قصص العجائب المنتشرة في المنتديات
السؤال: ما رأي فضيلتكم في القصص التي تطرح في المنتديات للعبرة ، كمثل :القصة التي تروى بأن فتاة ماتت ، وبعد موتها سمع صوت بكاء في الغرفة ، وعندما أتوا بشيخ عالم بكى ، وقال لهم هذه الملائكة تبكي .وبعض القصص التي دائما تروِي رؤية الملائكة عليهم السلام ، أو حمايتهم لشخص ما . وكذلك القصص عن قبر يشتعل نارا ، أو جنازة ترفض أن تدخل المسجد ليصلَّى عليها .أعتذر عن عدم التحديد ، ولكن - كما تعلمون فضيلتكم - بأن المنتديات تضج بمثل هذه القصص ، ونحن لا نعلم صدقها من عدمه .أرجو نشر الفتوى في الموقع ، وذلك للفائدة .
الجواب :الحمد لله
أولا :
آيات الله في الكون كثيرة ، وهو سبحانه المدبر والمصرف للأمور ، له الخلق والأمر ،وله الحكمة البالغة في تقلب الأيام وتصرف الأحوال .
ومن حِكَمه الظاهرة النذارة والبشارة ، النذارة لمن حادَّ الله ورسوله من غضبهومقته ، والبشارة للمؤمنين برحمته وفضله ، وما بعث الرسل إلا سبيلا لتحقيق هذاالمقصد العظيم ، ثم بعد ختمهم بخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم بقي ما يرسلهالله سبحانه وتعالى من آيات يذكر بها من غفل ، ويهدي بها من ضل عن سواء السبيل .
يقول الله تعالى :
( سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَلَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍشَهِيدٌ ) فصلت/53.
ولما حكى الله عز وجل قصة أهل الكهف ، بدأها بالتذكير بهذا الأمر فقال :
( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَاعَجَبًا ) الكهف/9 .
فقد جعل الله حياتهم بعد النوم الطويل آية لمن حولهم من الناس ، وكرامة لهم يُذكرونبها بين الخلق ، ولم يزل علماء أهل السنة يقررون جواز استمرار الكرامات على أيديأولياء الله من عباده ، واستمرار وقوع الآيات في خلق الله لحكم يعلمها سبحانه ، ولايستبعدون في مقتضى الشرع شيئا من ذلك .
ثانيا :
غير أن الواجب على المسلم النظر بأصول الشرع ، ومقتضى العقل ، فيما يبلغه من قصصالآيات التي تُحكى وتنقل بين الناس ، إذ الأصل أن العقل المسلم قد اعتاد الاستدلالالبرهاني ، والاستنتاج العقلي ، لِما يقرؤه في القرآن الكريم مِن دعوةٍ إلى تحكيمالعقل وطلب البرهان ، فلا يجوز تجاوز هذا السبيل الذي أراده الله للعقل المسلم ،ولا ينبغي تغليب النظرة الأولى – حول آيات الله وكرامات الأولياء – على هذه النظرةالفاحصة المتأملة .
يقول ابن خلدون في "المقدمة" (ص/9-10) :
" وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائعلاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا ، ولم يعرضوها على أصولها ، ولاقاسوها بأشباهها ، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيمالنظر والبصيرة في الأخبار ، فضلوا عن الحق ، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط "انتهى باختصار .
فيجب التنبه إلى أمرين في كل قصة تحكى وتنقل :
الأمر الأول : مصدر القصة والحكاية ، وهل هو مصدر موثوق أو مشكوك فيه .
الأمر الثاني : المحتوى الذي تضمه وتحكيه ، فقد يكون مخالفا لمقتضى الشرع أو العقل، فلا يجوز التصديق به حينئذ ، بل يجب نقده وبيان خطئه وضرورة مراجعته .
فإذا استعمل المسلم هذه الموازين ، استطاع أن يميز بين القصص الثابت والقصص المخترعالكاذب ، وخلال ذلك لا يجوز أن يذيع في الناس تلك الحكايات مقررا لها ، ويحذر أنيكون سببا لنشر الشائعات والأباطيل ، فيحفظ على نفسه وعلى المسلمين عقولهم منالاستخفاف والتيه والضلال .
ويكفي المسلم ، ليحذر من تعريض نفسه ، وتعريض غيره لهذه المهواة من الغرر بالدينوالعقل ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْيُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ) رواه مسلم برقم (5) .
قال النووي رحمه الله في شرحه للحديث : " وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث وَالْآثَارالَّتِي فِي الْبَاب فَفِيهَا الزَّجْر عَنْ التَّحْدِيث بِكُلِّ مَا سَمِعَالْإِنْسَان فَإِنَّهُ يَسْمَع فِي الْعَادَة الصِّدْق وَالْكَذِبفَإِذَاحَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ "انتهى . "شرح مسلم للنووي" .
وقال ابن الجوزي رحمه الله في "تلبيس إبليس" (1/151) : " كان الوعاظ في قديم الزمانعلماء فقهاء وقد حضر مجلس عبيد بن عمير عبد الله بن عمر رضي الله عنه وكان عمر بنعبد العزيز يحضر مجلس القاص ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال فبعد عن الحضوروعندهم المميزون من الناس وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلواعلى القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن " انتهى .
ثالثا :
أما عن الحكايات الواردة في السؤال ، فنحن لا نعلم تفاصيلها ، ولم نبحث في أعيانها، إذ لم يسم السائل شيئا معينا منها ، ولكننا نقرر قضيتين مهمتين في نقد مثل هذهالقصص :
1- الأصل في عذاب القبر أنه مِن عالم الغيب الذي لا يطلع عليه البشر إلا الأنبياء ،يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( َلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُاللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ )رواه مسلم (2867) ، ولو سمعه الناس لفقد معنى الغيب الذي هومحل الإيمان واليقين ، ولأصبح من عالم الشهادة الذي تقوم به الحجة على الجميع ، فلاتصدق الحكايات التي تذكر سماع أصوات الموتى في قبورهم حقيقة ، وغالبا ما تكونأصواتا متوهمة ، أو صارخا يصرخ بها ، وإن نقلت بعض القصص المسندة في ذلك فلا يكونالمراد بها أصوات أهل القبور الحقيقية ، فقد روى مسلم في صحيحه (2867) عَنْ زَيْدِبْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه ، قَالَ : ( بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُمَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْخَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ، فَقَالَ : رَجُلٌ أَنَا . قَالَ : فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ . قَالَ : مَاتُوا فِيالْإِشْرَاكِ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا ،فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِالْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ) .
2- رؤية البشر للملائكة في الدنيا على صورتهم الحقيقية غير ممكنة ، لأنها مخلوقة مننور ، والعين البشرية لا تقوى عليها ، ولو رآهم الناس لما عاد ثمة فرق بين مؤمنوكافر ، لأن الملائكة من عالم الغيب الذي يفصل الإيمان به بين الكفر والإيمان ، وقدقرر العلماء ذلك كما سبق بيانه في موقعنا في جواب السؤال رقم : (70364)، (96661) .
والخلاصة أن الواجب على المسلمين جميعا أن يحصلوا المزيد من الوعي ، والمزيد منالفهم والعلم ، وألا يعودوا بأمتهم ومجتمعاتهم إلى عصور الخرافة والضلالة ، بليتقدموا بها إلى عصور العلم والمعرفة والحقيقة .
والله أعلم .
اسم المفتي: محمد صالح المنجد
التصنيف: الآداب و الرقائق