الإشكال:يقال<إن الشخصية تكتسب>هل تعتبر هذا القول صحيحا؟
لما كان الإنسان ميالاً بالطبع إلى الحياة مع أمثاله فليس من الغريب أن يكون سلوكه مشبعا بالمكتسبات الاجتماعية مثقلاً بخيرات السنين فهو يكتسب اللغة والأخلاق والعلم و ينمي ملكاته العقلية وبالرغم من أنه وحيد في نوعه وفرد يتميز بالتميز في شخصيته و المقصود بالشخصية هو باختصار الوحدة الكلية والحركية المميزة لسلوك فرد ما شاعر بتميزه عن الغير ولكن السؤال المطروح:هل الشعور بهذا التميز هو من معطيات الولادة أم أنه نتيجة تطور تدريجي؟،أو بكلمة وجيزة هل الشخصية تكتسب؟.
ترى المدرسة الاجتماعية أن الإنسان عجينة في يد المجتمع يشكلها كيفما يشاء فالفرد مرآة عاكسة للمجتمع وفي هذا يقول هربرت الطفل صفحة بيضاء يكتب عليها المربي ما يشاء)،كذلك نجد الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن يكونه كما يشاء)،والشخصية لا تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج يقول ألبورت(لا يولد الطفل بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان بطبعه اجتماعي كما يقول بن خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي يقولإذا تكلم الضمير فينا فما هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر بالعادات والتقاليد والنظم و القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن الشعور بالذات يتكون بواسطة الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف ويذكرون على سبيل المثال حالة التوأم فلو فصلنا توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن الثاني فالاختلاف سوف يكون كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي تبحث عن طريقة كل منهما في التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكهما في الخصائص الوراثية،كذلك حالة إبراز المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض الخصائص التي لها ارتباط وثيق بالمجتمع.
لا ريب أن للمجتمع فضلا ودوراً كبيرا إلا أن متطلبات المجتمع لا تنسجم مع مقاصد الشخصية،لذا فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع الاجتماعية ما هي إلا شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية مستعارة)،كذلك إن تأثير المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان،فهو ليس عجينة أو كتلة عضوية حركية فهو يحمل عقلا يسمح له أن يختار ويتخذ من أنظمة المجتمع ما يتلاءم معه ويتوافق مع تفكيره.
ونظراً لما للوراثة من أهمية ذهب العلماء إلى اعتبار الخصائص الوراثية ملامح حقيقية للشخصية ومعنى هذا أن الشخصية تكتسب في حدود معطيات وراثية وما يثبت ذلك في اعتقادهم أن ثمة أطفالاً يولدون أذكياء في حين أن آخرين أغبياء والسبب في ذلك راجع إلى عوامل وراثية،ولقد تقرر لدى الباحثين في مجال الوراثة خاصة مندل ذلك أن المزاج ينتقل من الآباء إلى الأبناء وأن الاستعدادات التي يرثها الطفل ليست استعدادات وسطية حيث تنصهر خصائص كل من الأب والأم،ذلك أن خصائص كل من الأبوين تبقى متمايزة عن طريق كل من الأم فقط أو الأب فقط،على أن ما يرثه الطفل ليس تلك الخصائص التي تعلمها أبويه في حياتهم وإنما تلك القدرات الفيزيولوجية من لون البشرة ولون الشعر،فيما يتعلق بالتركيبة الفيزيولوجية الداخلية لها تأثير كبير في الطبع بول أحد الفيزيولوجيينإننا تحت رحمة غددنا الصماء)،وهو قول يؤيد ما ثبت لدى العلماء من ضعف أو كثرة الإفرازات الغددية الداخلية تفقد الجسم توازنه مما يجعل الشخصية في حالة غير مستقرة،فبالنسبة للغدة الدرقية التي قال عنها هوسكيترإننا ندين لغددنا الصماء بجزء غير يسير مما نحن عليه)،إن لها تأثير على النمو والعمليات الحيوية فإذا زاد إفرازها نشأ عن ذلك نشاط محسوس في الجهاز العصبي وغيره من الأجهزة وقد ينشأ عنه القلق والاضطراب أما إذا نقص إفرازها نشا عن ذلك ضعف عقلي وتباطؤ في الأعمال،أما الغدة النخامية فلإفرازاتها صلة وثيقة بالنمو الجسمي العام فإذا نقص إفرازها عند الطفولة أدى ذلك إلى القزامة،والعملقة وخشونة الجلد والنضج الجنسي المبكر إذا حدث العكس،أما الغدة الإندريانية فزيادة إفرازها تؤدي إلى تضخم خصائص الذكورة عند الرجال وتغلبها عند المرأة مما يؤدي إلى بروز علامات الذكورة عندها(الصوت الغليظ،بروز شعر اللحية...)،ولدى الطفل تؤدي إلى تكبير النضج الجنسي وأخيراً الجملة المسؤولة عن التحكم في كل نشاط الجسم وأي اضطراب في هذه الجملة يؤدي إلى الخلل في السلوك وعدم الاتزان في الشخصية وليس من الغريب إذا اتخذ القدماء التركيب الجسمي أساساً لسلوك الناس وطباعهم يقول أرسطوعن الأنوف أن الغليظة والدسمة والأطراف تدل على أشخاص باردي الأجسام ذوي ميول شهوانية،وإن الجادة مثل الكلاب تدل على الغضوبين السريعي الاهتياج،وأن المستديرة العريضة مثل الأسد تدل على أصحاب الشهامة وأن الرقيق المعقوفة مثل النسر تدل على النبلاء المختالين المترفين المتعجرفين).
على الرغم من كل هذه الحجج والبراهين التي ترجع الشخصية إلى الوراثة إلا أنه لا يمكننا أن نقر إقراراً مطلقاً بدورها في بناء الشخصية وهذا ما يؤكده الواقع وذلك لأن هناك اختلافات كبيرة في سلوك الأفراد رغم تشابههم من حيث النشأة البيئية مثل أفراد الأسرة الواحدة كذلك أن نشاط الغدد لا يتحدد بالوراثة وحدها بل يتأثر بالمواقف الانفعالية الحادة.
إن كل المحاولات التي قام بها جمهور الفلاسفة والعلماء والمفكرين أخفقت في الوقوف على النظرة الحقيقية للشخصية و قضية حصول الشخص عليها ذلك أنهم قاموا بتجزيء الوراثة عن العوامل البيئية والمجتمع في حين أن الأخيرين يستطيع الفرد أن يقومهما ويهذبهما عن طريق التربية،و يشهد على صحة ذلك تاريخ بعض الشخصيات البارزة وما سعت إليه،فلقد قيل قديما عن العالم الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه،كذلك نجد الدين الإسلامي سبّق دور التربية ويتجلى ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلمكل مولود يولد على الفطرة فأبوه إما يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه)،بالإضافة إلى عدم ناسي دور الوعي بمعنى الإرادة والعقل يقول غيوميغير اتزان الطبع ويخرج إلى الوجود قوى جديدة)،ولهذا لا نستطيع تسخير إمكانياتنا الملائمة إلاّ إذا سعينا وراء الشخص الذي نمثله.
وخلاصة القول أن اكتساب الشخصية لا يحدده مجرد التقاء المعطيات الفطرية بالشروط الثقافية وإنما يتوقف على الكيفية التي تستخدمهـا في التركيب وقد صدق من قال لا أحد يستطيع أن يكون ما يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع).
الطريقة:جدلية. الدرس: الشخصية2.
الإشكال:هل يستطيع الإنسان أن يكتسب الشخصية التي يتمثلها؟.
تعتبر الشخصية من مسائل علم النفس الأكثر تعقيداً بسبب تداخل عوامل بنائها التي نتج عنها اختلاف في وجهات النظر حول الأهمية التي يحظى بها كل واحد من تلك العوامل في تكوين الشخصية،وقد اختلف الفلاسفة في كيفية تكوين الشخصية لاختلاف مناهجهم فمنهم من قال أن الفرد يولد بكيان عضوي يحمل من الأسلاف صفات تظل تلازمه وهي سمات طبيعية وراثية ،ومنهم من قال أن الفرد يكتسبها من المجتمع ولكن رغم هذه الآراء ألا يمكن للفرد أن يكتسب الشخصية التي يتمثلها في ذهنه؟أم أنه هناك عوائق تحد من ذلك؟.
يرى بعض المفكرين من الاتجاه الحدسي والاتجاه العقلاني أن ما يكسبه الفرد من صفات نابع من إرادته ورغبته فهو يشكل شخصيته عن قراراته التي يتخذها بإرادته الحرة وهذا ما ذهب إليه الوجوديين وعلى رأسهم جون بول سارتر حين قال أنا أختار نفسي)،حيث يرى هذا الأخير أن الإنسان يولد ثم يختار مصيره ويعتمد في نظريته ـ الوجود سابق للجوهر أو الماهية ـ أو بمعنى أصح أن الكيان المادي للإنسان يوجد أولاً ثم يختار مصيره بنفسه [الإضافة إلى كل هذا فكل فرد تصوراته العقلية ولكل فرد ولكل فرد قدراته التي تجعله على اكتساب ما يريد من صفات فالعقل يتصور النموذج الذي الفرد إلى تحقيقه وبذلك يضع هويته كما يريد فبالإرادة نستطيع أن نخلق أن صنع المعجزات ونكتسب شخصيتنا الحقيقية رغم ما للشروط الطبيعية والاجتماعية من وزن،فليست طباعنا هي التي تحدد سلوكنا ومصيرنا وإنما يتوقف الأمر على درجة وعينا لإمكانياتنا وقوة أو ضعف عزائمنا وحق كما قيللا أحد يستطيع أن يكون ما يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع)،وقد شهد التاريخ البشري العديد من هذه النماذج البارزة وما سعت إليه لتحقيق وجودها فلقد قيل قديما عن العالم الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه، وحتى ينجح المرء في اكتساب شخصية عميقة بمعنى الكلمة بعيدة عن التقليد لابد قبل كل شيء أن تكون له رغبة في القيام بهذه المهمة وأن يؤمن من كل أعماقه بإمكانية تحقيقها فلقد قيلاثنان يصنعان العجائب رجل يريد ورجل يهوى)،ولابد أن يكون ذا دواعي لأن الدواعي تغير اتزان الطبع وتقر للوجود قوى بديلة.
إذن بالإرادة يستطيع الإنسان أن يصنع من نفسه ما يريد والنموذج الذي يجب،ولكننا لا نستطيع تسخير إمكانياتنا الملائمة إلا إذا سعينا وراء تحقيق الشخص الذي نتمثله.
إلاّ أن القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن هذه التصورات العقلية لا يكتسبها الفرد بعيدا عن المعطيات الاجتماعية والبيئية فالإرادة التي يتكلم عنها هؤلاء لا تخرج عن كونها إرادة جماعية خاصة بمعايير و أطر يفرضها المجتمع على أفراده ولكل خروج عن هذه الإرادة مآلة الفشل كما أن الفرد مرهون بمعطيات وراثية بالإضافة إلى كل هذا فإن دور القرارات الإرادية محدود أمام العوامل السالفة الذكر.
وعلى عكس الرأي الأول نجد المدرسة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان مرهون ومربوط بحتميات لا يمكنه الخروج عنها و باعتبار أن المجتمع هو المكان الوحيد لبروز الشخصية وتكاملها فإن الإنسان في نظرهم عجينة في يد المجتمع وفي هذا يقول هربرتالطفل صفحة بيضاء يكتب عليها المربي ما يشاء)، كذلك نجد الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن يكونه كما يشاء)،والشخصية لا تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج يقول ألبورت(لا يولد الطفل بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان بطبعه اجتماعي كما يقول بن خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي يقولإذا تكلم الضمير فينا فما هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر بالعادات والتقاليد والنظم و القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن الشعور بالذات يتكون بواسطة الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،ونجد من الفلاسفة من ذهب على شاكلة هذا الطرح ومن بينهم هالفاكس الذي يقولإن الشخصية هي حصيلة الحياة الاجتماعية)،و يقول سبينزاأعطني دما ولحما وعظما – جنينا-أعطيك ما تريد)،وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف فلو فصلنا توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن الثاني فالاختلاف سوف يكون كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي تبحث عن طريقة كل منهما في التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكها في الخصائص الوراثية،كذلك حالة إبراز المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض الخصائص النفسية مثل الشجاعة والكرم والبخل...
لا ريب أن للمجتمع فضلاً ودوراً بارزاً في تكوين الشخصية إلا أن متطلبات المجتمع لا تنسجم مع مقاصد الشخصية،فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع الاجتماعية ما هي إلاّ شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية مستعارة)،كذلك إن تأثير المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان فهو ليس عجينة أو كتلة عضوية حركية فهو يحمل عقلاً يسمح له أن يختار أو يتخذ من أنظمة المجتمع ما يتلاءم مع معه و يوافق تفكيره.
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين هو أنهما طرحتا مشكلة الشخصية على جانب واحد وذلك لاختلاف مناهجهم إلاّ أن شخصية الفرد لا يمكن أن تتكون إلاّ من جانب إنساني وذلك من خلال المجتمع بالإضافة إلى كل هذا فإن الإرادة تلعب دوراً بارزاً وأساسياً مع هذه التفاعلات لا يمكننا أن ننسى دور الجانب الفطري الوراثي الذي يطبع الشخصية بطابعه المميز.
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فإن الفرد يكتسب الشخصية السي يريدها وفي إطار الحتميات الحسية والنفسية والاجتماعية وبهذا يمكن للشخص أن يوجد الشخصية التي يتمثلها في ذهنه إذا لم تتعارض مع الواقع فقد صدق من قاللا أحد يستطيع أن يكون ما يريد لكنه لا يصنع إلا ما يريد).
بسم الله الرحمن الرحيم
الطريقة:جدلية. الدرس: الحرية والتحرر.
الإشكال: هل الإنســان حر؟.
إن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضا والتباساً فالشعوب تكافح من أجل حريتها والأفراد لا يتحملون أي حجز على حريتهم الشخصية ومما لاشك فيه أن الحرية هي من أقدم المشكلات الفلسفية وأعقدها فقد واجهت الباحثين من قديم الزمان وما زالت تواجههم إلى يومنا هذا فهي من أكثر المبادئ الفلسفية اتصالاً بنا بعد الطبيعة فضلاً عن صلتها بالأخلاق والسياسة والاجتماع وقد تناول العديد من الفلاسفة والمفكرين هذا المبحث فمنذ وعي الإنسان لنفسه سعى إلى تحقيق حريته بشتى الوسائل والطرق ولكن جمهور الفلاسفة اختلف في الإشكالية التالية:هل الإنسان حر أم أن هناك قيود وعوائق تقييد حريته؟.
يرى بعض الفلاسفة الذين يقرون بأن الإنسان حر وهم يستندون في هذا إلى عدة حجج أهمها الحجة النفسية و الذين يرون بأن الشعور بالحرية دليل كاف على إثباتها فمثلاً ويليام جيمس يرى أن الحرية هي قوام الوجود الإنساني الذي مراده الإدارة الحرة الفعالة فلا نشعر بحريتنا إلاّ ونحن قادرون فعلاً على الفعل والتأثير أما ديكارت فيقولإننا لا نختبر حرية إلاّ عن طريق شعورنا المباشر)،فهو يرى أننا ندرك الحرية بلا برهان وهو يقول في هذاإننا واثقون من حريقا لأننا ندركها إدراكاً مباشراً فلا نحتاج إلى برهان بل نحدسها حدساً)،بحيث يرى أن إحساس الإنسان الداخلي بالحرية *الواضح والمتميز* دليل كاف على ذلك ويقول لوسينكلما في نفسي عن القوة التي تقيدني كلما أشعر أنه ليست لي أية قوة عدا إرادتي ومن هنا أشعر شعورا واضحا بحريتي)،أما من الفرق الإسلامية التي تثبت ذلك فالمعتزلة يرون أن تجربة الشعور الداخلية كافية على أننا أحرار يقول الشهر الستانيالإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن)،ومعناه أن الأفعال التي يقوم بها إنما يمارسها بإرادته وحسب الظروف التي تلائمه بالإضافة إلى هذا نجد برغسون الذي يميز بين مستويين من الأنا فالأنا السطحي بالنسبة له يمثل ردود الفعل و الاستجابات العفوية والعادات التي يقوم بها الإنسان تحت تأثير العوامل الخارجية،أما الأنا العميق فهو مصدر الحرية الحقيقي الذي تشعر به عندما نلتزم بإرادتنا واختيار بعيد عن الحتميات لذا نجسد حريتنا بعيدا عندما نقف من أنفسنا مواقف نقد وتقييم واعية وبهذه الصورة الواعية تسمع صدى الحرية الهافت الذي يسري كديمومة مفصلة لا تتوقف،أما أصحاب الحجة الاجتماعية فهم يرون أن الحرية ممارسة فعلية تتجسد في الحياة الاجتماعية فالآخر هو سبب وجودها ويمكن أن يكون عائقا لها فبدون المجتمع لا يمكن أن توجد قوانين عادلة تحمي الحريات الفردية فتصبح الحرية مسؤولية لذا فإن كل المجتمعات تعاقب أفرادها عند مخالفة قوانينها ولا تعاقب الأفعال التي لا قدرة لهم عليها وهذا يعني قدرة الإنسان على الاختيار و بهذا يمكن التكلم عن شخصية بدون مقومات اجتماعية ولا الحديث عن حرية الإنسان المغترب يقول مونيكوالحرية الفعل وفق ما تجيزه القوانين الاجتماعية)،فبدون المجتمع لا يمكن أن نتحدث عن المسؤولية بدون حرية الاختيار،أما أصحاب الحجة الأخلاقية فهي حسب كانط أساس تأسيس أو تحديد الأخلاق فالواجب الأخلاقي يتطلب قدرة للقيام به يقول كانطإذا كان يجب عليك فأنت تستطيع)،ويقولإن إرادة الكائن العاقل لا يمكن أن تكون إرادته إلا تحت فكر الحرية)،أما أصحاب الحجة الميتافيزيقية فروادها المعتزلة وهم يرون أن الإنسان حر ويوردون حججاً من القرآن الكريم تنسب إلى الإنسان حريته في اختيار أفعاله يقول الله تعالىفمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)،وقوله تعالىفمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)،فهو بذلك أو ذاك حر مخير،واعتمدوا أيضاً على مبدأ التكيف يقول الله تعالىلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها)،فالتكيف يكون هنا سفها إذا كان(اعمل يا من لا قدرة له على العمل)،ولكن بصيغة(اعمل يا من تستطيع أن تعمل)،وبالتالي إمكانية صدور الفعل أو عدمه فهو الاختيار وما يبرز هذا هو الثواب والعقاب والجنة والنار فالله لا يحاسبنا على الأفعال التي لا نكون مسئولين عنها يقول تعالىوما ربك بظلام للعبيد)،ولا معنى للثواب وللعقاب إذا كان المرء مجبراً مكرهاً.
لكن رغم هذه الأدلة والبراهين لم يصمد هذا الرأي للنقد ذلك أنه ما من شك غير كاف كذلك أنه يمكن أن يكون وهما وخداعا لأننا نقوم بأعمال معينة مع شعورنا بحريتنا إلاّ أننا مقيدون بعدة أسباب كذلك أن البرهان الاجتماعي نائم على الشعور بالحرية أثناء عقد القوانين وقيام الأنظمة الاجتماعية فالشعور يكفي للتدليل بها فهو يثبتها كما يثبت الحتمية ولا معنى للقانون والنظام ما لم يعمل به أصحابه وشروطه،أما أصحاب الحجة الأخلاقية فهي قائمة على التسليم بالحرية حتى لا تتهدم وفكرة التسليم لا تكفي للبرهنة عليها لأننا نستطيع التسليم بعدم وجودها كما سلمنا بوجودها أما بحث المعتزلة فقد باء منصبا أكثر على الإنسان المثالي المجرد المتصور عقلاً لذلك وضع الحرية في زمن الفعل في حين أن مشكلة حرية الإنسان الواقعي ومطروحة على مستوى الفعل و مواقف الحياة التي تواجهها واعتمادهم على آيات هذا صحيح.
وعلى عكس الرأي السابق نجد من ينفي الحرية فهم يعتبرون الحرية وهماً لا يمكن تحقيقه وإن وجدت فوجودها ميتافيزيقي لا علاقة له بحياة الأفراد وذاك لما يقيدهم من حتميات داخلية وخارجية،فأصحاب الحتمية النفسية ومن بينهم المدرسة السلوكية الأمريكية وعلى رأسها والن يرون أن السلوك عبارة عن الاستجابات التي تتحكم فيها منبهات داخلية وخارجية كالرغبات والميولات والدوافع الفطرية والعوامل الخارجية التي تشكل مصدراً هاماً لأفعالنا،أما مدرسة التحليل النفسي فتفسر السلوك بدوافع لا شعورية أساسها الكبت يقول نتشهإن إرادة تجاوز ميل ما ليست إلا إرادة آدميون أخرى)،ويقول أحد الفلاسفةكل قرار هو مأساة تتضمن التضحية برغبة على مدرج رغبة أخرى)،أما أصحاب الحتمية البيولوجية ونقصد به مبدأ العلمية القائل انه إذا توفرت نفس الأسباب فستؤدي إلى نفس النتائج ومن ثم توسيع هذا المبدأ على الإنسان باعتباره جزءا من الطبيعة فهو حامل منذ ولادته لمعطيات وراثية وخصائص ثابتة والطبع في رأيهم تحديد فطري و البنية البيولوجية تنمو وتتكامل حسب قانون معين فهو يخضع لجملة من القوانين حيث نجد الروانيون وكذلك بيسنوزا الذي يقولإن الحرية لا تكون إلا حيث نكون مقيدين لا بعامل القوى والضغوط ولكن بعوامل الدوافع والمبررات العقلية...وعندما نجهل دوافع تصرفنا فنحن على يقين بأننا لم نتصرف تصرفا حراً)،أما أصحاب الحتمية الاجتماعية فهم يؤكدون أن الإنسان مجرد فرد يخضع للجماعة كالعجينة يشكله المجتمع كما يريد وذلك عن طريق التربية والتعليم والتجارب الاجتماعية فلا وجود للحرية الفردية داخل الحتميات الاجتماعية *ثقافية،اقتصادية* والتي لا يمكنه أن يغير فيها مهما حاول ذلك يقول بن خلدونالناس على دين ملوكهم)،ويقول دوركايمإذا تكلم الضمير فما هو إلا صدى المجتمع)،ويقول أيضاًلست مجبراً على استخدام اللغة الفرنسية لكن لا أستطيع التكلم إلا بها ولو حاولت التخلص من هذه الضرورة لباءت محاولتي بالفشل)،أما أصحاب الحجة الميتافيزيقية فنسبهم إلى جهم بن صفوانلا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ لله وحده وإنه هو الفاعل و أن الناس دائماً تنسب إليهم أعمالهم على المجاز كان يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما يفعل ذلك بالشجرة والشمس و الفلك الله سبحانه وتعالى)،ويقول أيضاًلا قدرة للعبد أصلاً لا مؤثرة ولا كابسة بل هو بمنزلة الجماد فيما يوجد منها)، إن هذا الرأي عندهم مبني على أصل عقائدي هو أن الله مطلق القدرة خلق العبد وأفعاله هو يعلمها قبل صدورها من العبد بعلمه المطلق ،بالإضافة إلى هذا نجد لايبنتز الذي يرى أن الإنسان عبارة عن جوهر روماني سماه المنادة يستمد كل مقوماته من ذاته التي أعدت بكيفية آلية مسبقة مثل الساعة،ولما كان الخير والشر مقدر على الإنسان في طبيعته تركيب روحي فهل بقي ما نسميه اختيار يقول لايبنتزالله مصدر جميع أفعال الإنسان بخيرها وشرها وكل شيء مسطر في سجل الكون الأبدي)،أما أنصار الحتمية الطبيعية فقد اعتبروا أن سلوك الإنسان متدرج فمن سلسلة الحوادث الطبيعية كونه كائن حي كبقية الكائنات الحية وعلى أساس أن الظواهر الطبيعية تخضع لقوانين وحتميات فيزيائية وكيميائية وتؤدي في نفس الوقت إلى نفس النتائج فسلوك الإنسان باعتباره جزءاً منها يخضع لهذه الحتمية حيث يرى بيسنوزا أن الشعور بالحرية ليس وهماً راجع إلى جهلنا بالحتميات كالحجر الساقط يتوهم أنه حر لو كان له شعور لكنه في الواقع خاضع لقانون الجاذبية يقول بيسنوزاإن الناس يخدعون أنفسهم بأنهم أحرار لكنهم في الحقيقة يحملون الأسباب الحقيقية التي تحدد سلوكهم)،ويرى البعض أن فعل الإنسان ليس تعبيراً عن الباحث الأقوى يقول لايبنتزالإرادة إذ نختار تميل مع إحدى القوى أو البواعث أثر في النفس كما تميل إبرة الميزان إلى جهة الثقل).
إن هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد فبالنسبة للحتمية النفسية فإن الإنسان ليس مجرد حزمة من الغرائز والدوافع فهو قادر على التحكم فيها كما هو ملاحظ في الواقع وبإمكانه تنظيمها وفق نتائج مرغوبة ومقصودة وبدون هذه الرغبات والعادات يصبح لا معنى لأفعالنا فالحرية رغبة وميل ينبثق من كل إنسان أما الحتمية البيولوجية فالإنسان ليس جسما ولا شيئاً من أشياء الطبيعة ولا يرجع سلوكاته إلى التغيرات الفيزيولوجية وحدها فهو قادر على التحكم في سلوكه وطبعه ولا يمكن التنبؤ بمستقبل سلوكه أما بالنسبة للحتمية الاجتماعية فالإنسان ليس مجرد عجينة في يد المجتمع فهناك مجالات واسعة بوجودها المجتمع الفرد كي يتمكن من الاختيار الحر لحرية مضمونة في القوانين الاجتماعية ولا قيمة لها خارج المجتمع ونلاحظ أن بعض العلماء والزعماء من أثروا في المجتمع ودفعوه إلى التغيير وليس العكس،أما بالنسبة للحتمية الميتافيزيقية فإن دعواهم أمر مظلل فهي أساس دعوة للكسل والخمول مع وظيفة الإنسان في الكون فهو مخير لا مسير وهذا استناداً لقوله تعالىلا يغير الله ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم)،أما الحتمية الطبيعية فإن علاقة الإنسان بالطبيعة ليست علاقة تبعية بل بالعكس علاقة جدلية يؤثر فيها ويتأثر بها ويتخذ فيها الأسباب الأساسية لحياته ومن إمكانياتها مصدر تنافس وتفاوت بينه وبين الأفراد كذلك أن الفعل الحر لا ينفي السببية لأنه هو نفسه معول بعلة الإنسان.
إن هذه الآراء وجميع الحجج والأدلة المعتمدة لنفي الحرية باسم الحتمية أو إثبات الحرية عن طريق ما نعيشه أو على أساس قوى مفارقة للطبيعة لا يمكن أن تكون كافية، ذلك أن الحتمية لا تنفي الحرية إلاّ ظاهرياً أما جوهرها فهو أساس الحرية وشرط من شروط الحرية الحقة وفي هذا يقول أحد الفلاسفةلا علم بلا حتمية ولا حرية بدون علم إذن لا حرية بدون حتمية)،فلا تحرر إلاّ بمعرفة الحتميات والعراقيل وفي هذا يقول مونيإن كل حتمية جديدة يكتشفها العالم تعد نوطة تزداد إلى سلم أنغام حريتنا).
وخلاصة القول فإننا نصل إلى نتيجة هي أنه لا يوجد تعارض بين الحرية والحتمية فلولا وجود هذه الحتميات ما كان للحرية معنى لما ثقفه الإنسان عبر التاريخ لنفسه وبني جنسه فالحتمية أساس وشرط ضروري لتحقيق الحرية.
الطريقة:جدلية. الدرس:الحرية والتحرر.
الإشكال:هل الحرية حالة شعورية أم هي عمل التحرر؟.
يرى بعض المفكرين أن الحرية هي تجاوز أي إكراه داخلي أو خارجي،داخلي يتمثل في الرغبات والشهوات والميول والحاجات النفسية البيولوجية وخارجي يتمثل في الحتميات الطبيعية والاجتماعية لذا نتساءل هل يكفي المرء أن يشعر أنه حر ليكون حراً حقاً أم أن الحرية ممارسة وفعل في الواقع اليومي؟.
بالنسبة لبعض الفلاسفة إن تجربتنا الشعورية الداخلية دليل كاف على أننا أحرار ففي رأي المعتزلة(أن الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن)،ومعناه أن الأفعال التي يقوم بها إنما يمارسها بإرادته الحرة حسب الظروف التي تلامسه وفي هذا يقول ديكارتإننا واثقون من حريتنا لأننا ندركها إدراكا مباشراً بل نحدسها حدساً)،حيث يرى أن إحساس الإنسان الداخلي بالحرية ـ الواضحة والمتميزة ـ دليل كاف على حريته يقول لوسينكلما أبحث في نفسي عن القوة التي تقيدني كلما أشعر أنه ليست لدي أية قوة غير إرادتي ومن هنا أشعر شعوراً واضحاً بحريتي)،ولكن مثل هذا القول لا يمكن أن يصمد للنقد ذلك أن الإرادة من الناحية الفلسفية باعتبارها العلة الأولى قوة سحرية والأخذ بها فيه كثير من المبالغة كذلك أن الشعور وحده يمكن أن يكون وهما خداعا لأننا نجهل الحتميات التي نخضع لها خضوعا داخليا أو خارجيا سواء كانت نفسية أو طبيعية أو اجتماعية وهذا تكفل بسيادة عدد كبير من المفكرين في العصر الحديث.
لقد حاول بعض الفلاسفة من الذين أدركوا المشكلة أن يزيحوا النقاب عن سر اللغز فالرواقيون يرون أن العالم يخضع لقوانين ثابتة أي أنه يسير حتما بمقتضى العلة والمعلول،وأن الكائن الإنساني الموجود في هذا العالم ليس حر لأنه لا يمكن أن يكون حراً بالإرادة في عالم مجبر غير أن الإنسان ذو طبيعة عاقلة و إذا أراد التحرر والسعادة فلا بد أن يعيش على وفاق الطبيعة بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان أي على وفاق مع قانون الطبيعة الذي يسيّر العالم ويعيش حسب طبيعته العاقلة فيسير المرء في حدود ما يرشد إليه العقل خاضعا لقوانين الكون المعقول فالقضية هي قضية حرب بين العقل والشهوات فينتصر العقل إذن الحرية ليست معطى أولي ولا فضل من الطبيعة إنها تكتسب على ضوء ما تملي به الطبيعة الإنسانية الحقيقية وتحررنا يقاس بضعف أو قوة أعمالنا وإنجازاتنا و مجهوداتنا المبذولة فلا بد من قبول الضرورة إذن،كما تقبل الأسطوانة الدوران وفي نفس الاتجاه يرى سبينوزا أن أفعال الإنسان مجرد ظواهر آلية إذن فهو ليس حراً ولكن ليس معنى ذلك أن فيلسوفنا يلغي الحرية وإنما يرى الحجة في قبول النظام الرياضي للكون والقوانين العقلية المسيرة للحوادث فكلما ازداد العقل علما كما يقول ازداد فهما لقوانين النظام الطبيعية وهو يقرر هنا أن العقل يجب أن يضع قانونا ينظم رغبات الإنسان المتنافرة وبهذا يمكنه التحكم في مستقبله وتحرير نفسه من أغلال العواطف العمياء وإذا أراد الفرد أن يكون كاملاً لا ينبغي أن يتحرر من قيود المجتمع ونظامه لأن سموّ المرء إنما هو في التحرر من ضرورة الغرائز وعليه أن يتقبل القوانين الطبيعية والإلهية بسرور لأن الإنسان الذي يرى الأشياء تسير وفقا لنواميس الله لن يستاء أو يتذمر مع أنه قد يقاوم وذلك فإنه يرتفع من لذات الأهواء إلى صفاء الفكر والعقل وفي هذا يقول نتشهإن الأمر الضروري لا يضرني لأن حب القدرة نواة طبيعي)،ولكن لأغلب الناس لم يدركوا الضرورة ولذلك وجد عبر التاريخ السيد والمسود وإذا أراد الإنسان التحرر من هذه الجدلية فلا بد أن يقدم على اكتشاف القوانين الموضوعية لتطور الطبيعة والمجتمع والفكر،وبهذا نتمكن من تحويل العالم تحويلاً ثورياً بدلاً من تأمله،فلا بد أن يعمل قبل كل شيء على إسقاط الرأسمالية وعلى قيام المجتمع بدون طبقات لذلك قال ماركسإن الفلاسفة لم يعملوا لحد الآن إلاّ على تفسير العالم في حين حان وقت تغيره)، والتحرر الذي يسمح ببناء الإنسانية يعتبر إحدى الغايات التي ينشدها الشخصانيون وتعد فلسفتهم نداء لجميع الناس من أجل بناء نهضة جديدة حيث تزدهر القيم والمثل العليا ولا يتسنى ذلك إلاّ بالقضاء على كل الحواجز موضوعية كانت أو ذاتية لابد مثلا أن يتحرر من شهواته العمياء ويتجاوز الميول البيولوجية المغلقة ثم يتحرر من ضرورة الطبيعة بوسائل العلم وفي هذا يقول مونيإن كل حتمية جديدة يكتشفها العالم تعد نوطة تزداد إلى سلم أنغام حريتنا)،وكذلك نجد باكونين يقول لست حرا إلا يوم تكون الكائنات التي تحيط بي رجالا ونساء وأطفالا حرة أيضا فأنا لا أصير حرا إلا بحرية الآخرين)،وقد لاحظ الشخصانيون أن إنسانية البرجوازية مؤسسة بالدرجة الأولى على انفصال الفكر عن المادة أو إبعاد الفكر عن العمل.
وتقويما لهذا الموقف يمكن القول على وجه الخصوص أنه لا يجب أن ننكر الأهداف السامية التي ترمي إليها الماركسية والشخصانية وروح العدالة،فماركس يدعو لتغيير العالم وتغييره وتحويله تحويلا ثوريا إلا أن التاريخ يخضع لحتمية مطلقة وفي نظره أن المجتمع الشيوعي هو الذي سيغير التاريخ و بالتالي إنكاره كل محاولة أو مبادرة حرة،أما الشخصانيون رغم أنهم اعتبروا الحرية جهدا فرديا مستمرا إلا أن ندائهم يبقى نداءا مثالياً كذلك أن ربط الحرية بالتحرر قد يجعل المرء يتجاوز الكثير من الحدود ظنا منه أنه يتحرر فتنقلب أفعاله إلى نوع من الفوضى قد يشكل خطرا عليه وعلى من حوله لذا لابد من الوعي الدقيق.
وأخيرا فالحرية ليست مجرد شعور نفسي بل هي عمل مستمر للتحرر يتجلى كلما برزت أمام المرء العوائق والحواجز التي تجعله يبذل جهودا ملائمة لتجاوزها فيتحرر من ضغوطها وبهذا فليست الحرية شيئا جاهزا نجده أو نقتنيه بل هي ممارسة يومية على المستوى النفسي والاجتماعي والفيزيائي وقد صدق من قالينال المرء دائما الحرية التي هو أهل لها والتي هو قادر عليها).
الطريقة:جدلية. الدرس:المسؤولية والجزاء.
الإشكال:هل العقاب وحده كاف لتقويم سلوك الإنسان والحد من الجريمة؟
تعد المسئولية قبل كل شيء إنسانية إذ لا يعقل أن يتحمل غير الإنسان أي مسئولية لذلك لم ينحصر النظر فيها في دائرة الفلاسفة وحدهم بل شاركهم في ذلك ذوي الاختصاص من علماء النفس و الاجتماع و رجال القانون و المنشغلين بعلم الإجرام , و منشأ هذا الاهتمام علاقة المسئولية بالجزاء و أثر هذا الأخير في نفوس الأفراد و في تحقيق التنظيم الاجتماعي و من هنا فقد اختلف جمهور الفلاسفة في إبراز دور العقوبة و مدى تنظيمها لسلوك الأفراد و من هنا يتبادر إلى أذهاننا الإشكال التاليهل العقاب أسلوب ناجع في تنظيم المجتمع ؟ أو بعبارة أصح هل العقوبة تحد من الجريمة و تقوم سلوك الأفراد ؟
يرى أنصار النزعة العقلية أن الجزاء ضروري لتقويم سلوك الفرد لأن هذا الأخير حر و عاقل و بإمكانه الاختيار و اختياره لفعل ما تنتج عنه مسئوليته فهو مسئول باختياره و بهذا الصدد يرى أفلاطون في الكتاب العاشر من جمهوريته في صورة أسطورة فحواها
أن (آر) الجندي الذي قتل في ساحة الشرف يعود إلى الحياة من جديد بصورة لا تخلو من المعجزات فيروي لأصدقائه الأشياء التي تمكن من رؤيتها في الجحيم حيث أن الأموات يطالبون بأن يختاروا
ء و هم المسئولون عن اختيارهم الحر) و في نفس التيار يرى كانط بأن صاحب السوء هو الذي يكون قد اختار بكل حرية تصرفه منذ الأزل بقطع النظر عن الزمن و الطباع فشرور الفاشية في العالم إنما هي نتيجة حرية اختيار يقول كانطإن الشرير يختار فعله بإرادته بعيدا عن تأثير الأسباب و البواعث فهو بحريته مسئول ويجب أن يجاز على أفعاله) ولقد أخذ الوجوديون بموقف مماثل إذ أن وجود الإنسان في رأيهم سابق لماهيته أي أن الفرد يولد أولا ويكون ما يريد بعد ذلك ما يريد وقد نضرت الديانات السماوية في إشكالية العقاب و من بينها الإسلام الذي مثلته فرقة المعتزلة التي تؤكد على قدرة خلق الإنسان لأفعاله لأنه قادر بعقله على التمييز بين الخير و الشر و بالتالي هو مكلف و مسئول عن أفعاله وترى هذه النظرية بدورها أن الغرض من الجزاء و العقاب عن فعل ما ليس تحقيق منفعة للمجتمع أو بتقليل عدد المجرمين بقدر ما هو التكفير عن الذنب الذي لوث به المجرم قيمة العدل و عكر صفوها و هو أيضا تطهير للنفس من الدنس الذي لحق بها نتيجة الأفعال السيئة و في هذا يقول لايبنتزهناك من العدالة ليس غرضه إصلاح الشعور و إنما التكفير عن الفعل السيئ)،ويقول كذلك مالبرانشإن الذي يريد من الله أن لا يعاقب الظالم لا يحب الله) وفي هذا الصدد نذكر المرأة التي جاءت إلى رسول الله (ص) قائلةيا رسول الله إني زنيت فطهرني و إني أريد أن ألقى الله و أنا طاهرة بريئة من ذنبي) وهي تقصد هنا أن يطهرها بإقامة الحد عليها (الرجم) العقاب هنا هو نتيجة للماضي لا إلى ما عسى أن يحدث في المستقبل ونجد أن هذه النزعة تدعو إلى وجود قوانين وعقوبات صارمة تجزر المجرم حتى لا يكرر فعلته في المجتمع بالإضافة إلى إقرار الديانات السماوية بتنفيذ العقوبة بشكل علني وقد انتشرت هذه الفكرة في المجتمعات البدائية و المعاصرة فهي إذا مطلب حضاري .
بالرغم من كل هذه الحجج و الأدلة إلا أن هذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن حرية الفرد تخضع لبعض الحتميات كذلك أنها اعتبرت المسئولية فردية بطبيعتها و هذا ليس صحيحا لأن الأبحاث الاجتماعية أكدت أن المسئولية بدأت جماعية ثم تحولت إلى فردية بعد تطور طويل في حياة البشر الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية فالفرد قديما كان ذائبا في قبيلته و حين يقوم بفعل شيء ضد قبيلة أخرى لا يعاقب وحده بل تعاقب القبيلة أما الآن فالعقاب فردي يسلط على الفاعل مباشرة كذلك أنها تربط الجزاء بالماضي و هذا لا يؤكد إلا نصف الحقيقة فالجزاء لا بد أن يكون موجها أيضا للمستقبل لحماية المجتمع كذلك أن هذه النظرية تتجاهل الدوافع و الأسباب التي تحد من تصرفاتنا و مسئولياتنا و في هذا يقول لاشونهيإن الفعل الذي يحدث عن حرية مطلقة يعد فعلا مستقلا عن أي أسلوب فطري أو مكتسب و على هذا يعد غريبا عن كل ما يؤلف طبعنا الشخصي و ليس لنا أي مبرر لننسبه إلينا أو لنعتبر أنفسنا مسئولين عنه) كذلك غيو يقولهل نحن نمحي السيئات التي ارتكبها المذنب بتعذيبه؟ إنما ما حدث قد حدث!! )
و على عكس الرأي السابق نجد أنصار النزعة الوضعية الذين يرون بأنه لا يمكننا معاقبة المجرم لأن العقوبة في نظرهم وسيلة تقليدية غير مناسبة فالإجرام حسبهم فعل لا يتعلق بالإرادة بل ينشأ آليا إما بتأثير العوامل الوراثية أو الاجتماعية أو النفسية و أبرز رواد هذه النزعة الإيطالي لومبروزوا و مواطنه فيري و عالم النفس النمساوي فرويد ؛ أما لومبروزوا فيرى أن الإجرام له علاقة بصفات المجرم الوراثية و يقدم إحصائيات لأسر معظم أفرادها من مجرمي المافيا و يعدد تلامذته (50)خمسين مطلوبا للعدالة في أسرة الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون و لومبروزوا يصنف المجرمين إلى أصناف هي كالتالي:مجرمين بالفطرة>بالطبع<, مجرمين مجانين ,مجرمين بالعادة , مجرمين بالعاطفة,و هؤلاء يستهويهم الإجرام,و مجرمين بالمصادفة و يؤكد لومبروزوا أن كل هذه الأصناف قابلة للإصلاح ما عدى الأول الذي يجب مساعدته على الفناء و لو كان طفلا لأن في إفنائه وقاية للمجتمع,أما فيري متأثر بأوغست كونت في العلوم الاجتماعية يرى أن الإنسان لا يولد مجرما و لكن تصنع منه ظروف بيئته الاجتماعية الفاسدة مجرما و لقد أثبت أن العوامل الاجتماعية هي التي تلعب الدور الأساسي في ظهور السلوك الإجرامي و في رأيه أن الإجرام نتيجة حتمية لمجموعة من المؤثرات لا بد عند توفرها من وقوع السلوك الإجرامي , و أخيرا نجد عالم التحليل النفسي فرويد الذي يرى أن بعض السلوكات الإجرامية مردها إلى قوى لا شعورية تتمثل في بعض الدوافع و الميول و الذكريات المكبوتة في لا شعور الإنسان منذ أيام الطفولة فيمكن أن نفسر مثلا السرقة كمحاولة لاسترجاع ما أخذ من الشخص في الماضي , كما يمكن تفسير الخروج عن القانون و مختلف أشكال التمرد و الثورة كثورة الطفل ضد الأب الذي يمثل السلطة عند الطفل أي أنه شكل من أشكال إرضاء الغريزة العدوانية التي استحال تصعيدها و من هنا رصده سلطة الأب القاهرة التي تمنعه من إشباع رغباته كلها و بهذا الصدد يقدمون كذلك إحصائيات لعدد كبير من المجرمين المتخلفين عقليا و المرضى نفسيا و قد دعا هؤلاء إلى ضرورة إصلاح الفرد لا معاقبته و مساعدته على الاندماج في المجتمع,و إلى ضرورة التخلص من المجرمين غير القابلين للإصلاح و الجزاء عندهم هو وقاية للمجتمع من تكرار أفعال الإجرام وهذا يتطلب إصلاح المجرم .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أنهم يرفعون المسئولية عن الفرد ذلك أنه خاضع لعوامل و دوافع أخرى و قي ذلك تشجيع للإجرام,أما بالنسبة للومبروزوا الذي يرى أن للجريمة صبغ خاص بها و هذا أمر لم يثبته العلم بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون العمل الإصلاحي مكملا للعقوبة لا بديلا لها كذلك أن الملاحظة البسيطة تؤكد أنه ليس كل المرضى النفسيين مجرمين بل أن معظمهم مسالمين و إنطوائيين .
ما من إنسان على وجه المعمورة إلا و له عيوب و مساوئ و ما من مجتمع إلا و يعاني ظواهر الشذوذ و الانحراف و في كل الأحوال ما دمنا نعاقب فإننا نعترف بحرية المجرم و بالتالي مسئوليته عن أفعاله و عليه يجب أن يكون الألم الناتج عن العقاب أكبر من اللذة الحاصلة بالجريمة حتى لا يعود إليها في المستقبل و ليس الغرض من العقاب هو الانتقام من المجرم بل ردعه و المحافظة على أمن و سلامة المجتمع , يقول عز وجلو لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) و إذا رأينا في الموقفين السابقين بعض العيوب و النقائص فالموقف الإسلامي يبقى هو الأمثل حيث يحافظ على نقاء النفس و طهارتها و ضمان أمن المجتمع و سلامته دون أن ينسى ظروف الفاعل و ألا يهمل الفعل ذاته.
و هكذا يمكننا أن نستنتج أن العقاب لا يكون وحده دائما هو العلاج الأمثل لأمراض النفوس و عللها إنما يجب النظر في وسائل الوقاية و هذا لا يكون إلا بتوفير كل الشروط الصالحة لتكوين الفرد فبالقضاء على البطالة و أسباب الظلم و الجهل و التخلف نقضي على مصدر الجريمة و بالتالي يصبح المجتمع الإنساني فاضلا لا يحتاج لا لقضاء أو قضاة و هذا ما حدث بالفعل في الدولة الإسلامية الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب يقدم استقالته من منصب القضاء في عهد الصديق قائلايا أمير المؤمنين ...لي عامين في سدة القضاء و لم يتقدم إلي متخاصمين ).
يقول عباس محمود العقادلا يكفي أن تكون في النور لكي ترى بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه )