منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - سلسلة مالك بن نبي "متجدد"
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-05-06, 14:39   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










Flower2

العلاقة بين الحق والواجب عند مالك بن نبي



يحاول المفكر مالك بن نبي أن يرسم معالم الحضارة الإنسانية في جميع مؤلفاته وكتبه، ليضيء الطريق لسالكيه، يمعاببر وأفكار قد لا يبصرونها ولا يتفطنون لها ولا يدركون كنهها وحقيقتها، ومنها العلاقة بين الحق والواجب، التي وإن فهت يتحول الإنسان من سلبي إلى فعال، ومن قاعد خامل إلى منتج مساهم في بناء مجتمعه وامته، فأورد في إحدى مؤلفاته قصة لشباب في قرية معزولة كيف وباتباعهم سبيل الواجب، أنقذو أهاليهم من العزلة القاتلة، وإذا عممنا العبرة من القصة نجد أن كثيرا من الشعوب والمجتمعات الإنسانية قلبت معادلة الحق والواجب رأسا على عقِب، واعتمدت مبدأ السهولة الذي هو مبدأ المطالبة بالحقوق وأغفلت مبدأ القيام بالواجبات.

يروي مفكّرنا أنّ الشعب الجزائري -كنموذج- كان غارقا في الجهل وعبادة الأوثان التي تمثّلت في الزوايا والحروز والأولياء الصالحين..حيث كان الشعب آنذاك خاملا- لا يقوم بواجباته- بل يتلمّس رضا شيوخه ودعواتهم في أن تدخله الجنة. ثمّ جاء عام 1925 الذي سطع فيه نور الفكرة الإصلاحية وتهاوى معبد الأوثان على مرتاديه، وبرز مفهوم العمل -القيام بالواجبات- كشرط للفوز في الدارين. يرى ابن نبي أنّ عمل أولئك العلماء المصلحين المتمثّل في إحياء روح الواجب في قلوب الناس كان رائعا ومخلصا للغاية لولا أنّه لم يختلط بالسياسة عام 1936 حين شعر المصلحون بمُركّب النّقص إزاء قادة السياسة في ذلك العهد، فقاموا بمسايرتهم والتماشي معهم عوض أن يواصلوا عملهم الإصلاحي الحرّ النّزيه.
من هنا عادت فكرة الحروز والأوثان لكن بثوب جديد هذه المرة. فأوراق الحروز -في فكر مالك بن نبي- استبدلت بأوراق الانتخابات وحلّت محلّ دعوات الأولياء الصالحين وبركاتهم – الخاملة والقاتلة لروح العمل في الشعوب- حلّت محلّها الوعود الكثيرة والحقوق السياسية والأماني السابحة في الخيال، التي تُطلقها الحملات الانتخابية.
وبهذا أصاب الخلل مفهوم العمل والقيام بالواجبات من جديد. "فالحقّ ليس هدية تُعطى ولا غنيمة تُغتصب وإنّما هو نتيجة حتميّة للقيام بالواجب فهما متلازمان"[1] و"لكلّ سعي – قيام بالواجب- أثره وإن قلّ، إذ هو يُساهم في بناء التقدّم والنهضة، تماما كما تُساهم القشة الصغيرة في بناء عش الطير."[2]
ويُضيف قائلا: "لقد أصبحنا لا نتكلّم إلاّ عن حقوقنا المهضومة ونسينا واجباتنا، ونسينا أنّ مشكلتنا ليست فيما نستحقّ من رغائب بل فيما يسودنا من عادات وما يُراودنا من أفكار..وبدلا من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة على الحياة، فإنّها أصبحت منذ سنة 1936 سوقا للانتخابات…وكم ردّدنا عبارة: (إننا نطالب بحقوقنا) تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يسْتسهلها الناس فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات"[3]
ويصف بن نبي أنّه بهذه الطريقة تمّ القضاء على روح حبّ العمل والفناء في القيام به، في سبيل تحقيق أهداف على المدى الطويل، و"هكذا تحوّل الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكلّ خطيب، أو قطيع انتخابي يُقادُ إلى صناديق الاقتراع"[4]
"وفي هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها، فإنّ هذه العقول قد عادت إليها الوثنية التي تلِدُ الأصنام المتعاقبة المتطوّرة""هكذا وجدنا أنفسنا بين أحضان الوثنية مرة أخرى. كأنّ الإصلاح قد حطّم الزوايا والقباب من دون الوثن. فقد توارت الفكرة عن العقول وحلّت محلّها الوثنية التي تتكلّم وحدها إذ نُصِب لها في كلّ سوق منبر، كي يستمع الناس إليها، تسلية لهم، وإغفالا لواجباتهم، وإبعادا لهم عن طريق التاريخ."، "أصبح الشعب -إثْرَ ذلك- يؤمن بالعصا السحرية التي تُحوّله بضربة واحدة إلى شعب رشيد، مع مابِه من جهل، وما تنتابه من أمراض اجتماعية…وإننا لنتذكّر – بكل أسف- مأدبة أقامها طلبة الجامعة في الأشهر الماضية، وتكلّم فيها أحد الطلاب فقال: "إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعُرينا ووسخنا" "ولقد كانت هذه الكلمة موضِع استحسان من جميع الحاضرين"
يُعقّب مالك على هذا الموقف غاضبا :
"ألا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يُلبِسه صاحبه ثوب العلم، فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من العوام لأن جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه، أمّا الأول فهو متخفّ في غرور المتعلمين" "ولقد بدأنا بالفعل في التقهقر و العودة إلى الظلام، و بعثرة الجهود وتحطّم المساعي، والإسراف في إمكانياتنا القليلة التّي تتطلّب منا صرفها فيما يفيد تقدّمنا"[5].

من المسّلم به أن الإنسان بطبعه يميل إلى الراحة والركون وإن وجد مع ذلك من يعينه ويشجّعه على المضيّ في هذا الاتجاه فسوف لن يتوانى عن تلبية النداء. وتختلف تلك التشجيعات في صور عديدة لكن جوهرها ورسالتها واحد لا يتغير وهو يفيد بأنّه: "لا داعي إلى العمل بجّد وإخلاص القيام بالواجبات في سبيل الارتقاء بالأنفس والمجتمعات، والحصول على قدر من العيش الرغيد الذي تحترم فيه كرامة الإنسان وحريته – الحقوق البشرية- و إنما يكفي قلب المعادلة وقراءة الجملة من الآخر بجعل المطالبة بهذه الحقوق الأخيرة هي ذاتها العمل. بهذا يغدو المجتمع خاملا كسولا عالة على الآخرين تجرّه أمان زائفة وهيهات هيهات أن ينجح أو أن يعرف للنجاح سبيلا".
يواصل مفكّرنا محلّلا: "خلق مجتمع ما بعد الموحدين كائنا على صورة “الأميبا": كائنا مُتبطّلا يتسكّع، حتى إذا رأى فريسة هينة أبرز إليها ما يُشبه "اليد" ليقنصها، ثمّ يهضمها في هدوء. ولقد شاءت المصادفة أن تُمدّه بفرائس أشبعت حاجاته المتواضعة، فدرج على هذا النحو خلال قرون خلت اتّكل فيها على عناية السماء لترزقه، حتى إذا جاء الاستعمار اختطف منه ما كان يطعم، حتى لم يدع له شيئا يتبلّغ به، وكان من نتيجة ذلك أن تحرّك ضميره الأميبي، أعني معدته، فمدّ “شبه اليد" إلى فريسة وهمية أطلق عليها لفظة "الحق".[6]

ويُتابع قائلا: "لسنا بحاجة إلى نظرية تهتم "بالحق" على حدة أو "بالواجب" على حدة، فإنّ الواقع الاجتماعي لا يفصلهما، بل يقرنهما ويربط بينهما في صورة منطقية أساسية، هي التي تُسيّر ركب التاريخ. ومع ذلك فينبغي ألاّ يغيب عن نظرنا أنّ "الواجب" يجب أن يتفوّق على “الحقّ" في تطوّر صاعد، إذ يتحتّم أن يكون لدينا دائما محصول وافر، أو بلغة الاقتصاد السياسي "فائض قيمة" هذا "الواجب الفائض" هو أمارة التقدّم الخلقي والمادي في كلّ مجتمع يشقّ طريقه إلى المجد.
وبناء على ذلك يمكننا القول بأنّ كلّ سياسة تقوم على طلب "الحقوق" ليست إلاّ ضرْبا من الهرج والفوضى. والحقّ أنّ العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تُفسّر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصوّرها منفصلة عن الواجب وهو يُعدّ في الواقع “أوّل عمل قام به الإنسان في التاريخ"
.[7]
"لن يكون هذا الإنسان فريسة سهلة إذا ما اتجه إلى تثقيف طرائق تفكيره، وطرائق عمله، طِبْق منطق عمليّ يخطط نشاطه ومنطق علميّ موضوعي يُنظّم فكره، وإذا تخلّص من الخرافات التي تكفّ نشاطه وتحدّ من فاعليّته."[8]
“فنحن ندرك الآن شيئا فشيئا أنّ واجبنا هو أن نبذل جهودا ضخاما في جميع الميادين، وأن نقوم بكثير من الواجبات لكي نصل إلى حقوقنا، التي تصبح حينئذ مشروعة."

"والواقع أنّ خرافة هذا الذهان – ذهان الاستحالة- تختفي تماما متى ما قُمْنا بأقلّ الجهود تواضعا، لأنّ لكلّ جهد ثمرته في الميدان الاجتماعي، ومتى تجمّعت الثمرات بصورة ايجابية وجدنا أنّ أداء الواجب أعظم أثرا من المطالبة "بالحق"[9]
ويروي الكاتب نموذجا يراه تجسيدا لفكرته والنموذج يتمثّل في جماعة من الشبّان المتطوّعين في قرية القدّيس يوجين أبصروا حاجة سكّانهم إلى طريق فتطوّعوا وعملوا على حفْر الطريق وتعبيده خدمة للجميع. يتساءل بن نبي: هل يعلم هؤلاء الشبان أنّهم دخلوا في سجّل التاريخ بعملهم هذا؟ ويردف قائلا: "ومع ذلك فمن المستحسن ألاّ يعلموا، فالرواد دائما جنود مجهولون، وهم يكتفون بأن يرسموا طريق “الواجب" لمن بعدهم، وربّما كان بوُسعهم أن يتحدّثوا عن حقّ القرية في أن يكون لها طريق، وبالتالي يتحدّثون عن الشعب المسلم التعيس في قرية القديس يوجين، ولكنّهم آثروا أن يُنشئوا الطريق بأنفسهم كأنّهم من عمّال الحفر والبناء في البلدية، وبهذا أعادوا إلى الفكرة الأساسية مغزاها الحق."[10] وحينها قال فيهم مقولته الحكيمة "من هذا الطريق بالذات خطت الحضارة أولى خطواتها".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مالك بن نبي: “شروط النهضة"، تر: عمر مسقاوي، عبد الصبور شاهين، مكتبة دار العروبة، القاهرة، ط2، 1961، ص39.
[2] نفسه: ص40.
[3] نفسه: ص42،43.
[4] نفسه: ص43.
[5] نفسه: ص45.
[6] مالك بن نبي: “وجهة العالم الإسلامي"، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، سوريا، ط2، 1970: ص160.
[7] نفسه: ص161.
[8] نفسه: ص163.
[9] نفسه: ص167،168.
[10] نفسه: ص170.

المصدر: علاقة الحق بالواجب في فكر العلاّمة مالك بن نبي - نور يوسف (بتصرف)









رد مع اقتباس