الإسلام سؤال وجواب
رد الشيخ الشعيبى على مرجئة العصر بقولهم عدم تكفير المبدل إلا بالجحود أو بالأستحلال
أملاه؛ أ. حمود بن عقلاء الشعيبي
الأستاذ - سابقا - بكلية الشريعة وأصول الدين
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
فرع القصيم
20/4/1421 هـ
رد الشيخ العلامة حمود الشعيبى على مرجئة العصر فى قولهم بعدم تكفير المبدل للشرع بالقوانين الوضعية إلا بالجحود أو بالأستحلال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد اطلعت على مجموع مقالات خالد العنبري، فاتضح لي من قراءتي لهذه المقالات وبعض كتبه أنه مرجئ محض من المرجئة الخلّص الذين ينتمون إلى مدرسة الجهم بن صفوان في الإرجاء.
تلك المدرسة التي من أصولها؛ أن أحداً لا يكفر إلا بالجحود والاستحلال، أما من عرف الله وأقر به؛ فإنه لا يكفر ولا يخرج من الملة، وهذه الضلالة انتشرت في هذا العصر، وما كان هذا الانتشار إلا بسبب هذا وأمثاله من مرجئة العصر، فضلوا وأضلوا.
ولقد اجترأ خالد العنبري على الكذب والافتراءات على علماء الأمة وأئمتها الذين يرون كفر من يحكّم القوانين الوضعية.
من هؤلاء الأئمة شيخنا الشيخ الإمام المجاهد محمد بن إبراهيم آل الشيخ يرحمه الله، فقد موّه العنبري وحرف وتصرف في كلام شيخنا وكذب عليه عدة مرات - كما سوف يتضح بعد قليل - وأراد أن يوهم الناس أن الشيخ؛ يرى أن الحكم بالقوانين الوضعية فيه تفصيل، وأنه لا يكفر إلاّ إذا جحد واعتقد واستحل فقط، وإن حكم بالقوانين الوضعية من غير ذلك؛ فهو غير كافر.
* * *
أما افتراؤه فهو كالتالي...
الافتراء الأول؛
ذكر العنبري في كتابه "الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير" [ص: 131] عن رسالة الشيخ محمد بن إبراهيم "رسالة تحكيم القوانين"، قال: (إن في هذه الرسالة ما يدل دلالة واضحة على التفصيل)، ويقصد بـ "التفصيل" هو ما يذهب إليه العنبري؛ أن الحكم بالقوانين الوضعية لا يكفر صاحبه إلا بالجحود والاستحلال.
والنص الذي نقله كالتالي: (فانظروا كيف سجل الله تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً - إما كفر عملي وإما اعتقادي - وما جاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره، يدل؛ على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقادي ناقل عن الملة وإما كفر عملي لا ينقل عن الملة...) انتهى ما نقله بحروفه.
وترك ما نقله وكتبه الشيخ في القوانين الوضعية بعد هذا، حيث قال الشيخ: (أما الأول وهو كفر الاعتقاد، فهو أنواع؛
أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله.
الثاني: ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقاً، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه وأتم وأشمل.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله فضلاً عن كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله.
الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ورسوله ومضاهاة بالمحاكم الشرعية - إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأجيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات - فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك...).
إلى أن قال: (فأي كفر فوق هذا الكفر وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟) انتهى.
فانظر إلى العنبري يريد بنقله السابق أن يوحي إليك؛ أن الشيخ لا يكفر بالقوانين الوضعية، مع أنه هنا قال فيها: (وأي كفر فوق هذا الكفر؟)، أي الحكم بالقوانين الوضعية.
* * *
الافتراء الثاني؛
أن العنبري قال في مقالاته - المقال الأول - قال: (فقد ألفيت كلام الشيخ - أي محمد بن إبراهيم - الآخر في فتاواه [1/80]، إذ يقول في كلام أوضح من أن يوضح مؤرخ في 9/1/1385 هـ، أي بعد طباعة "رسالة تحكيم القوانين" بخمس سنين).
وسوف ننقل كلام الشيخ محمد بعد قليل، لكن المقصود؛ أنه هنا أراد أن يُقنع القارئ أن الشيخ تراجع عن فتواه في القوانين الوضعية، ولذا ذكر التاريخ بعده بخمس سنوات، فالمتأخر ناسخ ومبطل للقول الأول، في حين أنه في نفس المقال قال: (وأنا لم أقل أن الشيخ تراجع)، وبعده بأسطر يقول؛ أن الشيخ تراجع! ليوهم أنه فعلاً تراجع فيدعي عدم القول بالتراجع، ثم يكذب على الشيخ محمد بأنه تراجع بعد رسالته في تحكيم القوانين بخمس سنين.
* * *
الافتراء الثالث؛
أنه لما نقل التراجع الذي يزعمه في فتاوى الشيخ محمد [1/80]، قال العنبري نص التراجع هو: (وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله من تحكيم شريعته والتقيد بها ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي من حكم بها أو حاكم إليها معتقداً صحة ذلك وجوازه؛ فهو كافر، الكفر الناقل عن الملة، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر العملي، الذي لا ينقل عن الملة).
قال العنبري: (فهذا التفصيل المبين من الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله هو الذي بنيت عليه كتابي، وواجهت به المكفرين للحاكم بإطلاق) اهـ.
فيجاب عن هذا الافتراء بأجوبة:
1) كيف أن الشيخ يتراجع ولا يعلم ولا يشتهر تراجعه بين طلابه وبين الناس؟!
2) ولو كان هناك تراجع لما خفي على الشيخ محمد بن عبد الرحمن القاسم - جامع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم وكتبه - على ذلك، بل إنه ذكر "رسالة تحكيم القوانين" في أجزاء لاحقة من الفتاوى.
بل إن تلميذه الجامع للفتاوى نقل تقرير للشيخ محمد في [12/280]، قال الشيخ محمد: (والقوانين كفر ناقل عن الملة، اعتقاد أنها حاكمة وسائغة، وبعضهم يراها أعظم).
ثم قال: (أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع؛ فهو كفر، وإن قالوا؛ أخطأنا وحكم الشرع أعدل، ففرق بين المقرر والمثبت، والمرجع جعلوه هو المرجع، فهذا كفر ناقل عن الملة).
ونقل القاسم أيضاً [12/284]، تحت عنوان "تحكيم القوانين من الكفر الأكبر"، ثم نقل نفس "رسالة تحكيم القوانين"، فلو كان هناك تراجع لبيّنه أو حذف هذه الرسالة، ولم يجعلها في أجزاء بعد الجزء المزعوم أن فيه تراجع.
3) كيف يكون الشيخ تراجع عن فتوى عامة ظهرت وانتشرت، فيتراجع عنها في رسالة خاصة بعثها إلى جمعية خاصة؟! كان الأولى أن يتراجع في رسالة عامة، فإن النص الذي ادعى فيه العنبري أنه تراجع هو ضمن رسالة جوابية خاصة كتبها إلى "جمعية العلماء المركزية في دلهي"، وقد أثنى على الجمعية وأنها تهدف للإصلاح.
4) ثم "رسالة تحكيم القوانين" طبعت عدة مرات، فلو كان هناك تراجع لما أعيد طبعها.
5) أن الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله - وهو من طلاب الشيخ - أنكر على من قال أن الشيخ محمد بن إبراهيم تراجع، كما في تعقيبه على كلام العنبري، وهو منقول في مقال العنبري الأول.
6) وكذا "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" في فتواها في تاريخ [24/10/1420 هـ] ضد كتاب العنبري، قالت؛ أن في كتاب العنبري الحكم بغير من أنزل الله فيه الكذب على أهل العلم، وذلك في نسبته للعلامة الشيخ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ما لم يقله.
نعود الآن إلى النص الذي ادعى فيه العنبري التراجع، ونذكر مناسبته ونصه كاملاً، وهي موجودة في فتاوى الشيخ محمد [1/78]، وهي رسالة جوابية أرسلها السكرتير العام لـ "جمعية العلماء المركزية" / دلهي، حيث قرر المجلس التنفيذي للجمعية أن يتصل بالهيئات الإسلامية ليستنير بآراء رجالها وما وضعوه من قوانين في سبيل الإصلاح الديني والاجتماعي الذي يتلاءم مع التعاليم والأخلاق الإسلامية، تمهيداً لإصدار قوانين إصلاحية شاملة للنهوض بالمسلمين في الهند.
ثم سألوا الشيخ محمد عن أسئلة فقهية لكي يستنيروا برأيه فيها، فأجاب عن المسائل الفقهية، لكن جعل مقدمة قبلها، فقال قبل الشروع في الجواب: (أحب أن أقدم مقدمة مختصرة مهمة؛ وهي أنه مما يسرنا ويسر كل مسلم غيور على دينه أن يتكون من الجمعيات العامة التي تهدف إلى إصلاح الأوضاع والتمسك بأصل الدين وتعاليمه الشريفة ومحاربة كل ما خالف الشريعة الإسلامية من البدع والخرافات والدجل، وكذلك ما هو أهم من ذلك ما يدخله الملحدون والزنادقة والمستشرقون وغيرهم في أفكار بعض المسلمين في تشكيكهم في أصل دينهم وتضليلهم عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وشريعته وتحكيم القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، وأهم من ذلك معرفة أصل التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتحقيقه علماً وعملاً ومحاربة ما يخالفه من الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة أو من أنواع الشرك الأصغر، وهذا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله من تحكيم شريعته والتقيد بها ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من حكم بها أو حاكم إليها معتقداً صحة ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقله عن الملة) انتهى بحروفه.
فالشيخ محمد تكلم مرتين عن القوانين، في المرة الأولى قال: (القوانين)، وأضاف إليها: (الوضعية)، وجعلها مما يدخله الملحدون والزنادقة والمستشرقون على المسلمين، فجعل القوانين الوضعية من عمل الملاحدة والزنادقة، وحث الجمعية على محاربته حماية للمسلمين، وجعل ذكر القوانين الوضعية هنا من باب تحقيق الألوهية، ومن باب تحقيق معنى لا إله إلا الله.
أما المرة الثانية التي نقل فيها القوانين؛ فهي في معنى تحقيق أن محمداً رسول الله، والملاحظة أنه لم يضف كلمة وضعية، إنما أضاف معها أشياء أخرى مثل القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، فأراد بالقوانين والأوضاع؛ هي البدع التي يضعها المبتدعة التي تناقض تحقيق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل في هذه القوانين والأوضاع تفصيلاً، لأنها من باب البدع.
فالقوانين ذكرها مرتين، مرة في معنى تحقيق لا إله إلا الله، ومره في تحقيق معنى محمد رسول الله، لذا فهما في تحقيقين فيختلف معناهما، وإلا اقتضى التكرار، ثم الأُولى أضاف إليها "الوضعية" والثانية مجردة، إنما أضاف إليها "الأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان"، وهذه فيها تفصيل.
وعلى كل حال؛ فهذا التماس وتفسير مبني على حسن الظن بالشيخ محمد، ومبني أيضاً على فتواه في القوانين الوضعيةـ وكوننا نجعل كلامه يفسر بعضه بعضاً ويؤيد بعضه بعضاً؛ أولى من ضرب كلامه بعضه ببعض، وادعاء تراجع وتناقض واختلاف.
* * *
افتراؤه على شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
نقل العنبري في كتابه "الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير"، في صفحة [70 – 71]، وأراد أن يوهم أن الشيخ الشنقيطي؛ لا يرى أن القوانين الوضعية كفر، حيث نقل كلام شيخنا الشنقيطي، فهو من العلماء الذين ادعى العنبري أنهم لا يكفّرون بالقوانين الوضعية إلا بالجحود.
ونقْله الذي نقله عن الشنقيطي: (واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث؛ أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منهما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى، {ومن لم يحكم بما أنزل الله}؛ معارضة للرسل وإبطالاً لأحكام الله فظلمه وفسقه غير مخرج من الملة) اهـ.
مع أنه هنا لم يتكلم عن القوانين الوضعية!
وترك العنبري كلام شيخنا الشنقيطي الواضح في القوانين الوضعية، حيث قال في تفسيره في سوره الكهف عن آية {ولا يشرك في حكمه أحداً}، فقال: (وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور؛ أن الذين يتتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه، مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم، إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم).
ثم قال الشنقيطي مباشرة: (تنبيه؛ اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الإداري الذي لا يقتضي ذلك...).
ثم قال: (أما النظام الوضعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض؛ فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض).
ثم ذكر بعض قوانينهم الوضعية في الميراث والزواج والحدود وإنها مخالفة للشرع، ثم قال: (فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم؛ كفر بخالق السماوات والأرض) اهـ.
فلماذا يترك هذا الكلام الصريح في القوانين الوضعية إلى غيره؟!
* * *
افتراؤه على الإمام ابن كثير رحمه الله:
حيث ينقل عنه نصوصاً يوهم بها أنه مع من لم يكفّر بالقوانين الوضعية، حيث نقل عنه صفحة [69] ضمن من ادعى أنهم لا يكفرون بالقوانين، مع أن ابن كثير له كلام صريح في "ياسق" التتار - وهو أنه عبارة عن قوانين وضعية - وكفرهم بذلك، بل نقل الإجماع عليه.
فقال رحمه الله عند تفسيره لآية {أفحكم الجاهلية يبغون} [سورة المائدة]، قال: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم؛ فهو كافر يجب قتله...).
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" [13/118 – 119]: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين) اهـ.
الأمر الآخر؛ أن العنبري ينقل كلام علماء لم يعاصروا نازلة تحكيم القوانين الوضعية، إنما ماتوا قبلها، فينقل كلامهم، يوهم أنهم على مذهبه في أنه لا يكفر بالحكم بالقوانين إلا إذا جحد واستحل.
وهذه النازلة التي نزلت في المسلمين - وهي الحكم بالقوانين الوضعية - لم تقع إلا في عصر التتار وعصر ابن تيمية وابن كثير، فلا ينقل من كلام هذين الإمامين ما يدل على كفر من تحاكم إلى الياسق.
بل إنه في كتابه المذكور [صفحة: 138] ذكر؛ أن تكفير ابن كثير وابن تيمية للتتار لأن لهم نواقض أخرى غير "الياسق"! مع أن كلام ابن كثير واضح أن الحكم علقه بـ "الياسق".
ثم وقعت هذه النازلة - وهي تحكيم القوانين الغربية - مرة أخرى أيام حكم الاستعمار العسكري على العالم الإسلامي، وأحدثوا المحاكم القانونية، فتكلم العلماء المعاصرين لهذه النازلة، كالشيخ أحمد شاكر.
حيث قال في تحقيقه لتفسير ابن كثير عن آية {أفحكم الجاهلية يبغون} [4/174]، فقال: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية؛ واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد فيمن ينتسب للإسلام كائناً من كان في العمل بها) اهـ.
وكذا الشيخ محمود شاكر - الذي حاول العنبري في كتابه [ص: 130] أن يوهم أنه لا يكفر بالقوانين الوضعية إلا الجاحد -
قال الشيخ محمود شاكر - وقد نقل كلامه أخوه أحمد شاكر في تفسير ابن كثير - قال محمود شاكر: (وإذن فلم يكن سؤالهم كما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل؛ إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه) اهـ.
ومثل شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم؛ حيث أفتى في القوانين الوضعية، ومثل شيخنا محمد الأمين الشنقيطي، كل هؤلاء وغيرهم ممن عاصر القوانين الوضعية، كان الأولى أن يأخذ كلامهم وفتاويهم في القوانين، إلا أنه يأتي بكلامه الآخر في غير القوانين؛ ليوهم أنهم على مذهبه واعتقاده أنه لا يكفر من حكم بالقوانين إلا بالاستحلال والجحود، فهي كبيرة من كبائر الذنوب.
بل أن العنبري يتجرأ أكثر، فينقل الإجماع على أنه لا يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بالقوانين والتشريع العام؛ إلا المستحل، علماً بأن العنبري لا يفرق بين الحكم بغير ما أنزل الله؛ هوى أو شهوة أو بقوانين وضعية، كلاهما عنده واحد، وإذا نقل الإجماع فإنما يقصد جميع ذلك ولا يفرق.
أما علماء الإسلام؛ ففرقوا، فإذا ذكروا الحكم بغير ما أنزل الله هنا فصلوا بين من يفعله هوى أو شهوة، أما إذا تكلموا عن القوانين الوضعية؛ فلا يفصلون بين المستحل والجاحد أو من فعله هوى.
كما سبق في تقرير الشيخ محمد بن إبراهيم، فقال: (أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع؛ فهو كفر، وإن قالوا؛ أخطأنا وحكم الشرع أعدل، ففرق بين المقرر والمثبت، والمرجع جعلوه هو المرجع، فهذا كفر ناقل عن الملة...).
وكذا فيما نقلنا عن ابن كثير؛ كَفَّرَ بمجرد التحاكم - فارجع إلى قوله - ومثله شيخنا الشنقيطي وابنا شاكر وغيرهم، كلهم لا يفصِّلون في القوانين الوضعية.
هذا ما تيسر في الرد عليه على عجالة وشغل.
ونسأل الله أن يهدي الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يوفق العنبري وأمثاله من مرجئة العصر إلى الرجوع إلى مذهب سلف الأمة، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
---------------------------------------
فتوى الشيخ العلامة حمود بن عقلاء الشعيبي في تكفير الحكام والمشرعين للقوانين الوضعيه؟
بسم الله الرحمن الرحيم
فتوى الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي في تكفير الحكّام والمشرعين للقوانين الوضعية
فضيلة شيخنا الشيخ حمود بن عبدالله بن عقلاء الشعيبي حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد
فقد كثر في هذا العصر اعتماد الحكام في العالم الإسلامي والعربي وغيرهم على تحكيم القوانين الوضعية بدلا من تحكيم شرع الله فما هو الحكم على هؤلاء الحكام ؟
نرجوا أن يكون الجواب مدعما بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال العلماء .
الجواب ..
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .......
فإن الله سبحانه وتعالى عندما بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين القويم الذي أخرج البشرية من الظلمات إلى النور ، وكان الناس إذ ذاك يهيمون في ظلمات الجهل والضلال ، غارقين في بحر الخرافات والتقاليد البالية ، التي ورثوها عن آبائهم وأسلافهم في جميع أمورهم ، في المعتقدات والعبادات والتقاضي والمحاكمات ، فكانت معتقداتهم وعباداتهم قائمة على الشرك بالله سبحانه وتعالى ، فيجعلون له شركاء وأندادا من شجر وحجر وملائكة وجن وبشر وغير ذلك ، يتقربون إليهم بشتى أنواع القرب التي لا يجوز صرفها لغير الله ، كالذبح والنذر وغير ذلك .
أما التقاضي والمحاكمات فهي لا تقل ضلالا وفسادا عن طريقتهم في العبادة ، إذ كانوا ينصبون الطواغيت والكهان وعرافين ، يتولون القضاء بين الناس في جميع ما ينشأ بينهم من خلاف وخصومة في الأموال والدماء والفروج وغير ذلك ، يقيمون في كل حي واحدا من هؤلاء الطواغيت ، وإذا صدر الحكم فهو نافذ لا يقبل النقض ولا التعقيب ، على الرغم من كونه جائرا ظالما ، فلما بعث الله محمدا صلى لله عليه وسلم بهذه الشريعة المطهرة أبطل هذه العادات ، والتقاليد وقضى عليها ، وقصر العبادة على الله سبحانه وتعالى ، وقصر التقاضي والتحاكم على شرع الله ، قال تعالى ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) الآية ، وقوله ( إن الحكم إلا لله ) قصر الحكم على شرع الله ، و( ألا تعبدوا إلا إياه ) : قصر العبادة لله سبحانه وتعالى على عبادته سبحانه وتعالى بطريقة هي أبلغ طرق القصر وهي النفي والاستثناء .
ثم إن المستقرئ لكتاب الله يجد في الآيات الكثيرة التي تنص على وجوب التحاكم إلى ما أنزله الله من الشرع المطهر على نبيه
صلى الله عليه وسلم :
1 - قال تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، فهذه الآية الكريمة نص في كفر من عدل عن حكم الله ورسوله إلى غيره .
وقد حاول الجهلة من مرجئة العصر أن يصرفوا دلالة هذه الآية عن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله فقالوا : الآية نزلت في اليهود ، فلا يشملنا حكمها .
وهذا يدل على مدى جهلهم بالقواعد الأصولية التي وضعها علماء التفسير والحديث وأصول الفقه ، وهي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإذا نزل حكم على سبب معين فإنه لا يقتصر على سببه ، بل يتعداه ، فيشمل كل من يدخل تحت اللفظ ، و ( مَنْ ) في الآية صيغة عموم ، فلا يكون الحكم مقصورا على سببه إلا إذا اقترن به نص من الشرع يقصر الحكم على سببه ، كقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أحد الصحابة رضي الله عنه : يا رسول الله إنه كانت لي عناق أحب إلىّ من شاة فضحيت بها فهل تجزئني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك .
وقالوا أيضا (أي المرجئة ) قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن تفسير هذه الآية ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) فقال ابن عباس : كفر دون كفر ، وفي رواية : ليس الكفر الذي يذهبون إليه .
والجواب عن هذا أن نقول : هشام بن حجير راوي هذا الأثر عن طاووس عن ابن عباس متكلم فيه من قبل أئمة الحديث كالإمام أحمد و يحي بن معين وغيرهما ، وقد خالفه في هذه الرواية عن طاووس من هو أوثق منه وهو عبدالله بن طاووس ، وقد روى عن أبيه أن ابن عباس لما سئل عن تفسير هذه الآية قال : هي به كفر .
2 – قال تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .
هذه الآية نص في انتفاء الإيمان عمن لم يحكّم شرع الله ، لأن الله أقسم فيها على انتفاء الإيمان عن المرء حتى توجد منه غايات ثلاث :
أ – التحاكم إلى شرع الله .
ب – إلا يجد في نفسه حرجا في ذلك ، بل يرضى به .
ج _ أن يسلم لحكم الله ويرض به .
وكما حاول المرجئة صرف دلالة الآية السابقة عن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله ، فقد حاولوا أيضا صرف دلالة الآية عن انتفاء الإيمان ، فقالوا : إن النفي لكمال الإيمان ، لا لنفي حقيقته ، وما علم هؤلاء الجهلة أن الأصل في الكلام العربي الحقيقة ، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا اقترن به قرينة توجب صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ، فأي دليل وأي قرينة توجب صرف هذه الآية عن نفي حقيقة الإيمان إلى نفي كماله .
3 – قال تعالى ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) ، هذه الآية الكريمة نص في أن من يتحاكم إلى الطاغوت أو يحكمه فقد انتفى عنه الإيمان بدليل قوله تعالى (يزعمون أنهم آمنوا ) ، إذ لو كانوا مؤمنين حقا لما عبر عن ادعائهم الإيمان بالزعم ، فلما عبر بالزعم دل على انتفاء حقيقة الإيمان بالله ، كما أن في قوله تعالى ( وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) دليل أيضا على انتفاء حقيقة الإيمان عنهم ، ويتضح كفر من تحاكم إلى الطاغوت أو حكّمه بمعرفة سبب نزول هذه الآية ، وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول الآية أنها كانت بين رجل من اليهود وآخر من غير اليهود خصومة ، فقال اليهودي : نترافع إلى رسول الله ، وقال ا