قبل أن اكمل الحديث عن موضوع كاشغري و النقاط الاخرى , اود ان ان أؤكد أن ما اطرحه هنا هو قناعات شخصية . لكن القناعات الشخصية قد تتطور و تتغير فأفكاري اليوم ليست هي افكاري بالامس القريب . و الشخص الذي لا تتغير تصوراته و أفكاره هو شخص لا يملك تصورات و افكارا اصلا , فقد يرى الشخص رأيا ثم تبدو له امور تجعله يعيد النظر في رأيه الاول و كثيرا ما حدث لي هذا . لهذا حتى و إن كنا في عالم إفتراضي إلا إنه بإمكانك الإطمئنان أن ما اكتبه هنا هو تعبير صادق و صريح عن ما اعتقده لحظة كتابته حتى و إن كان المقام لا يسمح أحيانا بالتصريح عن كل المكنونات ..
بشأن الخطأ في فهم الآخرين , بين ما يقولونه و ما يريدون قوله فعلا و ما نفهمه أو ما نعتقد أننا فهمناه و غير ذلك من العوامل التي قد تؤدي لسوء الفهم أرى ان التحفظ عن سوء الظن أسلم و إلتماس الاعذار للناس أفضل و في حالة تعارض قناعاتنا فلندع غيرنا أن يكونوا احرارا في أفكارهم كما نريد ان نكون احرارا في فكرنا . لذا من اشد ما يزعجني في المنتدى او خارجه ليس أن اختلف مع شخص بل أن يكون إختلافنا سببا للتضييق على الرأي المخالف و التشهير به و الكذب و الإفتراء عليه و الطعن في نواياه , بل السعي لإستئصاله بمنطق القوة بدل قوة المنطق . و أعتقد أننا نتفق ان لدينا مشكلة كبيرة في تقبل الحوار في مجتمعاتنا , فكل طرف لا يستمع إلا لنفسه و يبحث في كلام الطرف الآخر عن ما يدينه بدل التنقيب عن ما ينفعه . لذا فالحوار عندنا هو مناظرة و مصارعة و إتهام و تكفير و تفسيق و تضليل و إقصاء و معاداة . و إذا كان الموقف النفسي من ابسط أشكال الإختلاف بمثل هذه الحدية التي نجدها على المنتديات و المواقع فمن السهل فهم حجم العنف المنتشر بين المسلمين و التساهل الكبير في إراقة الدماء باسم الدين . و هؤلاء الذين ينشرون ثقافة اللاحوار و يرفضون السماع للفكر المخالف و التحاور معه بهدوء هم في الواقع لا ينتصرون للدين بل ينتصرون لانفسهم و اهوائهم . و كما سبق أن ذكرت هناك فرق بين العقيدة كمسميات و الإيمان كسلوك . فالتقرب لله تعالى يكون بالأفعال و السلوكات "العمل الصالح" و ليس بإعلان مرسوم الإعتقاد لفظا . و دعيني هنا استخدم ما يسميه الفيلسوف "طه عبد الرحمن" آفتي "التقليد" و "التظاهر" كأحد الآفات الخلقية للمارسة الفقهية الشكلية للدين . التي يقع فيها كثير من هؤلاء . فمشكلة المتعصبين أنهم يتمسكون بمظاهر العبادة لا غاياتها و بالشكل دون الجوهر , لذا تراهم يقيمون الدنيا على بعض التوافه الشكلية و المظهرية و يسكتون على أشكال أسوء من الفساد السياسي و الخلقي . و هذا ما يجعلهم يقعون في آفة "التقرب للناس" بدل "التقرب لله" أو الخلط بين الامرين . و التقرب للناس يجعل الإنسان إنتقائيا في ردود افعاله فلا يسلط غضبه إلا على من لا سلطان و قوة له . في حين نراه يسكت على تجاوزات صاحب السلطة و القوة , بل نجده حليفا له يبرر افعاله أو يمنع الناس على إنكار المنكر عليه و لو باللسان . و لست هنا اعمم رأيي على الجميع , لكنه توصيف خاص لما اراه تدينا و غيرة زائفة لدى البعض ممن ساهموا في الحملة الشرسة على حمزة كاشغري و عائلته . الذين يتقربون لله بأذية الناس و ترويعهم و التحريض على قتلهم و لعنهم بدل مراجعتهم بلطف و دعوتهم بالحكمة و الموعظة الحسنة . و التظاهر يوقع صاحبه في "التكلف" في غضبه و غيرته و مظهره و عباداته و سلوكاته , حتى يحرم زينة الله التي أخرج لعباده و يحول سلوك التدين مدعاة للكآبة و الضيق و الإنغلاق و التقوقع و إستعداء الغير , فلا يجوز زرع الأشجار في بلاد الكفار و لا يجوز قراءة كتبهم التي قد تؤدي للإنحراف الفكري بل يجب بغضهم و معاداتهم و إظهار ذلك لهم و غير ذلك من مظاهر التكلف , كما ان التظاهر يوقع صاحبه في "التزلف" لنيل الحضوة و القبول لدى الناس عموما و لدى صاحب السلطان خصوصا . و لهذا يزايدون على غيرهم في اذيتهم و صراخهم و ضجيجهم و تشددهم . أما الآفة الاخرى للممارسة الشكلية للدين فهي آفة التقليد فيعطل أحدهم عقله و يسكت يكتم صوت الضمير و الرحمة في قلبه فقط تقليدا و تعبدا بالتقليد . لهذا ليس غريبا على الإطلاق ما وصلت إليه الامة من ضعف و تدهور , ليس لاننا إبتعدنا على الدين كما يريد إفهامنا الكثير من المشايخ و لكن بسبب فهمنا للدين على طريقتهم و تقليدنا . نحن امة تعبد المشايخ و الهيئات و تتخذهم اربابا من دون الله رغم تحذير القرآن من ذلك . و لولا طائفة من العلماء و المفكرين الصادقين و لولا وعد الرحمن بحفظ كتابه و حفظ هذا الدين لأنمحى هذا الدين من الوجود اصلا بسبب هذه النزعات التي شتتت الامة و فرقتها و جعلتها احزابا و شيعا و فرقا كل فريق بما لديهم فرحون , يكفرون بعضهم بعضا . و القرآن وصف لنا الآفات وصفا دقيقا . و اكاد أجزم انه لا توجد فتنة على كاشغري و كثير امثاله من الشباب أكثر من هؤلاء الذين إحتكروا الدين و أفسدوا على الناس دينهم باسم الدين ... و هذا حمزة كاشغري يخاطبهم أن لا يعينوا الشيطان عليه إلا انهم يصرون على إعانة الشيطان عليه و على الكثير من الشباب الذين كادت تفيض كؤوسهم بسبب مناخ التشدد و التعصب المذهبي الذي سيدفع الامة إلى جحيم الصراعات المذهبية و الحروب الدينية كالتي شهدتها أوربا في القرنين ال16 و ال17 ... نحن اليوم كمسلمين بحاجة للتصالح و أن ندفع بالتي هي احسن بدل تكريس الإحتقان . لكن يبدو أنه سيكون مقدرا على الإنسان ان يتعلم من اخطاءه بعد ان يدفع اثمانا باهظة لأنه لا يريد التعلم من اخطاء الآخرين . فهذه ألمانيا فقدت قرابة ربع سكانها في حرب الثلاثين عاما المذهبية بين البروتستانت و الكاثوليك , لكنها تعلمت بعدها معنى الحرية الدينية , و هذه أوروبا دخلت حربا عالميتين بسبب النزعات القومية فقدت فيها قرابة الخمسين مليون روحا نتيجة هذا الأستقطاب , لتتعلم من ذلك قيمة السلم و لتبني على انقاض الحرب المدمرة إتحادها . و أذا كنا لا نريد التعلم من تجارب الغير فلنا في تاريخ الإسلام السياسي عشرات النماذج عن مساوئ التعصب و الإستقطاب المذهبي و تسييس الدين و التشدد و الغلو فيه مع كتم تعدد الاصوات و الافكار في الامة .
لهذا فقضية حمزة كاشغري ليست قضية معزولة , فهي قضية تمثل إمتحانا حقيقيا لنا . هل ننتصر لقيم السماحة و الرحمة و اللطف النبوية أم ننتصر لانفسنا المتعصبة باسم الإنتصار للنبي . هل نعترف بأهمية الحرية و الحوار كطريقة حضارية في حل المشكلات أن نكرس كما ذكرت سابقا منطق القوة على حساب قوة المنطق . ما الذي سنستفيده من قتل هذا الشاب غير اننا سنخلق محله ألف كاشغري آخر ؟؟ و ما إقتبستِهِ من كلام عن ضرورة التعامل بحكمة مع هذه المجموعات الشبابية و حسن الظن بهم و محاورتهم بهدوء هو الحل . لكن فاقد الشيء لا يعطيه و لا يمكن ان نتوقع من الخطاب الديني المهيمن في السعودية من ان يصلح نفسه بتلك البساطة خاصة بسبب إرتباطه العضوي مع السلطة هناك . و مع ذلك فهناك العديد من الاقلام و الوجوه و المفكرين و الشيوخ البارزين في السعودية ممن يعملون على مواجهة هذا التشدد و الغلو المذهبي . و هذا الفيديو كان مما صدر في بداية الازمة و فيه كلام نفيس عن سبب هذه الظاهرة و اهمية الحرية و تخلف الخطاب الديني "السلفي" العاجز عن محاورة تلك الأرواح الحائرة و المستغيثة .
https://www.safeshare.tv/w/xKwxBUrfGq
لهذا كله تجدينني أكثر إحتراما للشمري و عدنان إبراهيم و غيرهم حتى و إن كنت اختلف معهم في بعض الامور لأنهم يمتلكون شجاعة التصريح بما في نفوسهم و احسبهم أبعد عن التكلف و التزلف و اقرب للهدوء و الرصانة . لان المؤمن لا يهمه إرضاء الناس على حساب عقله و ضميره ... و لهذا احترم اكثر من يغرس شجرة أو يميط الاذى عن الطريق أو يتبرع لمدرسة أو لموقع ويكيبيديا و من يتنزه عن رمي الاوساخ و يتقن عمله و يحسن معاملة زبائنه . احترم هؤلاء اكثر ممن يثيرون الفوضى و الضجيج باسم الدين , لأن ذلك إن لم يكن من باب التصنع و الرياء فهو من باب الإنفعال الذي لا فائدة منه ... و إذا كان التفائل من الإيمان فالهدوء من سمات المؤمن ... "إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا" فما بال هؤلاء و قد مسهم الهلع و الجزع من تغريدة لشاب حائر . هل إيمانهم ضعيف لتلك الدرجة حتى يكون الحل الوحيد لحمايته هو قطع رقبة من يشكك به . لهذا مرة اخرى أعتقد ان جوهر الدين و التوحيد هو الاخلاق النابعة من الإيمان قبل ان تكون مراسيم الاعتقاد و تفصيلاتها التي لا فائدة منها و التي لا تعدو ان تكون تنطعا زائدا في الدين كما كانت تفعل اليهود من قبل ... و سيكون لي كلام حول رأيي في الزيادات في العقيدة التي يفرضونها على الناس و يكفرون بها في مشاركات لاحقة .