصلحة التي كانت محمية قانونا، مما ينفي عن الفعل صفته التجريمية، ويحول دون قيام أية مسؤولية من أي نوع كان.
وثارت مسألة البحث في معنى أوامر القانون، وما إن كان يقصد بها أوامر القانون الجنائي فقط أم غيره من القوانين الأخرى، واستقر الرأي على أن المقصود هو القانون بمعناه الواسع، بما فيه الأوامر الإدارية[12]، وهنا ثار تساؤلا آخر، يتمثل في مدى اعتبار الأوامر الإدارية التي يصدرها الرئيس لمرؤوسيه سبب من أسباب الإباحة في الحالات التي تكون فيها متسمة بعدم المشروعية، فهل في مثل هذه الحالات ينفذها المرؤوس وتعد سببا من أسباب الإباحة؟ أم يمتنع عن تنفيذها بحجة عدم مشروعيتها، وفي هذه الحالة يجوز أصلا للمرؤوس أن يفحص مشروعية الأوامر الصادرة له من رؤساءه؟، بصدد الإجابة عن التساؤلات السابقة، انقسم الفقه إلى ثلاثة اتجاهات، الأول يرى في الأوامر الإدارية غير المشروعة سببا من أسباب الإباحة، والثاني يرى العكس، واتجاه وسط راجح يرى وجوب التفرقة بين وضعين، وضع اللامشروعية الظاهرة واللامشروعية غير الظاهرة.
أولا: تنفيذ الأمر الإدارية غير المشروع سبب من أسباب الإباحة
وينطلق هذا الاتجاه من أن تنفيذ الأوامر الإدارية الصادرة من الرؤساء للمرؤوسين أمر واجب، وذلك بغض النظر عن مشروعيتها من عدمها، لأن خضوع المرؤوس لأوامر رؤساءه أمر واجب، ولا يملك أصلا حق مراقبة مشروعية الأوامر المعطاة له، ولا حق له في الامتناع عن تنفيذها وإلا قامت مسؤوليته التي إن لم تكن جزائية فهي إدارية أو تأديبية، لأن القول بغير ذلك يعطل سير المرافق العامة بانتظام واطراد، وبالتالي على المرؤوس متى أعطي أمرا إداريا من رئيسه أن ينفذه، حتى ولو كان غير مشروع، وأن هذا التنفيذ يعد سببا من أسباب الإباحة، ولا يجوز للشخص المنفذ عليه هذا الأمر أن يرده بالدفاع الشرعي.
ثانيا: تنفيذ الأوامر الإدارية غير المشروعة جريمة
على عكس أنصار الاتجاه السابق، يرى أنصار هذا الاتجاه أن تنفيذ المرؤوس للأوامر الإدارية غير المشروعة الصادرة إليه من رؤساءه يعد جريمة، وبالتالي يجوز للشخص المنفذ عليه هذا الأمر أن يرده عن طريق الدفاع الشرعي متى توفت شروطه. ونرى نحن أنه نفس موقف المشرع الجزائري من خلال ما يتبين من استقراء المواد من 107 لغاية 110 مكرر[13]. هناك قرار عن المحكمة العليا صادر في 07-06-1981 يقضي بأنه :" إن تنفيذ الموظف لأوامر غير قانونية واردة عن مسؤوليه لا تدخل في إطار الأعذار القانونية المنصوص عليها في المواد من 277 إلى 283 ق ع ج. وما دامت لا تدخل في نطاق الأعذار التي تعد أسباب شخصية خاصة، فهي لا تعد أيضا سبب من أسباب الإباحة.
ثالثا: مدى وضوح حالة عدم المشروعية من عدمها
الرأي الوسط والراجح بين الرأيين السابقين، هو الرأي الذي يفرق أنصاره بين حالتي وضوح عدم مشروعية الأمر الإداري الصادر للمرؤوس من عدمها، ففي الحالة التي تكون فيها ظاهرة يجب على المرؤوس الامتناع عن تنفيذ الأمر الإداري غير المشروع الصادر إليه، وإلا عد مرتكبا لجريمة يجوز ردها من قبل المنفذ عليه الأمر، على عكس الحالة التي لا تكون فيها عدم المشروعية ظاهرة، فهنا يكون تنفيذ المرؤوس للأمر الصادر إليه سببا من أسباب الإباحة التي لا يجوز مقاومتها من قبل المنفذ عليه الأمر.
الفرع الثاني
شروط أوامر القانون كسبب من أسباب الإباحة
بعيدا عن الجدل السابق، فإن الفقه أوجد بعض الشروط الواجب مراعاتها في تنفيذ أوامر القانون حتى تكون سببا من أسباب الإباحة، وهي:
1- أن يكون الأمر قد نص عليه القانون صراحة ودون لبس أو غموض، وأن يصدر في الحالات التي يجوز فيها إصدار مثل هذا الأمر، وبالشروط والقيود والحالات الواردة بالنص، مثل تفتيش المساكن.
2- أن يصدر الأمر من جهة مختصة بإصداره.
3- أن يصدر لشخص مختص بتنفيذ الأمر.
4- أن تكون هناك علاقة وظيفية بين الرئيس والمرؤوس.
5- أن يكون تنفيذ الأمر بحسن نية.
وعموما، يجب أن تكون الحالة التي أتي فيها الموظف العام العمل مطابقا من كل وجوهه للأوضاع التي تضمنها القانون، وأن يكون فيها العمل مقرر بموجب نص قانوني، أو أمر رئاسي من رئيس يوجب القانون طاعته، بشرط أن يكون القائم به مختصا بمباشرته، وأن تتحقق دواعي إتيان العمل، وان يباشر على النحو الذي رسمه القانون، غير أنه في أوامر الرؤساء، فيجب إثبات تلقيه الأمر من رئيسه وأن يكون هذا الأمر مستوفي لشروط صحته، سواء كانت شروط شكلية أو شروط موضوعية، فالشروط الشكلية أن يفرغ الأمر في الشكل الذي يوجب القانون إفراغه فيه، كما يجب أن يكون صادرا عن رئيس مختص لمأمور مختص أيضا، وهو ما يختلف باختلاف الحالات والأوضاع، وأن يكون الأمر مما يدخل في اختصاص الرئيس إصداره، حيث هناك أوامر مقصورة على نوع من الرؤساء الإداريين دون البعض الآخر، كما أن المنفذ يختلف باختلاف الحالات، فليست كل الأوامر مما يمكن لكل الموظفين تأديتها، فتنفيذ حكم الإعدام له المكلفين به، والتفتيش له أشخاصه، .. وإن كان القانون يشترط صدور الأمر كتابة فلا يجوز صدوره شفاهة. مع احترام الشروط الموضوعية، التي يقصد بها المقدمات التي يشترط فيها القانون اتخاذ الأمر، فتنفيذ حكم الإعدام يقتضي وجود حكم نهائي بات استنفذ كل طريق الطعن وإجراءات طلب العفو، والعديد من الإجراءات الأخرى، حتى يمكن تنفيذ حكم الإعدام. وباستكمال الأمر لشروطه الشكلية والموضوعية يكون على المرؤوس واجب تنفيذه، حتى ولو تخلفت بعض شروطه إذا كان القانون يفرض على المرؤوس واجب الطاعة دون إمكانية مراقبة مشروعية الأمر، مثلما هو الشأن بالنسبة للأوامر العسكرية، وهنا يرى البعض أن المرؤوس يتحلل فقط من واجب التحري على الشروط الموضوعية، لكن الشروط الشكلية يجب عليه التأكد من توفرها قبل التنفيذ وإلا سئل عن الفعل وعوقب إن كان يشكل جريمة، خاصة ما يتعلق بأنه من الأوامر التي تدخل ضمن اختصاصه وصادر ممن يملك سلطة أمره، وانه مستوفي للشكليات التي حددها القانون، بل يرى البعض أن المرؤوس يجب عليه الامتناع عن تنفيذ أوامر الرئيس إذا كانت الشروط الموضوعية ظاهرة البطلان، حتى ولو كانت الشروط الشكلية متوفرة، مثل الحالة التي يطلب فيها الرئيس العسكري من الجندي إطلاق الناري على جار تشاجر معه أو إلقاء القبض على أحد الناس وقتله، أما في حالة عدم مشروعية العمل، وهو كأن يكون خارج عن اختصاص الموظف العام، أو قام به تنفيذا لأمر غير واجب الطاعة، ففي هذه الحالات يسأل الموظف عن فعله ويعاقب، غير أن بعض القوانين، ومنها القانون المصري في مثل هذه الحالة يتحرى عن " حسن نية الموظف" في المادة 63 من تقنين العقوبات، وحسن النية في هذه الحالة مسألة موضوعية تستقل محكمة الموضوع بتقديرها، مستعينة في ذلك بكل الطرق الممكنة قانونا، بشرط أن يبذل الموظف جهدا في التحري من مشروعية الأمر وأن يكون اعتقاده بالمشروعية مبنيا على أسباب معقولة، أخذا بعين الاعتبار كل الملابسات والظروف المحيطة، ووضع الموظف وقدراته، لذا فالمسألة تختلف باختلاف الأحوال والأوضاع، والمعيار هو معيار الرجل العادي في وظيفة الموظف وظروفه والمؤثرات التي ازدحمت عليه. وتوفر حسن النية لدى الموظف ينفي قصده الجنائي، غير أن يعاقب إن كان الفعل يمكنه القيام جريمة غير عمدية.
وعلى العموم بخصوص تنفيذ الأوامر غير المشروعة، فهنا يجد الموظف نفسه أمام واجبين متناقضين، الأول هو إطاعة أوامر الرئيس، والواجب الثاني هو إطاعة القانون، وذلك بعدم تنفيذ الأمر المخالف للقانون، أي تنازع بين القانون الإداري وقانون العقوبات، وهنا يجب احترام قانون العقوبات، وإلا قامت مسؤولية المرؤوس إن لم يثبت أنه اكره معنويا من قبل رئيسه، أو اعتقد خطئا بمشروعية الأمر الصادر إليه، وهنا ينتفي لديه القصد الجنائي لكن هنا يمكن مسائلته عن جريمة خطئية، إن كانت الجريمة تقبل القيام عن طريق الخطأ، وأن يتحرى عن المشروعية. وهو نفس الوضع بالنسبة للقانون الفرنسي الجديد في نص المادة 122-4 ، التي يفهم منها مسائلة المرؤوس في حال ارتكاب فعل غير مشروع.