-قال المأربي: "وتأمل كلمته الأخرىيكفيه أنه عرف منهج الأنبياء ,عليهم الصلاة والسلام ,ومنهم سليمان ,وهو ما كان يعرف الواقع مثل ما ندعي الآن....) وكأنه يشير بذلك إلى أن الجهل بالواقع من منهج الأنبياء جميعاً!! فالمسألة فيها إفراط وتفريط ,وإلا فأين نحن من قول الله عزوجل: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)؟!! ".
وقال: "؟! بل كدت تجعل الجهل بالواقع منهجاً للأنبياء كلهم!!".
الجواب من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: هذا الكلام فيه افتراء المأربي على الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- أنه يجعل الجهل بفقه الواقع من منهج الأنبياء!!
وهذا من سوء فهم هذا المأربيّ أو من سوء قصده.
فهل من يقول بقول أهل السنة في الاقتصاد والاعتدال في وصف البشر، ويبتعد عن الغلو وأهله يوصف بهذا الكلام الباطل؟
فهل في قوله تعالى عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} هل فيه تجهيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-؟!! أعوذ بالله من فهم المأربيّ المنكوس.
وهل قول الهدهد لسليمان –عليه السلام-: {أحطت بما لم تحط به} فيه تجهيل لسليمان –عليه السلام-؟ أعوذ بالله من فهم المأربيّ المنكوس.
ومنهج الأنبياء مبني على العلم والعدل، والعلم بجميع ما في الواقع وتفاصيله ليس من صفات الأنبياء والمرسلين ولا غيرهم من البشر، بل من خصائص الرب -عزَّ وجلَّ- .
والغلو في فقه الواقع ليس من منهج الأنبياء بل من البدع والمحدثات، ومنهج الأنبياء –عليهم السلام- هو ما ذكره الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ-: "والله هذا لأنه هان علينا علم الدين , علم التوحيد, علم السنة؛علم عظيم,والله الذي يعرف عقيدة التوحيد, ويحققها للناس,وينشرها في الناس,ولو ما عرف أشياء أخر؛يكفيه شرفاً , يكفيه أنه عرف منهج الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام - , الذين منهم سليمان , وهو ما كان يعرف الواقع مثل ما ندعي الآن, عرفتم ولا لا , أنا أقول هذا الكلام صراحة يا إخوتاه , لأننا عانينا من الواقع هذا , معاناة لا يعلمها إلا الله , أصبح والله طاغوتاً والله طاغوت من الطواغيت وسلاح فتاك يمزق في جسم الأمة ويوجد حواجز وفواصل بين شباب الأمة وبين علمائها .
علم الواقع هذا ..تفضل أهله على أهل الكتاب والسنة وأهل التوحيد ما هذا الجهل يا إخوتاه هذا والله أشياء خطير رهيب جدا وما عرف الإنسانية منذ ولد آدم إلى هذه الفترة مثل هذا الغلو في علم الواقع ...غلو شديد غلو، غلو وبعدين –والله تحرف له آيات وأحاديث..وأنا أتحدى من يأتيني بآية أو حديث يطبقه على هذا الواقع؛ واقع الصحف والسياسة وأسرار الدول ".
فليس من منهج الأنبياء الغلو في معرفة الواقع، وإنما منهجهم علم وعمل ودعوة وصبر على الأذى.
الوجه الثاني: ليس في كلام الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- أنه ينكر فقه الواقع أو معرفته كما سبق نقل قوله: "وعلم الواقع أنا ما أحاربه، لكن أنا أحارب البغي به، والتطاول به، والغلو فيه.
لا بأس أن يكون في الأمة سياسيين يدرسون أحوال الدول، وماذا يجري في العالم؟ والناس يتجهون إلى مصالح المسلمين . كل واحد يتجه –بارك الله فيك- إلى العلم الذي ينفع الناس، أنا أتخصص في التفسير، وهذا يتخصص في الحديث وهذا السياسي يخبرني بالذي يجري أستفيد منه ولاَّ هو يكفيني ما هو لازم أن الأمة وشبابها كلهم يصبحون سياسيين، وكلهم أساتذة واقع، ودكاترة واقع . هذا شيء ما تعرفه الأمم وهذا يفسد الحياة تماماً..".
وإنما ينكر الغلو فيه، وينفي هذا الغلو عن منهج الأنبياء وهو ما يعنيه الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- بقوله: "يكفيه أنه عرف منهج الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام - , الذين منهم سليمان , وهو ما كان يعرف الواقع مثل ما ندعي الآن.."
فقوله: "مثل ما ندعي الآن" أي ما يطالب به بعض من كان مندساً في صفوف السلفية، ويزعم أنه من السلفيين كناصر العمر وسفر وسلمان وأشباههم.
وما يدعيه أولئك هو: الغلو في فقه الواقع .
فتبين أن الغلو في فقه الواقع ليس من منهج الأنبياء خلافاً لما أوهمه المأربي من أن من ينفي هذا الغلو عن الأنبياء يعده المأربيّ مجهلاً للأنبياء –عليهم السلام-.
الوجه الثالث: أن المأربي استدل على فقه الواقع بقوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} موهماً مخالفة الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- للآية.
وهذا من تضليل المأربيّ وجهله:
قال ابن جرير -رحمَهُ اللهُ- في تفسيره(7/209): "يعني تعالى ذكره بقوله وكذلك نفصل الآيات وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحها يا محمد إلى هذا الموضع حجتنا على المشركين من عبدة الأوثان وأدلتنا وميزناها لك وبيناها كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم فنبينها لك حتى تبين حقه من باطله وصحيحه من سقيمه".
وقال ابن كثير -رحمَهُ اللهُ-: "{وكذلك نفصل الآيات} أي: التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها . {ولتستبين سبيلُ المجرمين} أي: ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل . وقرئ: {وليستبين سبيلَ المجرمين} أي: ولتستبين يا محمد أو يا مخاطب سبيلَ المجرمين"
وقال ابن الجوزي في زاد المسير(3/50): "قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات} أي: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل . قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء.
قوله تعالى: {ولتستبين}... فالمعنى: ولتستبين أنت يا محمد {سبيل المجرمين}.
وفي "سبيلهم" التي بينت له؛ قولان: أحدهما: أنها طريقهم في الشرك ومصيرهم إلى الخزي قاله ابن عباس.
والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه . وذلك إنما هو الحسد لا إيثار مجالسته واتباعه قاله أبو سليمان".
وقال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- في مجموع الفتاوى(15/106): "وقوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} فقد فصله بعد إحكامه، بخلاف من تكلم بكلام لم يحكمه . وقد يكون في الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده، كما قال: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} . وقال: {ولقد جئنا بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم .
وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق و الباطل، فقال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} إلى قوله: {فهل أنتم مسلمون}..."
فالشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- يركز على معرفة التوحيد والسنة، وما أمر الله به أنبياءه ورسله من البلاغ والهدى والنور خلافاً للغلاة في فقه الواقع الداعين لمعرفة الأخبار لحظة بلحظة، وتتبع الصحف والجرائد الذي يؤدي إلى انتشار الشائعات والأكاذيب مع ما يلزم من ذلك من الانشغال بتتبع الأخبار عن تعلم العلم الشرعي وعن معرفة سبيل المجرمين وطريقهم .
ومن هذا أتي من يدعي فقه الواقع فتراهم ينجرفون مع الفتن، ويصدقون الكاذب، ويكذبون الصادق، وتراهم وقوداً للفتنة، وعن طريقهم ينفذ أعداء الإسلام مخططاتهم مستغلين جهلهم بالشرع، وجهلهم بكيفية التعامل مع الواقع على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
الجواب من وجوه أذكر ثلاثة منها:
الوجه الأول: بيان عدم فهمه لمراد الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- بقوله: "إن كلامي هذا استفهام إنكاري".
فالمأربي يظن أن الشيخ ربيعاً يقصد بالاستفهام الإنكاري في قوله: "وهل سليمان ما يعرف الواقع؟!" وهذا من جهل المأربي وغباءه .
فالشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- يعني قوله: "هل يصير الطير أفضل من نبي الله سليمان؟!".
وقوله: "نبي الله سليمان يسقط؟ لأن الطير-ما هو إنسان-طير عرف أن هناك دولة، وفيها شرك، وسلميان والله ما يدري؟!"
وقوله: "فهل يا إخوتاه، هل هذا العصفور الذي اكتشف هذه الدولة، بقضها وقضيضها، ودينها وملكها وعقيدتها وتفاصيلها؛ يكون أفضل من نبي الله سليمان؟!"
وقوله: "شفت، العصفور عرف الواقع أكثر منه –يعني من سلميان عليه السلام- هل هذا ينقصه؟!"
فهذه العبارات التي ساقها الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- بصيغة الاستفهام الإنكاري .
فهو ينكر على غلاة فقه الواقع الذين يجعلون معرفة الواقع ميزاناً للفضل والرفعة، فعلى ميزانهم الجائر الباطل يكون الطير خيراً من النبي لأنه عرف من الواقع –على أهمية وعظم ما عرف- ما لم يعرفه نبي الله سليمان –عليه السلام- .)
لذلك أنكر عليهم الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- هذا الميزان وبين فضل علم سليمان –عليه السلام- ومنزلته كما سيأتي بعد قليل.
الوجه الثاني: أن الداعي لبيان مراد الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- من الاستفهام هو ما افتراه القطبي المدعو "يزن" حيث زعم –فض الله فاه-: "" هل يصير الطير أفضل من نبي الله سليمان؟ هل من الأدب مع أنبياء الله عقد مقارنة بينهم وبين الطيور والحيوانات؟""
فرد عليه الشيخ الإمام ربيع -حَفِظَهُ اللهُ-
"أقول من أين لك هذا التفضيل والمقارنة بين نبي الله سليمان وبين الطيور والحيوانات إنه لمن الكوارث أن يتصدى للكتابة والنقد من أمثال هذا الجلف فيأتي بالعجائب والغرائب وكما قيل من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
فهل أنا وصفت الهدهد بأنه ذكي وحليم وفطن ونبيل وحازم وملك للإنس والجن والحيوان، وأن له الريح تمشي بأمره غدوها شهر ورواحها شهر وهل أنا قلت بأن للهدهد جيوشاً تفوق جيوش سليمان، وهل ادعيت للهدهد النبوة والرسالة حتى تكون هناك مقارنة مني بين نبي الله سليمان النبي الملك وبين الهدهد ذلك الطير الصغير، وما هي الحيوانات التي نصبت منها أنبياء وملوكاً أفضل من نبي الله سليمان وملكه، ولله در القائل:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كلاها حتى سامها كل مفلس
أما ما قلته في تبجيل نبي الله سليمان وإعلاء شأنه ومنزلته العظيمة عند الله وعند المؤمنين في هذا الشريط –العلم والدفاع عن الشيخ جميل – فهو كثير أختار منه بعض المقتطفات:
قلت بحمد الله ونعمته:" سليمان ملك الله آتاه ملكاً ما أعطاه لأحد.."، وقلت أيضا:" سليمان ملك حازم تحشر له الجنود فيتفقد الجن والإنس والطير، طائر واحد غاب، افتقده سليمان، شوف الذكاء والنبل والحزم"، وقلت أيضا:" وهو نبي الله عنده الريح غدوها شهر ورواحها شهر أسرع من هذه الطائرات، وبعدين يملك الإنس والجن وكلهم تحت خدمته"ودعوت الناس إلى اتباع منهج الأنبياء ونصصت على نبي الله سليمان حيث قلت:" والله الذي يعرف عقيدة التوحيد ويحققها للناس وينشرها في الناس ولو ما عرف شيئاً آخر يكفيه أنه عرف منهج الأنبياء الذين منهم سليمان .."، وقلت أيضا:" فرجع الهدهد وقال إني جئتك من سبإ بنبإ يقين فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ يقول لنبي الله أحطت بشيء لا تعرفه أنت علمت شيئاً لا تعرفه أنت، يعني علم الواقع، طير عرف الواقع ونبي الله ما يعرف الواقع، هل يصير الطير أفضل من نبي الله سليمان؟؟؟"
إنَّ قصدي واضح من الكلام، وسياقه ولحاقه وألفاظه كلها تهدف إلى هدم منهج فاسد أفسد عقول الشباب ودفعهم إلى رفع هذا العلم- أعني فقه الواقع- وإعطائه منـزلة فوق العلوم الإسلامية، كم جعلهم هذا المنهج يحتقرون العلماء الأجلاء ويرمونهم بالعلمنة الفكرية ويجعل بعضهم العلوم الإسلامية من شروط فقه الواقع إلى غير ذلك من السخف والضلال.
قال الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد (4/9-10) "الطبعة المنيرية":
((السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى:ذق إنك أنت العزيز الكريم كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير))، ونصوص كلامي والحمد لله ظواهر لا لبس ولا إجمال فيها.
ولما كان من أعظم أصول الإيمان والتوحيد الذي جاء به الأنبياء ومنهم نبي الله ورسوله سليمان عليه الصلاة والسلام وفي الحضور احتمال وجود صوفية غلاة يعتقدون في الأولياء أنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون ركزت في هذه المناسبة على قضية علم الغيب الذي هو من خصائص رب العالمين، وبينت أنَّ هذا النبي الكريم مع منـزلته عند الله لا يعلم الغيب.
وهذا ليس فيه تنقص له ولا لغيره من الأنبياء بل احترام لهم وسير على منهاجهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وإثبات قوي لاختصاص رب العالمين بالكمال المطلق الذي يدين به الأنبياء والمؤمنون.
نفيت في سياق كلامي علم الغيب عن هذا النبي الكريم، وهذه عقيدة الأنبياء والمؤمنين بهم، والله تبارك وتعالى يقول لأفضل رسله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ، وأنا أركز على هذا كثيراً في دروسي لشدة حاجة الناس إلى ذلك.
ولا يسعني إلا أن أقول: قاتل الله الهوى كيف يفعل بأصحابه هذه الأفاعيل الشنيعة، يزين لهم الخيانة وتقليب الأمور وجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، والإيمان كفراً والكفر توحيداً.
أليس تنقص الأنبياء كفراً؟، أليس عقد المقارنة بين نبي وطير كفراً؟
هل يفعل مسلم هذا؟ بل هل يتصور أن يعقد المسلم مقارنة بين عالم عابد زاهد وبين نبي من الأنبياء؟!!.
لقد أعمى هذا الرجل هواه فلم ير كل هذه المنارات التي يستدل بها العقلاء الشرفاء على المقاصد الشريفة والغايات النبيلة من هذا الكلام الواضح الذي تدل عليه بدايته وسياقاته أني أدعو إلى منهج صحيح وأخلاق عالية، وأحذر من الانحرافات التي تجر إلى الفتن التي أحاطت بالشباب وتأكيدي على هذا وذاك.
وأدعوهم إلى العلم الشرعي الذي يقوم اعوجاجهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، وعلى رأس ذلك التوحيد ومنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كل هذا يدل عليه كلامي ويدعو إليه، فلم يدرك هذا الرجل كل هذا وذهب يسف ويتسفل بكلامي وعقيدتي ومنهجي إلى هذا المنحدر الذي لا يخطر إلا ببال هذا الجلف وأمثاله.
ألا قاتل الله الهوى مرة أخرى وأعاذ الله المسلمين من شروره وبلاياه .".
الوجه الثالث: أن المأربي ظن أن الشيخ ربيعاً عنى بالاستفهام الإنكاري قوله: "طير عرف الواقع، ونبي الله ما عرف الواقع" ونحوه، فظن أن الشيخ يستنكر أن يكون الطير علم شيئا من الواقع لم يعلمه نبي من الأنبياء الكرام!!
وهذا من جهل المأربيّ، وعسر فهمه، وغباوته.
فالشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- يثبت هذا الأمر غاية الإثبات مخالفاً بذلك الغلاة الذين يجعلون هذا الأمر منقصة للأنبياء حيث يقتضي مذهبهم أن الأنبياء يعلمون الغيب كما سبق بيان هذه الدعوى حتى من كلام المأربيّ نفسه.
الخلاصة
ولم يراعِ المأربيّ سياق كلام الشيخ ربيعٍ ولا سباقه ولا لحاقه ففهم كلام الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- فهماً منكوساً معكوساً يليق بأمثاله من المنتكسين المبطلين.
ويلزم من كلامه وجوب وصف الأنبياء والعلماء أنهم يعلمون كل شيء في الواقع كما في قوله-فض الله فاه-: "ومن المعلوم أن الشيخ ربيعًا ما قصد نفي معرفة سليمان بكل شيء، كما أن المخالفين لنا لا يقصدون بأن علماءنا لا يعرفون كل شيء في الواقع"
ثانياً: دحض اتهام مصطفى المأربي الشيخَ ربيعاً برد الاحتجاج بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وكلام المأربي في هذه الفرية حول دعوى المأربيّ جواز زيارة وقبول دعوة رؤوس البدع والضلال لحاجة شرعية كما يزعم مستدلاً بذلك بحديث نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتضمن قبوله -صلى الله عليه وسلم- دعوة يهودية معترضاً بذلك على من اعترض عليه وأدانه بزيارته لبعض رؤوس أهل البدع .
فلما بين الشيخ العلامة ربيع المدخلي -حَفِظَهُ اللهُ- أنهلا يصح الاحتجاج بهذا على أصل مقرر في الكتاب والسنة وانعقد عليه الإجماع بذلك الحديث، ظن المأربيّ –لجهله وسوء فهمه- أن في هذا اعتراضا على الحديث، ورداً للاحتجاج به .
وللجواب على اعتراضه، ودحضاً لأباطيله أكتب هذا الرد مقسماً له إلى خمسة أقسام:
أولاً: الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف على هجر أهل البدع، ومنابذتهم، وعدم مجالستهم، والتحذير منهم .
ثانياً: عدم إجابة دعوة أهل البدع والضلال .
ثالثاً: قصة اليهودية والشاة المسمومة، وبيان تلبيس المأربيّ وجهله .
رابعاً: عدم الأخذ بدليل لوجود معارض راجح ليس من رد الحجة في شيء.
خامساً: بيان رد المأربيّ لأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف، وتعريضه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، واستهزائه بحكم شرعي.
خامساً: الرد على بعض تخاليط المأربي.
وأسأل الله التوفيق والسداد والهدى والرشاد.
أولاً: الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف على هجر أهل البدع، ومنابذتهم، وعدم مجالستهم، والتحذير منهم .
قال ابن عون: كان محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى – يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أُنزلت فيهم: ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ﴾. "الإبانة لابن بطة (2/431)"
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر –كما في الدر المنثور(3/292) عن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله .
وقال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة ذكره البغوي في تفسيره(1/491)، والضحاك لم يسمع من ابن عباس-رضي الله عنهما-.
وقال ابن جرير الطبري -رحمَهُ اللهُ- في تفسيره(5/330): "وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم"
وقال القرطبي -رحمَهُ اللهُ- في تفسيره(7/142): "ومضى في النساء وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم؛ فقال: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} الآية، ثم بين في سورة النساء -وهي مدنية- عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال: {وقد نزل عليكم في الكتاب} الآية، فألحق من جالسهم بهم . وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات في مُجَالِس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة؛ منهم أحمد بن حنبل، والأوزاعي، وابن المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا: ينهى عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم .
وقد حمل عمر بن عبد العزيز الحد على مجالس شربة الخمر، وتلا: {إنكم إذاً مثلهم} قيل له: فإنه يقول: إني أجالسهم لأباينهم وأرد عليهم. قال: ينهى عن مجالستهم، فإن لم ينته ألحق بهم".
وقال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- في مجموع الفتاوى(15/315): "ورفع إلى عمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر وكان فيهم جليس لهم صائم فقال: ابدؤوا به في الجلد، ألم تسمع الله يقول: {فلا تقعدوا معهم}".
وقال الآلوسي في روح المعاني(5/174): "واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا، واليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة: أنه ضرب رجلا صائما كان قاعداً مع قوم يشربون الخمر فقيل له في ذلك فتلا الآية"
قال البغوي -رحمَهُ اللهُ- في شرح السنة(1/226-227): " هذا حديث صحيح، وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول -صلى الله عليه وسلم- خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-براءتهم، وقد مضت الصحابة والتّابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم" .
قال الإمام ابن بطة -رحمَهُ اللهُ- في كتاب الإبانة(2/470): "هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق، فالله، الله معشر المسلمين لا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه، على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: أداخله لأناظره أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشد فتنة من الدجال وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب.
ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة، وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم".
قال الإمام الأوزاعي: اتقوا الله معشر المسلمين، واقبلوا نصح الناصحين، وعظة الواعظين، واعلموا أن هذا العلم دين فانظروا ما تصنعون وعمن تأخذون وبمن تقتدون ومن على دينكم تأمنون؛ فإن أهل البدع كلهم مبطلون أفّاكون آثمون لا يرعوون ولا ينظرون ولا يتقون. إلى أن قال: فكونوا لهم حذرين متهمين رافضين مجانبين، فإن علماءكم الأولين ومن صلح من المتأخرين كذلك كانوا يفعلون ويأمرون. رَ: تاريخ دمشق (6/362)
وقال الفضيل بن عياض -رحمَهُ اللهُ-: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة؛ فإن الله تعالى لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة، وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة وهم ينهون عن أصحاب البدعة. خرَّجه أبو نعيم في حلية الأولياء(8/104)
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الإيمان"(ص/34-35): "باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولاً بلا عمل، وما نهوا عنه من مجالِسهم."
مما ذكره: " عن الوليد بن مسلم قال: ((دخل فلان - قد سماه إسماعيل ولكن تركت اسمه أنا - على جندب بن عبد الله البجلي فسأله عن آية من القرآن؟ فقال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت، قال: أو قال: أن تجالسني أو نحو هذا القول)) .
قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب، قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكراً له شيئاً:
((لا تجالس فلاناً (وسماه أيضاً) فقال: إنه كان يرى هذا الرأي)) . "
ثم قال: "والحديث في مجانبة الأهواء كثير، ولكنّا إنما قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصةً.
وعلى مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس، ومن بعدهم من أرباب العلم وأهل السنة الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم، من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، زارين –"أي: عائبين" على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان: قولاً وعملاً ".
وقال الإمام أحمد -رحمَهُ اللهُ-: "" بسم الله الرحمن الرحيم.
أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كل مكروه ومحـذور، الذي كنا نسمع، وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم، أنهم يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور بالتسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سنة رسول الله لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك وهم لا يرجعون.
فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم." رَ: مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (2/166-167)، والإبانة لابن بطة (2/472) .
وللاستزادة انظر: كتاب "موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع" للشيخ إبراهيم الرحيلي، وكتاب " إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء" للأخ الشيخ خالد الظفيري.
فتبين مما سبق أن هجر أهل البدع، ومنابذتهم، وعدم مجالستهم، والتحذير منهم منهج أصيل، ومعتقد أكيد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع .
وأن هذا من الأصول المحكمة التي يرد إليها المتشابه، وما يُظن أنه يخالف هذا الأصل فإنه يرد إلى هذا المحكم، ولا تضرب النصوص بعضها ببعض كما يفعله أهل الأهواء والبدع.
قال شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي-حَفِظَهُ اللهُ- في تقديمه للكتاب الأخ الشيخ خالد الظفيري آنف الذكر: "وكم ترك –يعني نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- لهذه الأمّة من الضمانات من الضلال لمن وفقه الله ووفقه لفهم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووفقه لفهم السنّة التي هي البيان والتوضيح لما اشتبه أو أجمل من الكتاب كما قال تعالى:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم}.
ووُفّق للاعتصام بهما و العضّ عليهما بالنواجذ.
ووُفّق للسير على منهج السلف عقيدةً وفقهاً وأخلاقاً وحَذِر من البدع وحذّر منها بعد معرفة خطورتها على هذه الأمّة وبَعُدَ وعيه للنصوص القرآنية والنبوية التي تحذر من شرها وخطرها؛ مثل قول الله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}، ومثل ذمّه تعالى لأهل الزيغ بقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغـاء تأويلـه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنـا به كل من عنـد ربنا وما يذكر إلا أولو الألبـاب}، تلا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- هذه الآيات ثم قال: -
(فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منـه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)).
فبيّن الله سوء مقاصدهم وأنّهم يتبعون المتشابه لهدف خبيث وهو ابتغاء فتنة الناس وإضلالهم.
وحذّر رسول الله منهم بعد أن بيّن علامتهم وهي اتباع المتشابه."
وهجر المبتدعة والتحذير منهم ومن مجالستهم إنما ذلك لما يحصل من مجالستهم ومخالطتهم من المفاسد والأضرار منها:
وارجع إلى تفاصيل هذه المفاسد –وقد زدت بعضها- مع بعض الضوابط المتعلقة بهجر المبتدع إلى كتاب "موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع" للشيخ إبراهيم الرحيلي.
ثانياً: عدم إجابة دعوة أهل البدع والضلال .
إن إجابة دعوة أهل البدع محرمة ممنوعة من عدة أوجه:
الوجه الأول: أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة على هجر أهل البدع، ومنابذتهم، وعدم مجالستهم، والتحذير منهم وإجابة دعوتهم تنافي هذا الأصل الأصيل.
الوجه الثاني: أن في إجابة دعوة المبتدع يحصل بسببها مفاسد عظيمة وهي ما سبق ذكره من المفاسد المترتبة على مجالستهم .
الوجه الثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((نهى عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر)) حديث حسن بشواهده رواه أبو داود(3/349) وأنكره موصولاً، وابن ماجه(2/1118) وساق سنده وبعض متنه وليس فيه جملة النهي عن الجلوس على مائدة الخمر، والروياني في مسنده(2/398)، والحاكم(4/143) وصححه على شرط مسلم، والبيهقي في الكبرى(7/266)، وغيرهم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وكون صاحب الوليمة مبتدعاً أشد خطرا وفساداً من حضور مائدة يدار عليها الخمر، لما يحصل بسبب المبتدع من فتنة في الدين، وحفظ الدين مقدم على حفظ البدن.
الوجه الرابع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)) حديث حسن . رواه الإمام أحمد في المسند(3/38)، والدارمي(2/140رقم2057)، وأبو داود(4/259رقم4832)، والترمذي(4/600رقم2395) وحسنه، وابن حبان في صحيحه(2/314-315، 320رقم554، 555، 560)، والحاكم في المستدرك(4/143) وصححه، والبيهقي في الشعب(7/42) وغيرهم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) حديث حسن . رواه عبد بن حميد(رقم1431)، وأحمد(2/303)، وأبو داود(رقم4833)، والترمذي(رقم2378) وقال: حسن غريب، والحاكم في المستدرك(4/189) وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- في مجموع الفتاوى(15/327): "فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع أهل طاعة الله تعالى على مراد الله، ويدل على ذلك الحديث الذي في السنن: ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)) وفيها: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل))" .
وقال الأصمعي -رحمَهُ اللهُ-: سمعت بعض فقهاء المدينة يقول: إذا تلاحمت بالقلوب النسبة تواصلت بالأبدان الصحبة. الإبانة(2/453)
أي: أن من كان سنياً فإنه يصاحب ببدنه أهل السنة، ومن كان مبتدعا منحرفاً فإنه يصاحب ببدنه أمثاله من المبتدعة.
الوجه الخامس: أن العلماء نصوا على المنع من إجابة دعوة المبتدع، وتعظيم جرم الأكل معهم .
قال الفضيل بن عياض -رحمَهُ اللهُ-: " آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد" انظر شرح السنة للبربهاري (ص/138-139)، واعتقاد أهل السنة لللآلكائي(4/633)، والإبانة لابن بطة (2/460).
قال ابن مفلح في الفروع(5/226) فيمن لا تجاب دعوته: "ومنع في "المنهاج" من ظالم وفاسق ومبتدع ومفاخر بها، أو فيها مبتدع يتكلم ببدعته إلا لراد عليه".
وقال المرداوي في الإنصاف(21/319-تحقيق التركي): "ومنع ابن الجوزي في "المنهاج" من إجابة ظالم، وفاسق، ومبتدع، ومفاخر بها، أو فيها مبتدع يتكلم ببدعته إلا لراد عليه".
وانظر: المبدع لابن مفلح(7/181)، وكشاف القناع للبهوتي(5/167) وحواشي الشرواني(7/428).
وقال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- في مجموع الفتاوى(28/221-222): "ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة، كما في الحديث أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر)) . ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائماً، فقال: ابدؤوا به أما سمعتم الله يقول: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم}، بَيَّنَ عمرُ بن عبد العزيز -رضى الله عنه- أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله، ولهذا قال العلماء: إذا دعي إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها، وذلك أن الله تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان، فمن حضر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله بترك ما أمره به من بغض إنكاره، والنهي عنه، وإذا كان كذلك فهذا الذي يحضر مجالس الخمر باختياره ضرورة ولا ينكر المنكر كما أمره الله هو شريك الفساق في فسقهم فيلحق بهم".
وللمأربي نصيب كبير من كلام شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- .
فتبين بما سبق أن أهل البدع لا تجاب دعوتهم، وتجب منابذتهم والابتعاد عنهم.
وبعد كل ما ذكر إن تعجب فعجب من قول المأربي: "هل كان في الدعوة السلفية وهل كان شيخنا الألباني رحمة الله عليه، هل كان إذا أرسل طالباً من طلابه يدعوا إلى الله في مكان ينظر أين تغدى عند فلان أو تعشى عند فلان، فلان تغدى عند فلان وفلان هذا حزبي إذن أصبح حزبياً، تعشى عند فلان وفلان سلفي، يبيت حزبياً ويصبح سلفياًً، أو العكس، هل هذا منهج العلماء"!!
فكلامه هذا مصادم للكتاب والسنة وإجماع السلف كما سبق بيانه.
وهذا وقد حاول المأربي التلبيس على المسلمين، وأورد حديثاً حرَّف في لفظه ليعارض هذا الأصل، وليبرر زيارته البدعية لبعض رؤوس أهل البدع والضلال موهماً معارضة ما أورده لهذا الأصل العظيم ألا وهو هجر أهل البدع ومنابذتهم، والابتعاد عن مخالطتهم وزيارتهم .
وهو ما سأوضحه فيما يأتي -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
ثالثاً: قصة اليهودية والشاة المسمومة، وبيان تلبيس المأربيّ وجهله .
حاول المأربي معارضة ما ثبت بالكتاب والسنة وأجمع عليه السلف من عدم إجابة دعوة المبتدع أو زيارته أو مجالسته بحديث اليهودية التي أهدت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاة مسمومة، مستدلاً به على جواز زيارة أهل البدع وإجابة دعوتهم ولو كان الداعي أضل أهل الأرض!!
قال المأربي -عامله الله بعدله-: "هب أنك زرت أضل أهل الأرض ترى أن في زيارتك المصلحة له عسى أن يهده الله ويأخذ بيده إلى الهدى أو إن تقيم حجة فتبرأ ذمتك، فتكون زيارتك تهمة لك وطعناً فيك، ألم يجب النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة امرأة يهودية وضعت له السم في ذراع الشاة من قال إن من زار فلان أو أكل عند فلان هذا ليس بسلفي، هذه أصول ظالمة جاهلة تنادي بملئ فيها على جهل أهلها وضلالهم، نعم هناك حالات يكون فيها التحذير لبعض الأشخاص الذين لا يعرفون المحق من المبطل ولا السني من المبتدع نقول له: احـذر فلاناً لا تأتي لفلان ولا تنـزل عنده خشية على هذا الشخص أن يمسه بمساسه وأن يفتنه بفتنته أما إن يكون هذا في العالم وفي طالب العلم المبرز وفي البصير وفي الذي يعرف هذا ويعرف ذاك هذه القاعدة ما عرفنا إلا من الحدادية الجهلة الذين هم شؤم على هذه الدعوة".
فالمأربي يستدل بقصة اليهودية على جواز زيارة رؤوس المبتدعة والضلال إذا كان فيها مصلحة شرعية –والواقع أنه يريد مصلحة شخصية- واستدلاله ساقط من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن المأربي حرَّف الحديث وجاء بحديث لا أصل له!!
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدعه أحد من اليهود في خيبر لا امرأة ولا رجلاً!!
والوارد الثابت أن امرأة يهودية أهدت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاة مسمومة فأكل منها وجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- .
روى البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه-: أن امرأة يهودية أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك . قال: ((ما كان الله ليسلطك على ذاك-قال: أو قال: عليَّ-)) قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: ((لا)) قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سم)).
وقد بوب عليه البخاري في صحيحه(5/272-مع فتح الباري): "باب قبول الهدية من المشركين. وقال أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((هاجر إبراهيم -عليه السلام- بسارة فدخل قرية فيها ملك أو جبار فقال: أعطوها آجر))، وأهديت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاةٌ فيها سم . وقال أبو حميد: أهدى ملك أيلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بغلة بيضاء، وكساه برداً، وكتب إليه ببحرهم".
فتبين أن دعوى مصطفى المأربي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب دعوة اليهودية لا أصل له وأن الصواب أن اليهودية أهدت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاة مسمومة.
الوجه الثاني: من باب التَنَزُّل: هب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب دعوة اليهودية –على فرض حصولها وهي لم تحصل أصلاً- فإنه يجمع بين هذا وبين الأصل السابق وهو عدم إجابة دعوة المبتدع أو زيارته أو مجالسته بأن يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يبين لعموم الناس حل طعام أهل الكتاب، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رهن درعه عند يهودي مع إمكانه أن يشتري من عند مسلم ويرهنه درعه.
أو يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك لأنه -صلى الله عليه وسلم- في حال حرب وقوة وغلبة وانتصار وأسباب حصول المودة منتفية في مثل هذا الحال فقبل الدعوة –ولم يصح قبوله الدعوة كما سبق-.
أو يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك ليطمئن اليهود بتمام الصلح وإن كان قد حصل بالكلام .
ونحو ذلك مما يجمع به بين ما نُسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من إجابة دعوة اليهودية -ولا أصل له كما سبق بيانه- وبين الأصل المحكم في هجر أهل البدع وعدم إجابة دعوتهم .
الوجه الثالث: فإن قيل: فإنَّ الإمام أحمد روى في المسند من حديث أنس -رضي الله عنه-: أنَّ يهودياً دعا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه.
فيقال: إن هذا الحديث بهذا اللفظ شاذ كما قال الشيخ الألباني -رحمَهُ اللهُ- في الإرواء (رقم/35) والصحيح ما رواه البخاري: عن أنس -رضي الله عنه- أنه مشى إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- بخبز شعير وإهالة سنخة .
واختلف في لفظه على قتادة عن أنس، فرواية: "أن يهودياً" شاذة ومع شذوذها لم أقف على تصريح قتادة بالتحديث فيها بخلاف الروايات الأخرى .
# ولو صح فيجاب عنه كما سبق في الجواب عما نسبه المأربي للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أجاب دعوة يهودية!!
الوجه الخامس: فإن قيل: إن قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهدية اليهودية، وما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- من قبوله هدايا بعض المشركين فيه دلالة على جواز إجابة دعوة المبتدع!!
فيقال: هذا مردود من جهتين:
الجهة الأولى: قد ورد النهي عن قبول هدايا المشركين ومن تلك الأحاديث:
وزبد المشركين: هداياهم.
رواه الإمام أحمد في المسند(3/402) والطبراني في الكبير(3/202)، والحاكم في المستدرك(3/484-485) وصححه، ووافقه الذهبي، قال الشيخ الألباني -رحمَهُ اللهُ-: وهو كما قالا . رَ: السلسلة الصحيحة(4/283) .
رواه البزار في مسنده(2/393رقم1933-كشف الأستار)، ورواه الطبراني في المعجم الكبير(19/70، 71، 81) بأسانيد بعضها ظاهره الصحة.
ورواه معمر في جامعه(10/446)، وعبد الرزاق في مصنفه(5/382)، والبزار في مسنده(2/393رقم1934-كشف الأستار)، والبيهقي في دلائل النبوة(3/343)، والرافعي في أخبار قزوين(2/363، 482) من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك-وعند بعضهم: عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك- به مرسلاً
قال الشيخ الألباني -رحمَهُ اللهُ- في الصحيحة(4/306): "قال الحافظ عقبه: "قلت: الإسناد صحيح غريب، وابن المبارك أحفظ من عبد الرزاق، وحديث عبد الرزاق أولى بالصواب"
قلت: وكأن ذلك للطريق الأخرى المرسلة عند البيهقي، لكن الحديث صحيح على كل حال فإن له شواهد تشهد لصحته وقد مضى بعضها، فانظر الحديث(1707)" انتهى كلام الشيخ الألباني -رحمَهُ اللهُ- .
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة(3/599): "ورواه أكثر أصحاب الزهري فلم يقولوا فيه: عن أبيه، وهو المحفوظ، وكذا لم يقولوا: بتبوك . أخرجه الذهلي في الزهريات من طرق، وكذا أخرجه بن البرقي وابن شاهين".
فالصواب في هذا الحديث أنه مرسل، ولكن عدم قبول هدية المشركين صحيح لغيره .
فتعارضت الأدلة فوجب الجمع بينها .
وقد اختلف العلماء في الجمع بينها فمنهم من قال: بالنسخ فيهما، ومنهم من قال بالخصوصية .
وقال آخرون: ليس فيها ناسخ ولا منسوخ والمعنى فيها أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام وبهذه الصفة كان حال سليمان عليه السلام فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملاً على الكف عنه وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا فإنه جمع بين الأحاديث . رَ: التمهيد(2/12)، وتفسير القرطبي(13/199).
وقال آخرون: كان مخيراً في قبول هديتهم وترك قبولها لأنه كان من خلقه -صلى الله عليه وسلم- أن يثيب على الهدية بأحسن منها، فلذلك لم يقبل هدية مشرك لئلا يثيبه بأفضل منها . التمهيد(2/12) .
وقال آخرون: إنما ترك ذلك تَنَزُّهاً، ونهى عن زبد المشركين لما في التهادي والزبد من التَّحاب وتليين القلوب، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} الآية رَ: التمهيد(2/13)
قال الخطابي: "يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً، وقيل: إنما رد ذلك إليهم لقصد الإغاظة أو لئلا يميل إليهم، ولا يجوز الميل إلى المشركين .
وأما قبوله لهدية من تقدم ذكره فهي لكونهم قد صاروا من أهل الكتاب. وقيل: إن الرد في حق من يريد بهديته التودد والمولاة، والقبول في حق من يرجى لك تأنيسه وتأليفه، ويمكن أن يكون النهي لمجرد الكراهة التي لا تنافي الجواز جمعا بين الأدلة".
وقوله: "وقيل: إن الرد في حق من يريد بهديته التودد والمولاة، والقبول في حق من يرجى لك تأنيسه وتأليفه" هو الأظهر والصحيح -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
ومما يعضد القول الأخير أن الهدية تجلب المحبة والموالاة فجاء الشرع بقطع ذلك، أما في حالة من يرجى إسلامه وهدايته من المشركين فتقبل هديته تأليفاً لقلبه، وإن رجي إسلامه برد هديته ردت فهذا راجع إلى حال الذي يُهْدِي .
والله أعلم.
الجهة الثاني: أن هناك فرقاً ظاهراً، وبوناً شاسعاً بين قبول الهدية من المشرك، وبين زيارته وإجابة دعوته.
فإجابة الدعوة فيها تكريم للمشرك، ورفع من شأنه حيث يتعنَّى الذهاب، ويفرغ وقته لهذه الإجابة بخلاف الهدية التي لا يحصل فيها شيء من ذلك والله أعلم.
فليس في قبول الهدية معارضة للأصل الثابت من الكتاب والسنة والإجماع من هجر المبتدعة وترك مجالستهم ومخالطتهم والامتناع عن إجابة دعوتهم.
وليس في قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهدية اليهودية وغيرها مسوغ لزيارة رؤوس البدع والضلال، ولا إجابة ولائمهم كما يصبوا إليه المأربيّ ومن شاكله من أهل البدع والضلال.
الوجه السادس: قال القرطبي في تفسيره(7/142): "وقد حمل عمر بن عبد العزيز الحد على مجالس شربة الخمر وتلا: {إنكم إذا مثلهم} قيل له: فإنه يقول: إني أجالسهم لأباينهم، وأرد عليهم. قال: ينهى عن مجالستهم فإن لم ينته ألحق بهم".
وقد سبق نقل هذا الأثر وبيان كلام العلماء حوله .
فما ذكر عن حال هذا الصائم الذي يجالس من يشرب الخمر بحجة أنه ليرد عليهم ويباينهم لم يكن مانعاً من إقامة الحد عليه تعزيراً له وتأديباً حتى قال عمر بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ-: ينهى عن مجالستهم فإن لم ينته ألحق بهم.
وهذا حال المأربي وأضرابه يجلسون على موائد أهل البدع والضلال، ويضاحكونهم، وينامون عندهم –كما كان يفعل المأربيّ مع رمضان التكفيري حيث كان يأتي إليه خلسة وينام عنده!- فإذا أنكر عليهم، وتكلم الناس فيهم أتوا بالأعذار الكاذبة زاعمين النصيحة وإقامة الحجة وإبراء الذمة!!
فتباً للكذبة الخونة الغشاشين، الذين يأتون إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لتغطية أفعالهم الشنيعة والمنكرة بالتحريف والتزوير أو بتَنْزِيلها على أحوال يعلم الله أنهم كاذبون في دعواهم، ملبسون في أقوالهم وأفعالهم .
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: ((أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)).والله المستعان.
رابعاً: عدم الأخذ بدليل لوجود معارض راجح ليس من رد الحجة في شيء.
إن الناظر في الكتاب والسنة وما عليه أهل الإجماع يجد أن كثيرا من الأدلة الشرعية فيها شيء من التعارض والإشكال على سامعها وهذا له أسباب منها: وقوع النسخ في بعض الأدلة أو الخصوصية أو حمل بعض الأدلة على حال وبعضها الآخر على حال،أو يكون الدليل عاماً والآخر يخصصه، أو مطلقاً والآخر يقيده، أو يكون منطوقاً والآخر مفهوم مخالفة، أو أن يكون المعارض ضعيفاً أو موضوعاً أو لا أصل له، أو أن يكون الخلاف متوهما لا أصل له.
وقد ألف جماعة من العلماء في مختلف الحديث ومشكله ككتاب: "اختلاف الحديث" للشافعي، و"تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة، و"تهذيب الآثار" لابن جرير الطبري، و"شرح مشكل الآثار" للطحاوي وغير ذلك من الكتب.
قال ابن جماعة في المنهل الروي(ص/60): "النوع الثامن والعشرون: مختلف الحديث، وهو أن يوجد حديثان متضادان في المعنى في الظاهر فيجمع أو يرجح أحدهما.
وهو فن مهم تضطر إليه جميع طوائف العلماء وإنما يكمل للقيام به الأئمة من أهل الحديث والفقه والأصول الغواصون على المعاني .
وقد صنف الشافعي فيه كتابه المعروف به ولم يقصد استيعابه بل ذكر جملة تنبه العارف على طريق ذلك، ثم صنف فيه ابن قتيبة، وأحسن في بعض .
ومن جمع الأوصاف المذكورة لم يشكل عليه شيء من ذلك قال ابن خزيمة: لا أعرف حديثين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأتني لأؤلف بينهما .
والمختلف قسمان: أحدهما: يمكن الجمع بينهما فيتعين ويجب العمل بهما؛ كحديث: ((لا عدوى..)) وحديث: ((لا يورد ممرض على مصح)).
والثاني: لا يمكن الجمع بينهما؛فإن علمنا أحدهما ناسخاً قدمناه، وإلا عملنا بالراجح منهما .
ووجوه الترجيح خمسون جمعها الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ له".
وأوصلها الحافظ العراقي إلى مائة وجه وقسمها السيوطي تقسيما حسنا فانظر: تدريب الراوي(2/196-202) .
فمن رجح بين دليلين متعارضين لا يتهم برد حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا بالاعتراض على الشريعة إلا إن كان ظاهر كلامه أو كان الحامل لرده الهوى كما هو شأن أهل البدع والضلال.
وقال الحافظ ابن حجر في النخبة(ص/229): "ثم المقبول إن سلم من المعارضة فهو المحكم وإن عورض بمثله فان أمكن الجمع بغير تعسف فهو مختلف الحديث وإن لم يمكن الجمع أو ثبت المتأخر عرف بالتاريخ فهو ناسخ والآخر المنسوخ وإلا فالترجيح ثم التوقف".
فمن رجح بين دليلين متعارضين لا يتهم برد حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا بالاعتراض على الشريعة إلا إن كان ظاهر كلامه أو كان الحامل لرده الهوى كما هو شأن أهل البدع والضلال.
بعد المقدمة السابقة أذكر كلام الشيخ الإمام ربيع المدخلي -حَفِظَهُ اللهُ- الذي زعم المأربي -عامله الله بعدله- وأذنابه أن فيه اعتراضا وردا للاحتجاج بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
## احتج المأربي على جواز زيارة أضل أهل الأرض –لحاجة شرعية على حد زعم المأربيّ- بما نسبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- من إجابته دعوة اليهودية في خيبر وقد سبق نقل كلامه .
## فاعترض عليه الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- بقوله: "نعم أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوتها لأن الله أباح طعام أهل الكتاب، ثم انظر ماذا عملت اليهودية الخبيثة .
وقد يفعل أهل الضلال والبدع بأهل السنة ما هو شر من هذا، ألا وهو إفساد عقيدة ودين من يجالسهم ويخالطهم ألا تعلم أن رسول الله حذر منهم في غير ما حديث ألا تعلم أن أئمة السلف حذروا منهم وكان كثير منهم على رسوخهم في العلم لا يجالسونهم ولا يستمعون إلى كلامهم كالإمامين ابن سيرين وأيوب السختياني وغيرهما، ألا تعلم أن ضياع كثير من المسلمين والمنتسبين إلى المنهج السلفي سببه مخالطة وزيارات أهل الأهواء والباطل، وفي التاريخ أمثلة لتأثر بعض العلماء ببعض من خالطوهم وأظنك تعرف منهم عبدالرزاق الصنعاني وأبا ذر الهروي والبيهقي وابن عقيل وفي هذا العصر عندك في اليمن نماذج من الأذكياء ضاعوا بسبب مخالطتهم لأهل الفتن والسعيد من وعظ بغيره."
فماذا كان موقف المأربي وأذنابه وفهمهم لهذا الكلام؟!
قال ذاك المقلد وأقره المأربي: "ماذا يسمى هذا يا شيخنا الكريم؟ هل نسميه ردا للاحتجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح؟ أم نسميه استدراكا على إمام المرسلين وخيرة الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم؟ أم نسميه طعنا في فهمه صلى الله عليه وسلم ومعرفته بضرر أهل الضلال والزيغ وخطورة مجالستهم فهو لم يدرك ما أدركناه فكان السم جزاء لزيارته المخالفة للمنهج –وحاشاه-؟ ثلاثة أحلاها مر! وأفضلها حنظل!"
فالجواب على كلام هذا السمج ومقره مصطفى المأربي البليد من وجوه:
الوجه الأول: أن كلام الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- ليس فيه أدنى اعتراض على فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل نصَّ -حفظه الله- على محمل صحيح يحمل عليه إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة اليهودية –إن صح ولا يصح كما سبق بيانه- وهو قوله -حفظه الله-: "لأن الله أباح طعام أهل الكتاب".
ومعنى كلامه -حَفِظَهُ اللهُ-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يبين لعموم الناس حل طعام أهل الكتاب، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رهن درعه عند يهودي مع إمكانه أن يشتري من عند مسلم ويرهنه درعه.
وفي هذا إقرار من الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- وتقرير لإرادة الله الشرعية وهي تبين نبيه -صلى الله عليه وسلم- لأمته حل طعام أهل الكتاب.
ثم نظر الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- لإرادة الله الكونية التي أعقبت إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لدعوة اليهودية –إن صح ولا يصح كما سبق وإنما أهدته شاة مسمومة- وهو غدرها بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، ومحاولة أذيتهم وإفنائهم والفتك بهم .
وما حصل بالإرادة الكونية قد نبه عليه بالأدلة الشرعية التي سبق ذكرها في بيان وجوب هجر أهل البدع وعدم مجالستهم ومخالطتهم .
ولكن لوجود غرض شرعي يتعلق بالتشريع قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- هدية المشركين، وأجاب دعوتها –إن صح ولا يصح-.
وهذا الغرض التشريعي لا يشارك فيه النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أحدٌ لا المأربيّ ولا أشباهه من أهل المنهج الواسع الأفيح ولا غيرهم.
ثم إن هناك أمور يحمل عليها قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهدية اليهودية تقطع الطريق على المأربي سبق بيانها.
الوجه الثاني: أن الشيخ ربيعاً -حَفِظَهُ اللهُ- نبه إلى أمر مهم جداً غفل عنه المأربيّ بل أعرض عنه وتولى وهو أن الضرر بأهل البدع أعظم وأشد من الضرر الذي حصل بسبب غدر اليهودية فهي أرادت فساد الأبدان، وأهل البدع يفسدون الأديان وضرب الشيخ ربيع -حَفِظَهُ اللهُ- أمثلة على ذلك من تاريخ المسلمين.
ومن المعلوم أن أهل البدع أشد خطراً من اليهود والنصارى لإظهارهم البدعة والخرافة بمظهر الإسلام الحق .
فلا يصح قياس المأربي إجابة دعوة اليهودية-إن صح ولا يصح- على جواز إجابة دعوة رؤوس البدع والضلال .
فهو قياس فاسد الاعتبار.
الوجه الثالث: في جواب القطبي المدعو "يزن" الذي استعمله المأربيّ في هجومه على أهل السنة تصحيح لحادثة لا أصل لها!!
فقد قال ذاك القطبي–وأقره مصطفى المأربيّ-: "هل نسميه ردا للاحتجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح؟"!!
ومثله قول المكي الضال صاحب "فتح البر بإبطال الكر": "وهو رد الحديث الصحيح"!!
وهو لا أصل له كما سبق بيانه .
الوجه الرابع: في كلام القطبي المدعو "يزن" إشارة إلى تكفير الشيخ ربيع -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-، وكذلك في كلام المكي الضال.
وهذا ليس غريباً على "يزن" القطبي ، ولا على مقره وصاحبه ومستعمله المأربيّ.
وهذه الإشارة في قوله –أخزاه الله-: "هل نسميه ردا للاحتجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح؟ أم نسميه استدراكا على إمام المرسلين وخيرة الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم؟ أم نسميه طعنا في فهمه صلى الله عليه وسلم ومعرفته بضرر أهل الضلال والزيغ وخطورة مجالستهم فهو لم يدرك ما أدركناه فكان السم جزاء لزيارته المخالفة للمنهج _ وحاشاه _؟".
وخاصة عبارته الثالثة التي يعرض فيها بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه خالف المنهج!! أخزى الله ذلك القطبي ومقرره الغوي الضال المأربي.
وبهذا أكون انتهيت من دحض أباطيل المأربي وبيان كذبه وافترائه على الشيخ ربيع -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- فيما يتعلق بالله جل جلاله، وفيما يتعلق بالأنبياء، وفيما يتعلق بالملائكة المكرمين.
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه: أبو عمر أسامة العتيبي